السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{قُمِ ٱلَّيۡلَ إِلَّا قَلِيلٗا} (2)

{ قم الليل } أي : الذي هو وقت الخلوة والخفية والستر ، فصل لنا في كل ليلة من هذا الجنس ، وقف بين يدينا بالمناجاة والأنس بما أنزل عليك من كلامنا ، فإنا نريد إظهارك وإعلاء قدرك في البرّ والبحر والسرّ والجهر ، وقيام الليل في الشرع معناه الصلاة فلذا لم يقيده وهي جامعة لأنواع الأعمال الظاهرة والباطنة وهي عمادها فذكرها دال على ما عداها .

ولما كان للبدن حظ في الراحة قال تعالى مستثنياً من الليل { إلا قليلاً } أي : من كل ليلة ، فإن الاشتغال بالنوم فعل من لا يهمه أمر ولا يعنيه شأن ألا ترى إلى قول ذي الرمة :

وكائن تخطت ناقتي من مفازة *** ومن نائم عن نيلها متزمل

يريد الكسلان المتقاعس الذي لا ينهض في معاظم الأمور وكفايات الخطوب ولا يحمل نفسه المشاق والمتاعب ونحوه .

سهداً إذا ما نام ليل الهوجل ***

ومن أمثالهم :

أوردها سعد وسعد مشتمل *** ما هكذا تورد يا سعد الإبل

فذمه بالاشتمال بكسائه وجعل ذلك خلاف الجلد والكيس ، وأمر بأن يختار على الهجود التجهد ، وعلى التزمل التشمر والتخفف للعبادة والمجاهدة في الله لا جرم أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تشمر لذلك مع أصحابه حق التشمر وأقبلوا على إحياء ليلهم ورفضوا له الرقاد والدعة ، وتجاهدوا فيه حتى انتفخت أقدامهم واصفرّت ألوانهم وظهرت السيما في وجوههم وتراقى أمرهم إلى حدّ رحمهم له ربهم فخفف عنهم ، وقال الكلبي : إنما تزمّل صلى الله عليه وسلم بثيابه ليتهيأ للصلاة وهو اختيار الفرّاء فهو على هذا ليس بتهجين بل هو ثناء عليه وتحسين لحاله التي كان عليها وأمر بأن يدوم على ذلك ويواظب عليه ، وعن عكرمة رضي الله عنه أنّ المعنى يا أيها الذي زمل أمراً عظيماً أي حمله ، والزمل الحمل .

قال البغوي : قال الحكماء : كان هذا الخطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم في أوّل الوحي قبل تبليغ الرسالة ، ثم خوطب بعد بالنبيّ والرسول ، وقال السيهلي : ليس المزمل من أسماء النبيّ صلى الله عليه وسلم كما ذهب إليه بعض الناس ، وعدّوه في أسمائه صلى الله عليه وسلم وإنما المزمل اسم مشتق من حاله التي كان عليها حين الخطاب ، وكذلك المدّثر .

وفي خطابه بهذا الاسم فائدتان :

إحداهما : الملاطفة فإنّ العرب إذا قصدت ملاطفة المخاطب وترك المعاتبة سموه باسم مشتق من حالته التي هو عليها كقول النبيّ صلى الله عليه وسلم لعليّ حين غاضب فاطمة رضي الله تعالى عنهما فأتاه وهو نائم وقد لصق بجنبه التراب ، فقال له : قم أبا تراب » إشعاراً له بأنه غير عاتب عليه وملاطفة له ، وكذلك «قوله صلى الله عليه وسلم لحذيفة : قم يا نومان » وكان نائماً ملاطفة له وإشعاراً بترك العتب والتأنيب ، فقول الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم { يا أيها المزمل قم } فيه تأنيس له وملاطفة ليستشعر أنه غير عاتب عليه .

والفائدة الثانية : التنبيه لكل متزمل راقد ليله أن يتنبه إلى قيام الليل وذكر الله تعالى فيه ؛ لأنّ الاسم المشتق من الفعل يشترك فيه مع المخاطب كل من عمل ذلك العمل واتصف بتلك الصفة ، والليل مدّة من غروب الشمس إلى طلوع الفجر . قال القرطبي : واختلف هل كان قيامه فرضاً أو نفلاً ؟ والدلائل تقوّي أنّ قيامه كان فرضاً ؛ لأنّ المندوب لا يقع على بعض الليل دون بعض ، لأنّ قيامه ليس مخصوصاً بوقت دون وقت .

واختلف هل كان فرضاً على النبيّ صلى الله عليه وسلم وحده ؟ أو عليه وعلى من كان قبله من الأنبياء ؟ أو عليه وعلى أمته ؟ على ثلاثة أقوال : الأوّل قول سعيد بن جبير رضي الله عنه لتوجه الخطاب إليه .

الثاني : قول ابن عباس رضي الله عنهما قال : كان قيام الليل فريضة على النبيّ صلى الله عليه وسلم والأنبياء قبله . والثالث : قول عائشة وابن عباس رضي الله عنهم أيضاً أنه كان فرضاً عليه وعلى أمته لما روى مسلم أنّ هشام بن عامر قال لعائشة رضي الله عنها : أنبئيني عن قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : «ألست تقرأ يا أيها المزمل ، فقلت : بلى . فقالت : فإنّ الله عز وجل افترض قيام الليل في أوّل هذه السورة ، فقام نبيّ الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه حولاً وأمسك الله عز وجل خاتمتها اثني عشر شهراً في السماء حتى أنزل الله عز وجلّ في آخر هذه السورة التخفيف ، فصار قيام الليل تطوّعاً بعد فريضة » وقيل : عسر عليهم تمييز القدر الواجب ، فقاموا الليل كله ، وشق عليهم فنسخ بقوله تعالى آخرها : { فاقرؤوا ما تيسر من القرآن } وكان بين الوجوب ونسخه سنة ، وقيل : نسخ التقدير بمكة وبقي التهجد حتى نسخ بالمدينة .

وروى وكيع ويعلى عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : لما نزلت { يا أيها المزمل } كانوا يقومون نحواً من قيامهم في شهر رمضان حتى نزل آخرها وكان بين نزول أوّلها وآخرها نحواً من سنة . وقال سعيد بن جبير رضي الله عنه : مكث النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه عشر سنين يقومون الليل ، فنزلت بعد عشر سنين { إنّ ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل } [ المزمل : 20 ] فخفف الله تعالى عنهم . وقيل : كان قيام الليل واجباً ثم نسخ بالصلوات الخمس .

والصحيح أنه صلى الله عليه وسلم بعث يوم الاثنين في رمضان وهو ابن أربعين سنة ، وقيل : ثلاث وأربعين وآمنت به خديجة رضي الله عنها ثم بعدها قيل : عليّ رضي الله عنه وهو ابن تسع سنين ، وقيل : ابن عشر . وقيل : أبو بكر ، وقيل : زيد بن حارثة ، ثم أمر بتبليغ قومه بعد ثلاث من مبعثه ، فأوّل ما فرض عليه صلى الله عليه وسلم بعد الإنذار والدعاء إلى التوحيد من قيام الليل ما ذكر في أوّل السورة ، ثم نسخ بما في آخرها ثم نسخ بإيجاب الصلوات الخمس ليلة الإسراء إلى بيت المقدس بمكة بعد النبوة بعشر سنين وثلاثة أشهر ليلة سبع وعشرين من رجب ، هذا ما ذكره النووي في روضته .

وقال في فتاويه : بعد النبوة بخمس أو ست وجعل الليلة من ربيع الأول وخالفهما في شرح مسلم وجزم بأنها من ربيع الآخر وقلد فيها القاضي عياضاً ، والذي عليه الأكثر ما في الروضة واستمرّ يصلي إلى بيت المقدس مدّة إقامته بمكة وبعد الهجرة ستة عشر شهراً أو سبعة عشر ، ثم أمر باستقبال الكعبة ، ثم فرض الصوم بعد الهجرة بسنتين تقريباً وفرضت الزكاة بعد الصوم ، وقيل : قبله ، وفي السنة الثانية قيل : في نصف شعبان . وقيل : في رجب حوّلت القبلة ، وفيها فرضت صدقة الفطر ، وفيها ابتدأ صلى الله عليه وسلم صلاة عيد الفطر ثم عيد الأضحى ، ثم فرض الحج سنة ست وقيل : سنة خمس ولم يحج صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة إلا حجة الوداع ، واعتمر أربعاً وتوفيّ صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين لاثنتي عشرة خلت من شهر ربيع الأوّل سنة إحدى عشرة من الهجرة .

فائدة : الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كلهم معصومون قبل النبوة من الكفر وفي المعاصي خلاف وبعدها من الكبائر وكذا من الصغائر ولو سهواً عند المحققين .