ثم بين - سبحانه - ما أعده للمؤمنين من ثواب عظيم ، وما أعده للكافرين من عذاب أليم ، فقال : { إِنَّ الله يُدْخِلُ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار والذين كَفَرُواْ يَتَمَتَّعُونَ . . } أى يتمتعون وينتفعون بملاذ الدنيا أياما قليلة .
{ وَيَأْكُلُونَ } مآكلهم بدون تفكر أو تحر للحلال أو شكر لله { كَمَا تَأْكُلُ الأنعام } طعامها الذى يلقيه إليها صاحبها .
فالمقصود بالجملة الكريمة ذم هؤلاء الكافرين ، لشبههم بالأنعام التى لا تعقل ، فى كونهم يأكلون طعامهم دون أن يشركوا الله - تعالى - عليه ودون أن يفرقوا بين الحلال والحرام ، ودون أن يرتفعوا بإنسانيتهم عن مرتبة الحيوان الأعجم .
قال الآلوسى : والمعنى أن أكلهم مجرد عن الفكر والنظر ، كما تقول للجاهل : تعيش كما تعيش البهيمة ، فأنت لا تريد التشبيه فى مطلق العيش ، ولكن فى خواصه ولوازمه . وحاصلة أنهم يأكلون غافلين عن عواقبهم ومنتهى أمورهم .
وقوله : { والنار مَثْوًى لَّهُمْ } بيان لسوء عاقبتهم فى الآخرة ، بعد بيان صورتهم القبيحة فى الدنيا .
ثم يوازن بين نصيب الذين آمنوا ونصيب الذين كفروا من المتاع بعدما بين نصيب هؤلاء وهؤلاء فيما يشتجر بينهم من قتال ونزال . مع بيان الفارق الأصيل بين متاع ومتاع :
إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار . والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام ، والنار مثوى لهم . .
والذين آمنوا وعملوا الصالحات يتمتعون في الأرض أحيانا من أطيب المتاع ؛ ولكن الموازنة هنا إنما تقوم بين النصيب الحقيقي الضخم للمؤمنين - وهو نصيبهم في الجنة - والنصيب الكلي للكافرين الذي لا نصيب لهم سواه .
ونصيب المؤمنين يتلقونه من يد الله في جنات تجري من تحتها الأنهار . فالله هو الذي يدخلهم . وهو إذن نصيب كريم علوي رفيع . وهم ينالونه من بين يدي الله في علاه جزاء على الإيمان والصلاح ، متناسقا في رفعته وكرامته مع الارتفاع المنطلق من الإيمان والصلاح .
ونصيب الذين كفروا متاع وأكل ( كما تأكل الأنعام ) . . وهو تصوير زري ، يذهب بكل سمات الإنسان ومعالمه ؛ ويلقي ظلال الأكل الحيواني الشره ، والمتاع الحيواني الغليظ . بلا تذوق ، وبلا تعفف عن جميل أو قبيح . . إنه المتاع الذي لا ضابط له من إرادة ، ولا من اختيار ، ولا حارس عليه من تقوى ، ولا رادع عنه من ضمير .
والحيوانية تتحقق في المتاع والأكل ، ولو كان هناك ذوق مرهف للطعوم ، وحس مدرب في اختيار صنوف المتاع ، كما يتفق هذا لكثير من الناشئين في بيوت النعمة والثراء . وليس هذا هو المقصود . إنما المقصود هو حساسية الإنسان الذي يملك نفسه وإرادته ، والذي له قيم خاصة للحياة ؛ فهو يختار الطيب عند الله . عن إرادة لا يخضعها ضغط الشهوة ، ولا يضعفها هتاف اللذة . ولا تحسب الحياة كلها مائدة طعام ، وفرصة متاع ؛ بلا هدف بعد ذلك ولا تقوى فيما يباح وما لا يباح !
إن الفارق الرئيسي بين الإنسان والحيوان : أن للإنسان إرادة وهدفا وتصورا خاصا للحياة يقوم على أصولها الصحيحة ، المتلقاة من الله خالق الحياة . فإذا فقد هذا كله فقد أهم خصائص الإنسان المميزة لجنسه ، وأهم المزايا التي من أجلها كرمه الله .
وقوله تعالى : { ويأكلون كما تأكل الأنعام } أي أكلاً مجرداً من فكرة ونظر ، فالتشبيه بالمعنى إنما وقع فيما عدا الأكل من قلة الفكر وعدم النظر ، فقوله : { كما } في موضع الحال ، وهذا كما تقول لجاهل : يعيش كما تعيش البهيمة ، فأما بمقتضى اللفظ فالجاهل والعالم والبهيمة من حيث لهم عيش فهم سواء ، ولكن معنى كلامك يعيش عديم النظر والفهم كما تعيش البهيمة . والمثوى : موضع الإقامة .
استئناف بياني جواب سؤال يخطر ببال سامع قولِه : { بأن الله مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم } [ محمد : 11 ] عن حال المؤمنين في الآخرة وعن رزق الكافرين في الدنيا ، فبيّن الله أن من ولايته المؤمنين أن يعطيهم النعيم الخالد بعد النصر في الدنيا ، وأنّ ما أعطاه الكافرين في الدنيا لا عبرةَ به لأنهم مسلوبون من فهم الإيمان فحظهم من الدنيا أكل وتمتع كحظ الأنعام ، وعاقبتهم في عالم الخلود العذاب ، فقوله : { والنار مثوًى لهم } في معنى قوله في سورة آل عمران ( 196 ، 197 ) { لا يغرنك تقلُّب الذين كفروا في البلاد متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد }
وهذا الاستئناف وقع اعتراضاً بين جملة { أفلم يسيروا في الأرض } [ محمد : 10 ] وجملة { وكأين من قرية } [ محمد : 13 ] الآية .
والمجرور من قوله : { كما تأكل الأنعام } في محل الحال من ضمير { يأكلون } ، أو في محل الصفة لمصدر محذوف هو مفعول مطلق ل { يأكلون } لبيان نوعه .
والتمتع : الانتفاع القليل بالمتاع ، وتقدم في قوله : { متاع قليل } في سورة آل عمران ( 197 ) ، وقوله : { ومتاع إلى حين } في سورة الأعراف ( 24 ) .
والمثوى : مكان الثواء ، والثواء : الاستقرار ، وتقدم في قوله : { قال النار مثواكم } في الأنعام ( 128 ) . وعدل عن الإضافة فقيل مثوًى لهم } بالتعليق باللام التي شأنها أن تنون في الإضافة ليفاد بالتنوين معنى التمكّن من القرار في النار مثوى ، أي مثوى قوياً لهم لأن الإخبار عن النار في هذه الآية حصل قبل مشاهدتها ، فلذلك أضيفت في قوله : { قال النار مثواكم لأنه إخبار عنها وهم يشاهدونها في المحشر .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: إن الله له الألوهة التي لا تنبغي لغيره، يُدخل الذين آمنوا بالله وبرسوله بساتين تجري من تحت أشجارها الأنهار، يفعل ذلك بهم تكرمة على إيمانهم به وبرسوله.
وقوله:"والّذِين كَفَرُوا يَتَمَتّعُونَ وَيأْكُلُونَ كمَا تَأْكُلُ الأنْعامُ" يقول جل ثناؤه: والذين جحدوا توحيد الله، وكذّبوا رسوله صلى الله عليه وسلم يتمتعون في هذه الدنيا بحطامها ورياشها وزينتها الفانية الدارسة، ويأكلون فيها غير مفكّرين في المعاد، ولا معتبرين بما وضع الله لخلقه من الحجج المؤدّية لهم إلى علم توحيد الله ومعرفة صدق رسله، فمثلهم في أكلهم ما يأكلون فيها من غير علم منهم بذلك، وغير معرفة، مثل الأنعام من البهائم المسخرة التي لا همة لها إلا في الاعتلاف دون غيره، "والنّارُ مَثْوًى لَهُمْ "يقول جلّ ثناؤه: والنار نار جهنم مسكن لهم، ومأوى، إليها يصيرون من بعد مماتهم.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
وذلك أن أهل الإيمان والتوحيد نظروا في جميع أحوالهم وأمورهم إلى ما فيه أمر الله تعالى وما يُعقِب لهم نفعا في العاقبة، لم ينظروا إلى ما فيه قضاء شهواتهم، بل اختاروا أمر الله على جميع ما ذكرنا. وأولئك الكفرة لم ينظروا إلى ما فيه أمر الله ولا ما يوجب لهم في العاقبة من النّفع، بل اختاروا شهواتهم ومُناهم وما فيه هواهم على ما فيه أمر الله ونهيُه. فجعل للمؤمنين في الآخرة قضاء شهواتهم التي تركوا قضاءها في الدنيا، وكفّوا أنفسهم عن مناها، فكان ذلك في الجنة والبساتين التي وعد لهم في الآخرة. وجعل لأولئك الكفرة في الآخرة مكان ما قضوا في الدنيا من شهواتهم وإعطاء أنفسهم مُناها النار وما ينغّصهم ما أعطوا أنفسهم في الدنيا. ثم قوله تعالى: {والذين كفروا يتمتّعون ويأكلون كما تأكل الأنعام} يحتمل تشبيه أولئك الكفرة بالأنعام بوجهين:
أحدهما: يُخبر أنهم يأكلون، وهمّهم في الأكل، ليس إلا الشبع وامتلاء البطن وقضاء الشهوة، لا ينظرون إلى ما أمر الله به، ونهاهم عنه، كالأنعام التي ذكر همّها؛ ليس في الأكل إلا الشبع وامتلاء البطن وقضاء الشهوة، والله أعلم.
والثاني: يُخبر عنهم أنهم لا ينظرون في أكلهم وشُربهم إلى عاقبة ولا إلى وقت ثان، بل نظرهم إلى الحال التي هم فيها كالأنعام التي ذكر أنها تأكل، ولا تنظر، ولا تدّخر شيئا لوقت ثان، ولا تترك شيئا ما دامت تشتهي. فعلى ذلك أولئك الكفرة، والله أعلم.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
الأنعامُ تأكل من أي موضع بلا تمييز، وكذلك الكافرُ لا تمييزَ له بين الحلال والحرام، كذلك الأنعام ليس لها وقت لأكلها؛ بل في كل وقت تقتات وتأكل...
لما بين الله تعالى حال المؤمنين والكافرين في الدنيا بين حالهم في الآخرة وقال إنه يدخل المؤمن الجنة والكافر النار. وفيه مسائل:
المسألة الأولى: كثيرا ما يقتصر الله على ذكر الأنهار في وصف الجنة لأن الأنهار يتبعها الأشجار والأشجار تتبعها الثمار ولأنه سبب حياة العالم، والنار سبب الإعدام، وللمؤمن الماء ينظر إليه وينتفع به، وللكافر النار يتقلب فيها ويتضرر بها. المسألة الثانية: ذكرنا مرارا أن من في قوله {من تحتها الأنهار} يحتمل أن يكون صلة معناه تجري تحتها الأنهار، ويحتمل أن يكون المراد أن ماءها منها لا يجري إليها من موضع آخر، فيقال هذا النهر منبعه من أين؟ يقال من عين كذا من تحت جبل كذا. المسألة الثالثة: قال: {والذين كفروا يتمتعون} خصهم بالذكر مع أن المؤمن أيضا له التمتع بالدنيا وطيباتها، نقول من يكون له ملك عظيم ويملك شيئا يسيرا أيضا لا يذكر إلا بالملك العظيم...
{كما تأكل الأنعام} يحتمل وجوها؛
أحدها: أن الأنعام يهمها الأكل لا غير والكافر كذلك والمؤمن يأكل ليعمل صالحا ويقوى عليه.
وثانيها: الأنعام لا تستدل بالمأكول على خالقها والكافر كذلك.
وثالثها: الأنعام تعلف لتسمن وهي غافلة عن الأمر، لا تعلم أنها كلما كانت أسمن كانت أقرب إلى الذبح والهلاك، وكذلك الكافر ويناسب ذلك قوله تعالى: {والنار مثوى لهم}. المسألة الرابعة: قال في حق المؤمن {إن الله يدخل} بصيغة الوعد، وقال في حق الكافر {والنار مثوى لهم} بصيغة تنبئ عن الاستحقاق لما ذكرنا أن الإحسان لا يستدعي أن يكون عن استحقاق، فالمحسن إلى من لم يوجد منه ما يوجب الإحسان كريم، والمعذب من غير استحقاق ظالم.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{إن الله} أي الذي له جميع الكمال {يدخل الذين آمنوا} أي أوقعوا التصديق {وعملوا} تصديقاً لما ادعوا أنهم أوقعوه {الصالحات} فتمتعوا بما رزقهم الله من الملاذ لا على وجه أنها ملاذ بل على وجه أنها مأذون فيها، وهي بلاغ إلى الآخرة وأكلوا لا للترفه بل لتقوية البدن على ما أمروا به تقوتاً لا تمتعاً {جنات} أي بساتين عظيمة الشأن موصوفة بأنها {تجري} وبين قرب الماء من وجهها بقوله: {من تحتها الأنهار} أي فهي دائمة النمو والبهجة والنضارة والثمرة...
{والذين كفروا} أي غطوا ما دل عليه العقل فعملوا لأجل كفرهم الأعمال الفاسدة المبعدة عن جناب الله {يتمتعون} أي في الدنيا بالملاذ لكونها ملاذ كما تتمتع الأنعام، ناسين ما أمر الله معرضين عن لقائه بل عن الموت أصلاً بل يكون ذكر الموت حاثاً لهم على الانهماك في اللذات مسابقة له جهلاً منهم بالله {ويأكلون} على سبيل الاستمرار {كما تأكل الأنعام} أكل التذاذ ومرح من أيّ موضع كان وكيف كان الأكل...
. {والنار} أي والحال أن ذات الحرارة العظمى والإحراق الخارج عن الحد {مثوى} أي منزل ومقام {لهم} تنسيهم أول انغماسهم فيها كل نعيم كانوا فيه ثم لا يصير لهم نعيم ما- أصلاً، بل لا ينفك عنهم العذاب وقتاً ما-...
روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي 1270 هـ :
وأسند إدخال الجنة إلى الله تعالى ولم يسلك نحو هذا المسلك في قوله تعالى: {والنار مَثْوًى لَّهُمْ} وخولف بين الجملتين فعلية واسمية للإيذان بسبق الرحمة والإعلام بمصير المؤمنين والوعد بأن عاقبتهم أن الله سبحانه يدخلهم جنات وأن الكافرين مثواهم النار وهم الآن حاضرون فيها ولا يدرون وكالبهائم يأكلون.
تفسير القرآن للمراغي 1371 هـ :
والخلاصة: إن المؤمنين عرفوا أن نعيم الدنيا ظل زائل فتركوا الشهوات، وتفرغوا للصالحات، فكانت عاقبتهم النعيم المقيم في مقام كريم، وإن الكافرين غفلوا عن ذلك فرتعوا في الدمن كالبهائم حتى ساقهم الخذلان، إلى مقرهم من درك النيران، أعاذنا الله منها...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار. والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام، والنار مثوى لهم.. والذين آمنوا وعملوا الصالحات يتمتعون في الأرض أحيانا من أطيب المتاع؛ ولكن الموازنة هنا إنما تقوم بين النصيب الحقيقي الضخم للمؤمنين -وهو نصيبهم في الجنة- والنصيب الكلي للكافرين الذي لا نصيب لهم سواه...
. ونصيب الذين كفروا متاع وأكل (كما تأكل الأنعام).. وهو تصوير زري، يذهب بكل سمات الإنسان ومعالمه؛ ويلقي ظلال الأكل الحيواني الشره، والمتاع الحيواني الغليظ. بلا تذوق، وبلا تعفف عن جميل أو قبيح...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
صحيح أنّ كلا الفريقين يعيشون في الدنيا، ويتنعّمون بمواهبها ولذّاتها، إلاّ أنّ الفرق يكمن في أنّ هدف المؤمنين هو القيام بالأعمال الصالحة، والأعمال المفيدة البنّاءة لجلب رضى الله تعالى. أمّا الكافرون فإنّ هدفهم ينصب على الأكل والشرب والنوم والتمتّع بلذّات الحياة. المؤمنون يتحرّكون حركة واعية هادفة، والكافرون يحيون بلا هدف، ويموتون بلا هدف، كالأنعام تماماً. المؤمنون يضعون شروطاً كثيرة للتمتع بنعم الحياة، فهم يدقّقون في مشروعية طرق الحصول عليها، كما يدقّقون كيف ينفقونها، أمّا الكافرون فإنّهم كالدّواب لا يهمها أن يكون علفها من أرض صاحبها أو يكون مغصوباً، وسواء كان من حق يتيم أو عجوز بائسة أم لا؟ عندما يتنعّم المؤمنون بنعمة، فإنّهم يفكّرون في واهبها، ويتدبّرون في آياته، ويشكرونه عليها، أمّا الكافر الغافل فلا يفكّر في أي شيء لغفلته، وهو يضيف إلى حمله حملاً جديداً من الظلم والذنوب باستمرار، ويدني نفسه من الهلاك بعد أن تثقله الأوزار، حاله في ذلك حال الأغنام السمينة، فهي كلّما تأكل أكثر، وتسمن أكثر، تكون أقرب إلى الذبح...