ثم قص عليه ما رآه فقال : { إِنِّي وَجَدتُّ امرأة تَمْلِكُهُمْ } والمراد بهذه المرأة : بلقيس بنت شراحيل بن مالك بن ريان . . . ورثت الملك عن أبيها .
أى : إنى وجد قبيلة سبأ تحكمها امرأة ، وتتصرف فى أمورهم دون أن يعترض عليها معترض ، أو ينافسها منافس .
وقوله { وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ } معطوف على ما قبله . أى : وبين يديها جميع الأشياء التى تحتاجها لتصريف شئون مملكتها ، والمحافظة على قوتها واستقرارها . . .
وفضلاً عن كل ذلك { وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ } أى : لها سرير ملك فخم ضخم يدل على غناها وترفها ، ورقى مملكتها فى الصناعة وغيرها .
ثم قال : { إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ } ، قال الحسن البصري : وهي بلقيس بنت شَرَاحيل ملكة سبأ .
وقال قتادة : كانت أمها جنية ، وكان مُؤخَّر قدميها مثل حافر الدابة ، من بيت مملكة .
وقال زهير بن محمد : وهي بلقيس بنت شَرَاحيل بن مالك بن الريان ، وأمها فارعة الجنية .
وقال ابن جُرَيْج : بلقيس بنت ذي شرخ ، وأمها يلتقة .
وقال ابن أبى حاتم : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا مُسَدَّد ، حدثنا سفيان - يعني ابن عيينة - عن عطاء بن السائب ، عن مجاهد ، عن ابن عباس قال : كان مع صاحبة{[22014]} سليمان ألف قَيْل ، تحت كل قيل مائة ألف [ مقاتل ]{[22015]} .
وقال الأعمش ، عن مجاهد : كان تحت يدي ملكة سبأ اثنا عشر ألف قَيْل ، تحت كل قيل : مائة ألف مقاتل .
وقال عبد الرزاق : أنبأنا{[22016]} مَعْمَر ، عن قتادة في قوله : { إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ } : كانت من بيت مملكة ، وكان أولو مشورتها ثلاثمائة واثني عشر رجلا كل رجل منهم على عشرة آلاف رجل . وكانت بأرض يقال لها مأرب ، على ثلاثة أميال من صنعاء .
وهذا القول هو أقرب ، على أنه كثير على مملكة اليمن ، والله أعلم .
وقوله : { وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ } أي : من متاع الدنيا ما{[22017]} يحتاج إليه الملك المتمكن ، { وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ }
يعني : سرير تجلس عليه عظيم هائل مزخرف بالذهب ، وأنواع الجواهر واللآلئ .
قال زهير بن محمد : كان من ذهب صفحتاه ، مرمول بالياقوت والزبرجد . [ طوله ثمانون ذراعًا ، وعرضه أربعون ذراعًا .
وقال محمد بن إسحاق : كان من ذهب مفصص بالياقوت والزبرجد ]{[22018]} واللؤلؤ ، وكان إنما يخدمها النساء ، لها ستمائة امرأة تلي الخدمة{[22019]} .
قال علماء التاريخ : وكان هذا السرير في قصر عظيم مشيد رفيع البناء محكم ، كان فيه ثلاثمائة وستون طاقة من شرقه ومثلها من غربه{[22020]} ، قد وضع بناؤه على أن تدخل الشمس كل يوم من طاقة ، وتغرب من مقابلتها ، فيسجدون لها صباحًا ومساءً ؛ ولهذا قال : { وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ }
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنّي وَجَدتّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ * وَجَدتّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشّمْسِ مِن دُونِ اللّهِ وَزَيّنَ لَهُمُ الشّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدّهُمْ عَنِ السّبِيلِ فَهُمْ لاَ يَهْتَدُونَ } .
يقول تعالى مخبرا عن قيل الهدهد لسليمان مخبرا بعذره في مغيبه عنه : إنّي وَجَدْتُ امْرأةً تَمْلِكُهُمْ يعني تملك سبأ ، وإنما صار هذا الخبر للهدهد عذرا وحجة عند سليمان ، درأ به عنه ما كان أُوعد به ، لأن سليمان كان لا يرى أن في الأرض أحدا له مملكة معه ، وكان مع ذلك صلى الله عليه وسلم رجلاً جُبّب إليه الجهاد والغزو ، فلما دله الهدهد على ملك بموضع من الأرض هو لغيره ، وقوم كفرة يعبدون غير الله ، له في جهادهم وغزوهم الأجر الجزيل ، والثواب العظيم في الاَجل ، وضمّ مملكة لغيره إلى ملكه ، حقّت للهدهد المعذرة ، وصحّت له الحجة في مغيبه عن سليمان .
وقوله : وأُوتِيَتْ مِنْ كُلّ شَيْءٍ يقول : وأوتيت من كلّ شيء يؤتاه الملك في عاجل الدنيا مما يكون عندهم من العتاد والاَلة . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن أبي عُبَيدة الباجي ، عن الحسن ، قوله : وأُوتِيَتْ مِنْ كُلّ شَيْءٍ يعني : من كل أمر الدنيا .
وقوله ولَهَا عَرْشٌ عَظيمٌ يقول : ولها كرسي عظيم . وعُني بالعظيم في هذا الموضع : العظيم في قدره ، وعظم خطره ، لا عظمه في الكبر والسعة . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن عطاء الخراساني ، عن ابن عباس ، قوله وَلهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ قال : سرير كريم ، قال : حَسن الصنعة ، وعرشها : من ذهب قوائمه من جوهر ولؤلؤ .
قال : ثني حجاج ، عن أبي عُبيدة الباجي ، عن الحسن ، قوله : ولَهَا عَرْشٌ عَظيمٌ : يعني سرير عظيم .
وجملة : { إنى وجدت امرأة } بيان ل { نبأ } فلذلك لم تعطف . وإدخال ( إنّ ) في صدر هذه الجملة لأهمية الخبر إذ لم يكن معهوداً في بني إسرائيل أن تكون المرأة ملكاً .
وفعل { تملكهم } هنا مشتق من المُلك بضم الميم وفعله كفعل مِلك الأشياء . وروي حديث هرقل « هل كان في آبائه مِن مَلَك » بفتح اللام ، أي كان مَلكاً ، ويفرق بين الفعلين بالمصدر فمصدر هذا مُلك بضم الميم ، والآخر بكسرها ، وضمير الجمع راجع إلى سبأ .
وهذه المرأة أريد بها بلقيس ( بكسر الموحدة وسكون اللام وكسر القافِ ) ابنة شراحيل وفي ترتيبها مع ملوك سَبأ وتعيين اسمها واسم أبيها اضطراب للمؤرخين . والموثوق به أنها كانت معاصرة سليمان في أوائل القرن السابع عَشر قبل الهجرة وكانت امرأة عاقلة . ويقال : هي التي بَنت سُدّ مَأرب . وكانت حاضرةُ ملكها مأربَ مدينة عظيمة باليمن بينها وبين صنعاء مسيرة ثلاث مراحل وسيأتي ذكرها في سورة سبأ .
وتنكير { امرأة } وهو مفعول أول ل { وجدت } له حكم المبتدأ فهو كالابتداء بالنكرة إذا أريد بالنكرة التعجب من جنسها كقولهم : بقَرة تكلمتْ ، لأن المراد حكاية أمر عجيب عندهم أن تكون امرأة ملكة على قوم . ولذلك لم يقل : وجدتهم تملكهم امرأة .
والإيتاء : الإعطاء ، وهو مشعر بأن المعطَى مرغوب فيه ، وهو مستعمل في لازمه وهو النول .
ومعنى { أوتيت من كل شيء } نالت من كل شيء حسن من شؤون الملك . فعموم كل شيء عموم عرفي من جهتين يفسره المقام كما فسر قول سليمان { أوتينا من كل شيء } [ النمل : 16 ] ، أي أوتيتْ من خصال الملوك ومن ذخائرهم وعددهم وجيوشهم وثراء مملكتهم وزخرفها ونحو ذلك من المحامد والمحاسن .
وبناء فِعل { أوتيت } إلى المجهول إذ لا يتعلق الغرض بتعيين أسباب ما نالته بل المقصود ما نالته على أن الوسائل والأسباب شتى ، فمنه ما كان إرثاً من الملوك الذين سلفوها ، ومنه ما كان كسباً من كسبها واقتنائها ، ومنه ما وهبها الله من عقل وحكمة ، وما منَح بلادها من خصب ووفرة مياه . وقد كان اليونان يلقبون مملكة اليمن بالعربية السعيدة أخذاً من معنى اليُمْن في العربية ، وقال تعالى : { لقد كان لسبإٍ في مساكنهم آية جنتان عن يمين وشمال كلوا من رزق ربكم واشكُروا له بلدَةٌ طيبة وربٌ غفور } [ سبأ : 15 ] . وأما رجاحة العقول ففي الحديث : « أتاكم أهل اليمن هُم أرق أفئدة ، الإيمان يَماننٍ ، والحكمةُ يمانية » فليس المراد خصوص ما آتاها الله في أصل خلقتها وخلقة أمتها وبلادها ، ولذا فلم يتعين الفاعل عرفاً . وكلّ من عند الله .
وخص من نفائس الأشياء عرشها إذ كان عرشاً بديعاً ولم يكن لسليمان عرش مثله . وقد جاء في الإصحاح العاشر من سفر الملوك الأول ما يقتضي أن سليمان صنع كرسيَّهُ البديع بعد أن زارته ملكة سبأ . وسنشير إليه عند قوله تعالى : { أيُّكم يأتيني بعرشها } [ النمل : 38 ] .
والعظيم : مستعمل في عظمة القَدْر والنفاسة في ضخامة الهيكل والذات . وأعقب التنويه بشأنها بالحط من حال اعتقادهم إذ هم يسجدون ، أي يعبدون الشمس . ولأجل الاهتمام بهذا الخبر أعيد فعل وَجَدْتُها إنكاراً لكونهم يسجدون للشمس ، فذلك من انحطاط العقلية الاعتقادية فكان انحطاطهم في الجانب الغيبي من التفكير وهو ما يظهر فيه تفاوت عوض العقول على الحقائق لأنه جانب متمحّض لعمل الفكر لا يستعان فيه بالأدلة المحسوسة ، فلا جرم أن تضل فيه عقول كثير من أهل العقول الصحيحة في الشؤون الخاضعة للحواس . قال تعالى في المشركين { يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون أو لم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق } [ الروم : 7 ، 8 ] وكان عرب اليمن أيامئذ من عَبدة الشمس ثم دخلت فيهم الديانة اليهودية في زمن تُبّع أسْعَد من ملوك حِمير ، ولكونهم عبدة شمس كانوا يسمون عبد شمس كما تقدم في اسم سبأ .
وقد جمع هذا القولُ الذي ألقي إلى سليمان أصولَ الجغرافية السياسية من صفة المكان والأديان ، وصبغة الدولة وثروتها ، ووقع الاهتمام بأخبار مملكة سبأ لأن ذلك أهم لملك سليمان إذ كانت مجاورة لمملكته يفصل بينهما البحر الأحمر ، فأمور هذه المملكة أجدى بعمله .
وقرأ الجمهور : { من سبأ } بالصرف . وقرأه أبو عمرو والبَزي عن ابن كثير بفتحة غير مصروف على تأويل البلاد أو القبيلة . وقرأه قنبل عن ابن كثير بسكون الهمزة على اعتبار الوقف إجراء للوصل مُجرى الوقف .