اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{قُمِ ٱلَّيۡلَ إِلَّا قَلِيلٗا} (2)

قوله : { قُمِ الليل } . العامة : على كسر الميم لالتقاء الساكنين .

وأبو السمال{[58269]} : بضمها ، إتباعاً لحركة القاف .

وقرئ{[58270]} : بفتحها طلباً للخفة .

قال أبو الفتح : الغرض : الهرب من التقاء الساكنين ، فبأيِّ حركة تحرك الأول حصل الغرض .

قال شهاب الدين{[58271]} : " إلا أن الأصل : الكسر ، لدليل ذكره النحويون ، و «الليل » ظرف للقيام وإن استغرقه الحدث الواقع فيه ، هذا قول البصريين ، وأما الكوفيون فيجعلون هذا النوع مفعولاً به " .

قال القرطبي{[58272]} : " وهو من الأفعال القاصرة الغير متعدية إلى مفعول ، فأما ظرف المكان والزمان فسائغ فيه ، إلا أن ظرف المكان لا يتعدى إليه إلا بواسطة ، لا تقول : «قمت الدار » حتى تقول : «قُمْتُ وسَط الدَّارِ ، وخارج الدارِ » ، وقد قيل هنا : إن «قم » معناه : صل ، عبر به هنا واستعير له حتى صار عرفاً بكثرة الاستعمال " .

فصل في حد الليل

الليل : حده من غروب الشمس إلى طلوع الفجر وقد تقدم بيانه في البقرة .

قال القرطبيُّ{[58273]} : " واختلف هل كان قيامه فرضاً أو نفلاً ؟ والدلائل تقوي أن قيامه كان فرضاً لأن الندب لا يقع على بعض الليل دون بعض لأن قيامه ليس مخصوصاً بوقت دون وقتٍ " .

واختلف هل كان فرضاً على النبي صلى الله عليه وسلم وحده ، أو عليه وعلى من كان قبله من الأنبياء ، أو عليه وعلى أمته ، ثلاثة أقوالٍ :

الأول : قول سعيد بن جبيرٍ لتوجه الخطاب إليه .

الثاني : قول ابن عباسٍ ، قال : كان قيامُ الليل فريضة على النبي صلى الله عليه وسلم والأنبياء قبله .

الثالث : قول عائشة وابن عباس أيضاً وهو الصحيح أنه كان فرضاً عليه وعلى أمته ، لما روى «مسلم » : «أن سعد بن هشام بن عامر قال لعائشة رضي الله عنها : أنبئيني عن قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : ألست تقرأ : { يا أيها المزمل } قلت : بلى ، قالت : فإن الله - عز وجل - افترض قيام الليل في أول هذه السورة ، فقام النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه حولاً ، وأمسك الله - عز وجل - خاتمتها اثني عشر شهراً في السماء ، حتى أنزل الله - عز وجل - في آخر السورة التخفيف ، فصار قيام الليل تطوعاً بعد أن كان فريضة »{[58274]} .

وروى وكيع ، ويعلى ابن عباس قال : لما نزلت : { يا أيها المزمل } كانوا يقومون نحواً من قيامهم في شهر رمضان حتى نزل آخرها ، وكان بين نزول أولها وآخرها نحو من سنة{[58275]} .

وقال سعيد بن جبير : مكث النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه عشر سنين يقومون الليل ، فنزلت بعد عشر سنين { إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أدنى مِن ثُلُثَيِ الليل وَنِصْفَهُ }[ المزمل : 20 ] فخفف الله عنهم{[58276]} .

وقيل : كان قيام الليل واجباً ، ثم نسخ بالصلوات الخمس .

وقيل : عسر عليهم تمييز القدر الواجب فقاموا الليل كلَّه فشق ذلك عليهم فنسخ بقوله في آخرها { فاقرءوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ القرآن } وكان بين الوجوب ونسخه سنة .

وقيل : نسخ التقدير بمكة وبقي التهجد ، حتى نسخ بالمدينة .

وقيل : لم يجب التهجد قط لقوله { وَمِنَ الليل فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ }[ الإسراء : 79 ] ، ولأنه لو وجب عليه صلى الله عليه وسلم لوجب على أمته لقوله تعالى { فاتبعوه }[ الأعراف : 158 ] ، والنسخ على خلاف الأصل ، ولأنه فرض تعيين المقدار أي المكلف وذلك ينافي الوجوب .


[58269]:ينظر: المحرر الوجيز 5/387، والبحر المحيط 8/353، والدر المصون 6/401.
[58270]:ينظر: الكشاف 4/636، والبحر المحيط 8/353، والدر المصون 6/401.
[58271]:الدر المصون 6/401.
[58272]:الجامع لأحكام القرآن 19/23.
[58273]:السابق 19/24.
[58274]:أخرجه مسلم (1/252-513) صلاة المسافرين: باب جامع صلاة الليل حديث رقم (139/746).
[58275]:أخرجه الحاكم (2/505) من طريق داود بن أبي هند عن عكرمة عن ابن عباس وقال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (6/441) وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن أبي حاتم وابن نصر والطبراني. وقد أخرجه أبو داود (1/146) كتاب الصلاة: باب: نسخ قيام الليل والتيسير فيه حديث (1305) من طريق سماك الحنفي عن ابن عباس بنحوه.
[58276]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (12/279) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (6/441) وزاد نسبته إلى عبد بن حميد وابن أبي حاتم.