اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَمَن يَبۡتَغِ غَيۡرَ ٱلۡإِسۡلَٰمِ دِينٗا فَلَن يُقۡبَلَ مِنۡهُ وَهُوَ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ مِنَ ٱلۡخَٰسِرِينَ} (85)

العامة يظهرون هذين المثلين في { يَبْتَغِ غَيْرَ } لأن بينهُمَا فاصلاً فلم يلتقيا في الحقيقةِ ، وذلك الفاصل هو الياء التي حذفت للجزم .

وروي عن أبي عمرو فيها الوجهان :

الإظهار على الأصل ، ولمراعاة الفاصل الأصْلِيّ .

والإدغام ؛ مراعاةً للفظ ؛ إذ يَصْدُق أنهما التقيا في الجملة ، ولأن ذلك مستحِقّ الحَذْف لعامل الجَزْم .

وليس هذا مخصوصاً بهذه الآية ، بل كل ما التقى فيه مِثْلاَنِ بسبب حذف حرف لعلةٍ اقتضت ذلك جَرَى فيها الوجهان ، نحو : { يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ } [ يوسف : 9 ] وقوله : { وَإِن يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ } [ غافر : 28 ] .

وقد استشكل على هذا نحو { وَيَقَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ } [ غافر : 41 ] ونحو :

{ وَيَقَوْمِ مَن يَنصُرُنِي } [ هود : 30 ] فإنه لم يُرْوَ عن أبي عمرو خلاف في إدغامها ، وكان القياس يقتضي جواز الوجهين ، لأن ياء المتكلم فاصلة تقديراً .

قوله : " دِيناً " فيه ثلاثة أوجهٍ :

أحدها : أنه مفعول " يَبْتَغِ " و " غَيْرَ الإسْلاَمِ " حالٌ ؛ لأنها في الأصل صفةٌ له ، فلما قُدِّمَتْ نُصِبَت حالاً .

الثاني : أن يكون تمييزاً لِ " غَيْرَ " لإبهامها ، فمُيِّزَتْ كما مُيِّزت " مِثْلُ " و " شِبهُ " وأخواتهما ، وسُمِع من العرب : إن لنا غيرَها إبلاً وشاءً .

والثالث : أن يكون بدلاً من " غَيْرَ " . وعلى هذين الوجهين ف { غَيْرَ الإِسْلاَمِ } هو المفعول به ل " يبتغ " .

وقوله : { وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ } يجوز أن لا يكون لهذه الجملة محلٌّ ؛ لاستئنافها ، ويجوز أن تكون في محل جَزْم ؛ نَسَقاً على جواب الشرط - وهو { فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ } - ويكون قد ترتب على ابتغاء غير الإسلام ديناً الخُسران وعدمُ القبول .

فصل

لما تقدم قوله تعالى : { وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } [ آل عمران : 84 ] بيَّن أن الدينَ ليس إلا الإسلام ، وأن كل دين غيره ليس بمقبولٍ ؛ لأن معنى قبول العمل أن يرضى اللهُ ذلك العملَ ، ويثيب فاعله عليه ، قال تعالى { إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ } [ المائدة : 27 ] وما لم يكن مقبولاً كان صاحبُه من الخاسرين في الآخرة بحرمان الثواب ، وحصول العقاب ، مع الندامة على ما فاته من العمل الصالح ، مع التعب والمشقة في الدنيا في ذلك الدين الباطل .

فصل

قال المفسرون : نزلت هذه الآيةُ في اثني عشر رجلاً ارتدُّوا عن الإسلام ، وخرجوا من المدينة ، وأتوا مكةَ كُفَّاراً منهم الحَرْث بن سُوَيْد الأنصاريُّ ، فنزل قول الله تعالى : { وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ } والخُسْران في الآخرة يكونُ بحرمانِ الثَّوابِ ، وحصول العقاب ، والتأسُّف على ما فاته في الدنيا من العملِ الصالحِ ، والتحسُّر على ما تحمَّلَه من التعب والمشقة في تقرير دينه الباطلِ .

وظاهر هذه الآية يدل على أن الإيمان هو الإسلام ؛ إذْ لو كان غيره لوجب أن لا يكون الإيمان مقبولاً ؛ لقوله تعالى : { وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ } إلا أن ظاهر قوله تعالى : { قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ وَلَكِن قُولُواْ أَسْلَمْنَا } [ الحجرات : 14 ] يقتضي التغاير بينهما ، ووجه التوفيق بينهما أن تُحْمل الآية الأولى على العُرْف الشرعيّ ، والآية الثانية على الموضع اللغويّ .