ثم أمر - سبحانه - رسوله صلى الله عليه وسلم للمرة الرابعة ، أن يرد على ما كانوا يتمنونه بالنسبة له ولأصحابه فقال : { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ الله وَمَن مَّعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَن يُجِيرُ الكافرين مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } .
ولقد كان المشركون يتمنون هلاك النبى صلى الله عليه وسلم ، وكانوا يرددون ذلك فى مجالسهم ، وقد حكى القرآن عنهم ذلك في آيات منها قوله - تعالى - :
{ أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ المنون } أي : قل لهم - أيها الرسول الكريم - { أَرَأَيْتُمْ } أي : أخبروني { إِنْ أَهْلَكَنِيَ الله } . - تعالى - وأهلك - { وَمَن مَّعِيَ } من أصحابي وأتباعي { أَوْ رَحِمَنَا } بفضله وإحسانه بأن رزقنا الحياة الطويلة ، ورزقنا النصر عليكم .
فأخبروني في تلك الحالة { فَمَن يُجِيرُ الكافرين مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } أي : من يستطيع أحد أن يمنع ذلك عنكم .
قال صاحب الكشاف : كان كفار مكة يدعون على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى المؤمنين بالهلاك ، فأمر بأن يقول لهم : نحن مؤمنون متربصون لإحدى الحسنين : إما أن نهلك كما تتمنون ، فننقلب إلى الجنة ، أو نرحم بالنصرة عليكم ، أما أنتم فماذا تصنعون ؟ من يجيركم - وأنتم كافرون - من عذاب أليم لا مفر لكم منه .
يعني : إنكم تطلبون لنا الهلاك الذي هو استعجال للفوز والسعادة ، وأنتم في أمر هو الهلاك الذي لا هلاك بعده . .
والمراد بالهلاك : الموت ، وبالرحمة : الحياة والنصر بدليل المقابلة ، وقد منح الله - تعالى - نبيه العمر المبارك النافع ، فلم يفارق صلى الله عليه وسلم الدنيا إلا بعد أن بلغ الرسالة ، وأدى الأمانة ، ودخل الناس في دين الله أفواجا ، وكانت كلمته هى العليا .
والاستفهام في قوله { أَرَأَيْتُمْ } للإنكار والتعجيب من سوء تفكيرهم .
والرؤية علمية ، والجملة الشرطية بعدها سدت مسد المفعولين .
وقال - سبحانه - { فَمَن يُجِيرُ الكافرين } للإشارة إلى أن كفرهم هو السبب في بوارهم ، وفي نزول العذاب الأليم بهم .
ولقد كانوا يتربصون بالنبي [ صلى الله عليه وسلم ] والحفنة المؤمنة التي معه أن يهلكوا فيستريحوا منهم ؛ وكانوا يتواصون بينهم بالصبر عليه حتى يوافيه الأجل ، فتسكن هذه الزوبعة التي أثارتها الدعوة في صفوفهم . كما كانوا يتبجحون أحيانا فيزعمون أن الله سيهلك محمدا ومن معه لأنهم ضالون ، ولأنهم يكذبون على الله فيما يقولون ! فهنا أمام مشهد الحشر والجزاء ، ينبههم إلى أن أمنيتهم حتى لو تحققت لا تعصمهم هم من عاقبة الكفر والضلال . فأولى لهم أن يتدبروا أمرهم قبل هذا الموعد الذي واجههم به كأنه واقع بهم :
( قل : أرأيتم إن أهلكني الله ومن معي أو رحمنا ، فمن يجير الكافرين من عذاب أليم ? ) . .
وهو سؤال يردهم إلى تدبر حالهم ، والتفكير في شأنهم ، وهو الأولى ! فما ينفعهم أن تتحقق أمانيهم فيهلك الله النبي ومن معه - كما لا ينقذهم بطبيعة الحال أن يرحم الله نبيه ومن معه . والله باق لا يموت . وهو الذي ذرأهم في الأرض وإليه يحشرون . .
ولكنه لا يقول لهم : فمن يجيركم من عذاب أليم ? ولا ينص على أنهم كافرون . إنما يلوح لهم بالعذاب الذي ينتظر الكافرين : ( فمن يجير الكافرين من عذاب أليم ) . . وهو أسلوب في الدعوة حكيم ، يخوفهم من ناحية ، ويدع لهم فرصة للتراجع عن موقفهم من ناحية . فلو جابههم بأنهم كافرون ، وأنه لا مفر لهم من العذاب الأليم . . فربما جهلوا وحمقوا وأخذتهم العزة بالإثم أمام الاتهام المباشر والتهديد .
ففي بعض الحالات يكون أسلوب التلميح أفعل في النفس من أسلوب التصريح !
يقول تعالى : { قُلْ } يا محمد لهؤلاء المشركين بالله الجاحدين لنعمه : { أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } أي : خَلِّصوا أنفسكم ، فإنه لا منقذ لكم من الله إلا التوبة والإنابة ، والرجوع إلى دينه ، ولا ينفعكم وقوع ما تتمنون لنا من العذاب والنَّكَال ، فسواء عذبنا الله أو رحمنا ، فلا مناص لكم من نكاله وعذابه الأليم الواقع بكم .
هذا تكرير ثان لفعل { قل هو الذي أنشأكم } [ الملك : 23 ] .
كان من بَذاءة المشركين أن يجهروا بتمني هلاك رسول الله صلى الله عليه وسلم وهلاك من معه من المسلمين ، وقد حكى القرآن عنهم { أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون } [ الطور : 30 ] وحكى عن بعضهم { ويَتربص بكم الدوائر } [ التوبة : 98 ] ، وكانوا يتآمرون على قتله ، قال تعالى : { وإذ يَمكر بك الذين كفروا ليُثبتوك أو يقتلوك } [ الأنفال : 30 ] ، فأمره الله بأن يعرفهم حقيقةً تدحض أمانيَّهم ، وهي أن موت أحد أو حياته لا يغني عن غيره ما جرَه إليه عمله ، وقد جرَّت إليهم أعمالهم غضب الله ووعيده فهو نائلهم حَيي الرسول صلى الله عليه وسلم أو بادره المنون ، قال تعالى : { فإمَّا نذهبَنَّ بك فإنّا منهم منتقمون أو نُرينك الذي وعدناهم فإنا عليهم مقتدرون } [ الزخرف : 41 ، 42 ] وقال : { وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإن مِتَّ فهُم الخالدون } [ الأنبياء : 34 ] وقال : { إنك مَيت وإنهم ميتون } [ الزمر : 30 ] أي المشركين ، وقد تكرر هذا المعنى وما يقاربه في القرآن ، وينسب إلى الشافعي :
تمنَّى رجال أن أموت فإنْ أمت *** فتلكَ سبيل لستُ فيها بأوْحَدِ
فقد يكون نزول هذه الآيات السابقة صادف مقالة من مقالاتهم هذه فنزلت الآية في أثنائها وقد يكون نزولها لمناسبة حكاية قولهم : { متى هذا الوعد } [ الملك : 25 ] بأن قارنه كلام بذيء مثل أن يقولوا : أبَعْدَ هلاكك يأتي الوَعْد .
والإهلاك : الإِماتة ، ومقابلةُ { أهلكني } ب { رحِمنا } يدل على أن المراد : أو رحمنا بالحياة ، فيفيد أن الحياة رحمة ، وأن تأخير الأجل من النعم ، وإنما لم يؤخر الله أجل نبيئه صلى الله عليه وسلم مع أنه أشرف الرسل لحِكَم أرادها كما دلّ عليه قوله : « حياتي خيرٌ لكم وموْتي خيرٌ لكم » ، ولعلّ حكمة ذلك أن الله أكمل الدين الذي أراد إبلاغه فكان إكماله يوم الحج الأكبر من سنة ثلاث وعشرين من البعثة ، وكان استمرار نزول الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم خصِّيصية خصّه الله بها من بين الأنبياء ، فلما أتم الله دينه ربا برسوله صلى الله عليه وسلم أن يبقى غير متصل بنزول الوحي فنقله الله إلى الاتصال بالرفيق الأعلى مباشرة بلا واسطة ، وقد أشارت إلى هذا سورة { إذا جاء نصر الله من قوله : { ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجاً فسبح بحمد ربك واستغفره } [ النصر : 13 ] . ولله درَ عبد بني الحسحاس في عبرته بقوله :
رأيت المنايا لم يدعْنَ محمداً *** ولا باقياً إلاَّ لَهْ الموتُ مُرْصَداً
وقد عوضه الله تعالى بحياة أعلى وأجل ، إذ قال { ورفعنا لك ذكرك } [ الشرح : 4 ] ، وبالحياة الأبدية العاجلة وهي أنه يَرُدُّ عليه روحَه الزكية كلَّما سلّم عليه أحد فيردّ عليه السلام كما ثبت بالحديث الصحيح .
وإنما سمَّى الحياة رحمة له ولمن معه ، لأن في حياته نعمة له وللناس ما دام الله مقدراً حياته ، وحياة المؤمن رحمة لأنه تكثر له فيها بركة الإِيمان والأعمال الصالحة .
والاستفهام في { أرأيتم } إنكاري أنكر اندفاعهم إلى أمنيات ورغائب لا يجتنون منها نفعاً ولكنها مما تمليه عليهم النفوس الخبيثة من الحقد والحسد .
والرؤية علمية ، وفعلها معلق عن العمل فلذلك لم يرد بَعْدَه مفعولاه ، وهو معلق بالاستفهام الذي في جملة جواب الشرط ، فتقدير الكلام : أرأيتم أنفسكم ناجين من عذاب أليم إن هلكتُ وهلك من معي ، فهلاكنا لا يدفع عنكم العذاب المُعدّ للكافرين .
وأُقحم الشرط بين فعل الرؤية وما سدّ مسد مفعوليه .
والفاء في قوله : { فمن يأتيكم } [ الملك : 30 ] رابطة لجواب الشرط لأنه لما وقع بعد ما أصلُه المبتدأ والخبرُ وهو المفعولان المقدّران رُجّح جانب الشرط .
والمعية في قوله : { ومن معي } معية مجازية ، وهي الموافقة والمشاركة في الاعتقاد والدين ، كما في قوله تعالى : { محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار } [ الفتح : 29 ] الآية ، أي الذين آمنوا معه ، وقوله : { والذين ءامنوا معه نورهم يسعى بين أيديهم } [ التحريم : 8 ] كما أطلقت على الموافقة في الرأي والفهم في قول أبي هريرة : « أنا مع ابن أخي » ، يعني موافق لأبي سلمة بن عبد الرحمان ، وذلك حين اختلف أبو سلمة وابن عباس في المتوفّى عنها الحامل إذا وضعتْ حملها قبل مضي عدة الوفاة .
والاستفهام بقوله : { فمن يجير الكافرين } الخ إنكاري ، أي لا يجيرهم منه مجير ، أي أظننتم أن تجدوا مجيراً لكم إذا هَلَكنا فذلك متعذر فماذا ينفعكم هلاكنا .
والعذاب المذكور هنا ما عبّر عنه بالوعد في الآية قبلها .
والمراد ب { الكافرين } جميع الكافرين فيشمل المخاطبين .
والكلام بمنزلة التذييل ، وفيه حذف ، تقديره : من يجيركم من عذاب فإنكم كافرون ولا مجير للكافرين .
وذُكر وصف { الكافرين } لما فيه من الإيماء إلى علة الحكم لأنه وصف إذا علق به حكم أفاد تعليل ما منه اشتقاق الوصف .
وقرأ الجمهور بفتحة على ياء { أهلكنيَ } ، وقرأها حمزة بإسكان الياء .
وقرأ الجمهور ياء { معيَ } بفتحة . وقرأها أبو بكر عن عاصم وحمزة والكسائي بسكون الياء .