ثم بين - سبحانه - أن كل من يطلب دينا سوى دين الإسلام فهو خاسر فقال - تعالى - : { وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ } .
أى : ومن يطلب دينا سوى دين الإسلام الذى أتى به - عليه الصلاة والسلام - فلن يقبل منه هذا الدين المخالف لدين الإسلام ، لأن دين الإسلام الذى جاء به محمد ، هو الدين الذى ارتضاه الله لعباده قال - تعالى - { اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِيناً } ولأنه هو الدين الذى ختم الله به الديانات ، وجمع فيه محاسنها .
أما عاقبة هذا الطالب لدين سوى دين الإسلام فقد بينها - سبحانه - بقوله : { وَهُوَ فِي الآخرة مِنَ الخاسرين } .
أى وهو فى الآخرة من الذين خسروا أنفسهم بحرمانهم من ثواب الله ، واستحقاقهم لعقابه جزاء ما قدمت أيديهم من كفر وضلال .
وفى الحديث الشريف " من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد " أى مردود عليه ، وغير مقبول منه .
وفى الإخبار بالخسران عن الذى يبتغى أى يطلب دينا سوى الإسلام ، إشعار بأن من يتبع دينا سوى دين الإسلام يكون أشد خسرانا ، وأسوأ حالا ، لأن الطلب أقل شرا من الاتباع الفعلى .
ثم قال تعالى : { وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ } أي : من سلك طريقًا سوى ما شَرَعَه الله فلن يُقْبل منه { وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ } كما قال النبي{[5278]} صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : " مَنْ عَمِلَ عَمَلا لَيْسَ عَلَيْهِ أمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ " .
وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو سعيد مولى بني هاشم ، حدثنا عباد بن راشد ، حدثنا الحسن ، حدثنا أبو هريرة ، إذ ذاك ونحن بالمدينة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " تَجِيءُ الأعْمَالُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، فَتَجِيءُ الصَّلاةُ فَتَقُولُ : يَا رَبِّ ، أَنَا الصَّلاةُ . فَيَقُولُ : إِنَّكِ عَلَى خَيْرٍ . فَتَجِيءُ الصَّدَقَةُ فَتَقُولُ : يَا رَبِّ ، أَنَا الصَّدَقَةُ . فَيَقُولُ : إِنَّكِ عَلَى خَيْرٍ . ثُمَّ يَجِيءُ الصِّيَامُ فَيَقُولُ : أَيْ يَا رَبِّ ، أَنَا الصِّيَامُ . فَيَقُولُ : إِنَّكَ عَلَى خَيْرٍ . ثُمَّ تَجِيءُ الأعْمَالُ ، كُل ذَلِكَ يَقُولُ اللَّهُ تعالى : إِنَّكَ عَلَى خَيْرٍ ، ثُمَّ يَجِيءُ الإسْلامُ فَيَقُولُ : يَا رَب ، أَنْتَ السَّلامُ وَأَنَا الإسْلامُ . فَيَقُولُ اللَّهُ [ تعالى ] :{[5279]} إِنَّكَ عَلَى خَيْرٍ ، بِكَ الْيَوْمَ آخُذُ وَبِكَ{[5280]} أُعْطِي ، قَالَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ : { وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ } .
تفرد به أحمد . قال أبو عبد الرحمن عبد الله{[5281]} بن الإمام أحمد : عباد بن راشد ثقة ، ولكن الحسن لم يسمع من أبي هريرة{[5282]} .
{ وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ }
يعني بذلك جلّ ثناؤه : ومن يطلب دينا غير دين الإسلام ليدين به ، فلن يقبل الله منه ، { وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الخَاسِرِينَ } ، يقول : من الباخسين أنفسهم حظوظها من رحمة الله عزّ وجلّ . وذُكر أن أهل كل ملة ادّعوا أنهم هم المسلمون لما نزلت هذه الآية ، فأمرهم الله بالحجّ إن كانوا صادقين ، لأن من سنة الإسلام الحجّ ، فامتنعوا ، فأدحض الله بذلك حجتهم . ذكر الخبر بذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، قال : زعم عكرمة : { وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلاَمِ دِينا } فقالت الملل : نحن المسلمون ، فأنزل الله عزّ وجلّ : { وَلِلّهِ على النّاسِ حِجّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنّ اللّهَ غَنِيّ عَنِ العالَمِينَ } فحجّ المسلمون ، وقعد الكفار .
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا القعنبي ، قال : حدثنا سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن عكرمة ، قال : { وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلاَمِ دِينا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ } قالت اليهود : فنحن المسلمون ، فأنزل الله عزّ وجلّ لنبيه صلى الله عليه وسلم يحجّهم أن { لِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنّ اللّهَ غَنِيّ عَنِ العَالَمِينَ } .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن عكرمة ، قال : لما نزلت : { وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِينا } . . . إلى آخر الآية ، قالت اليهود : فنحن مسلمون ، قال الله عزّ وجلّ لنبيه صلى الله عليه وسلم : قل لهم : إن { لِلّهِ على النّاسِ حِجّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ } من أهل الملل { فَإِنّ اللّهَ غَنِيّ عَنِ العَالَمِينَ } .
حدثنا به المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : { إِنّ الّذِينَ آمَنُوا وَالّذِينَ هَادُوا وَالنّصَارَى وَالصّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ } إلى قوله : { وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } فأنزل الله عزّ وجلّ بعد هذا : { وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلاَمِ دِينا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ } .
{ ومن يبتغ غير الإسلام دينا } أي غير التوحيد والانقياد لحكم الله . { فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين } الواقعين في الخسران ، والمعنى أن المعرض عن الإسلام والطالب لغيره فاقد للنفع واقع في الخسران بإبطال الفطرة السليمة التي فطر الناس عليها ، واستدل به على أن الإيمان هو الإسلام إذ لو كان غيره لم يقبل . والجواب إنه ينفي قبول كل دين يغايره لا قبول كل ما يغايره ، ولعل الدين أيضا للأعمال .
عطف على جملة { أفغير دين الله يبغون } وما بينهما اعتراض ، كما علمت ، وهذا تأييس لأهل الكتاب من النجاة في الآخرة ، وردّ لقولهم : نحن على ملة إبراهيم ، فنحن ناجون على كلّ حال . والمعنى من يبتغ غير الإسلام بعد مجيء الإسلام . وقرأه الجميع بإظهار حرفي الغين من كلمة { من يبتغ } وكلمة { غير } وروى السُوسي عن أبي عمرو إدغام إحداهما في الأخرى وهو الإدغام الكبير .