ثم انتقل القرآن إلى سرد بعض الرذائل التى عرف بها اليهود وعرف بها أسلافهم ، وبين سوء مصيرهم ومصير كل من يفعل فعلهم فقال - تعالى - : { إِنَّ الذين يَكْفُرُونَ . . } .
أنت ترى أن الله - تعالى - قد وصف هؤلاء المارقين بصفات ينفر منها كل عاقل وصفهم أولا بأنهم : { يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ الله } أى لا يكتفون بالكفر بالله - تعالى - ، بل يكفرون بالآيات المثبتة لوحدانيته ، وبالرسل الذين جاؤوهم بالهدى والحق .
ووصفهم ثانيا بأنهم { يَقْتُلُونَ النبيين بِغَيْرِ حَقٍّ } وقتل النبيين بغير حق فعل معروف عن اليهود ، فهم الذين قتلوا زكريا - عليه السلام - لأنه حاول أن يخلص ابنه يحيى -عليه السلام - من القتل وقتلوا يحيى لأنه لم يوافقهم في أهوائهم وحاولوا قتل عيسى - عليه السلام - ولكن الله تعالى نجاه من مكرهم ، وقتلوا غيرهم من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام .
فإن قيل إن اليهود ما قتلوا كل الأنبياء فلم أخبر القرآن عنه أنهم يقتلون النبيين ولم يقل يقتلون بعض النبيين ؟
فالجواب أنهم بقتلهم لبعض النبيين فقد استهانوا بمقام النبوة ، ومن استهان بمقام النبوة بقتله لبعض الأنبياء فكأنه قد قتل الأنبياء جميعا ، ونظير هذا قوله - تعالى - : { مِنْ أَجْلِ ذلك كَتَبْنَا على بني إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأرض فَكَأَنَّمَا قَتَلَ الناس جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً } وقيد القتل بأنه { بِغَيْرِ حَقٍّ } مع أن قتل الأنبياء لا يكون بحق أبداً ، للتصريح بموضع الاستنكار ، لأن موضع الاستنكار هو اعتداؤهم على الحق بقتلهم الأنبياء ، وللإشارة إلى أنهم لتوغلهم في الظلم والعدوان قد صاروا أعداء للحق لا يألفونه ولا تميل إليه نفوسهم ، وللتسجيل عليهم أن هذا القتل للأنبياء كان مخالفاً لما في شريعتهم فإنها قد نهتهم عن قتلهم ، بل عن مخالفتهم . فهذا القيد من باب الاحتجاج عليهم بما نهت عنه شريعتهم لتخليد مذمتهم في كل زمان ومكان .
وقال - سبحانه - { بِغَيْرِ حَقٍّ } بصيغة التنكير ، لعموم النفي ، بحيث يتناول الحق الثابت ، والحق المزعوم ، أى أنهم لم يكونوا معذروين بأي لون من ألوان العذر في هذا الاعتداء فقد أقدموا على ما أقدموا عليه وهم يعلمون أنهم على الباطل ، فكان فعلهم هذا إجراما في بواعثه وفي حقيقته ، وأفظع أنواع الإجرام في موضوعه .
وقوله { بِغَيْرِ حَقٍّ } في موضع الحال المؤكدة لمضمون جملة { يَقْتُلُونَ النبيين } إذ لا يكون قتل النبيين إلا كذلك .
ووصفهم ثالثا بأنهم { وَيَقْتُلُونَ الذين يَأْمُرُونَ بالقسط مِنَ الناس } .
والقسط : العدل . يقال : قسَط يقسِط ويقسُط قِسطا ، وأقسط إقساطا إذا عدل .
أى : لا يكتفون بقتل النبيين الذين جاءوا لهدايتهم وسعادتهم ، وإنما يقتلون مع ذلك الذين يأمرونهم بالعدل من مرشديهم ونصحائهم .
وفي قوله { مِنَ الناس } إشارة إلى أنهم ليسوا بأنبياء ، بل من الناس غير المبعوثين .
وفي قرنهم بالأنبياء ، وإثبات أن الاعتداء عليهم قرين الاعتداء على الأنبياء ، إشارة إلى بيان علو منزلتهم ، وأنهم ورثتهم الذين يدعون بدعوتهم .
وعبر عن جرائمهم بصيغة الفعل المضارع - يكفرون ويقتلون لاستحضار صورة أفعالهم الشنيعة في أذهان المخاطبين ، ولإفادة أن أفعالهم هذه متجددة كلما استطاعوا إليها سبيلا ، وللإشعار بأن اليهود المعاصرين للنبى صلى الله عليه وسلم كانوا راضين بفعل آبائهم وأسلافهم ، ولقد حاول اليهود في العهد النبوى أن يقتلوا النبي صلى الله عليه وسلم ولكن الله - تعالى - نجاه من شرورهم .
هذا ، وقد وردت آثار متعددة تصرح بأن اليهود قد دأبوا على قتل الأنبياء والمصلحين ، ومن ذلك ما جاء عن أبي عبيدة بن الجراح أنه قال :
" قلت يا رسول الله : أي الناس أشد عذابا يوم القيامة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أشد الناس عذابا يوم القيامة رجل قتل نبيا ، أو قتل من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر ، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم { إِنَّ الذين يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ الله } الآية . ثم قال : يا أبا عبيدة قتلت بنو إسرائيل ثلاثة وأربعين نبيا من أول النهار في ساعة واحدة ، فقام مائة وسبعون رجلا منهم فأمروا من قتلهم بالمعروف ونهوهم عن المنكر فقتلوهم جميعاً من آخر النهار في ذلك اليوم " " .
هذه بعض جرائمهم فماذا كانت نتيجتها ؟ كانت نتيجتها العذاب الأليم الذى أخبرهم الله به في قوله { فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } .
والجملة الكريمة خبر إن ، وجاز دخول الفاء على خبرها لتضمن اسمها وهو { الذين } معنى الشرط في العموم .
وحقيقة التبشير : الإبخار بما يظهر سرور المخبر - بفتح الباء - على بشرة وجهه ، وهو هنا مستعمل فى ضد حقيقته على سبيل التهكم بهم ، وذلك لأن هؤلاء المعتدين مع أنهم كفروا بآيات الله وقتلوا أنبياءه وأولياءه ، وفعلوا ما فعلوا من منكرات ، مع كل ذلك زعموا أنهم أبناء الله وأحباؤه ، فساق لهم القرآن ما يخبرهم به على سبيل الاستهزاء بعقولهم أن بشارتهم التى يرتقبونها بسبب كفرهم ودعواهم الباطلة هي : العذاب الأليم .
واستعمال اللفظ في ضده عند علماء البيان من باب الاستعارة التهكمية ، لأن تشبيه الشىء بضده لا يروج في عقل العقلاء إلى على معنى التهكم والاستهزاء .
ولكنه لا يدعهم حتى يبين لهم مصيرهم الذي ينتظرهم وينتظر أمثالهم وفق سنة الله الماضية أبدا في المكذبين والبغاة :
( إن الذين يكفرون بآيات الله ، ويقتلون النبيين بغير حق ، ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس ، فبشرهم بعذاب أليم ) .
فهذا هو المصير المحتوم : عذاب اليم . لا يحدده بالدنيا أو بالآخرة . فهو متوقع هنا وهناك .
هذا ذم من الله تعالى لأهل الكتاب فيما ارتكبوه من المآثم والمحارم في تكذيبهم بآيات الله قديما وحديثا ، التي بلغتهم إياها الرسل ، استكبارًا عليهم وعنادًا لهم ، وتعاظما على الحق واستنكافا عن اتباعه ، ومع هذا قتلوا من قتلوا من النبيين حين بلغوهم عن الله شرعه ، بغير سبب ولا جريمة منهم إليهم ، إلا لكونهم دعوهم إلى الحقّ { وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ } وهذا هو غاية الكبر ، كما قال النبي{[4919]} صلى الله عليه وسلم : " الْكِبْرُ بَطَرُ الحَقِّ وَغَمْط النَّاسِ " .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو الزُّبَيْر الحسن بن علي بن مسلم النيسابوري ، نزيل مكة ، حدثني أبو حفص عمر بن حفص - يعني ابن ثابت بن زرارة الأنصاري - حدثنا محمد بن حمزة ، حدثني أبو الحسن مولى لبني أسد ، عن مكحول ، عن قبيصة بن ذؤيب الخزاعي ، عن أبي عبيدة بن الجراح ، رضي الله عنه قال : قلت يا رسول الله ، أي الناس أشد عذابا يوم القيامة ؟ قال : " رَجلٌ قَتَلَ نَبِيا أوْ مَنْ أمر بِالمْعْرُوفِ ونَهَى عَنِ المُنْكَر " . ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم : { إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [ إلى قوله : { وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ } ]{[4920]} الآية . ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا أبَا عُبَيَدَةَ ، قَتَلَتْ بَنُو إسْرَائِيلَ ثَلاثَةً وأَرْبَعين نَبيا ، من أوَّلِ النّهَارِ في ساعةٍ وَاحِدَةٍ ، فَقَامَ مِائَة{[4921]} وسَبْعُونَ رَجُلا مِنْ بَني إسْرائيلَ ، فأمَرُوا مَنْ قَتَلَهُم بالْمَعْرُوفِ ونَهَوْهُمْ عَنِ المنكرِ ، فقتلوا جَمِيعًا مِنْ آخِرِ النَّهارِ مِنْ ذَلكَ اليَوْمِ ، فَهُم الذِينَ ذَكَرَ اللهُ ، عَزَّ وَجَلَّ " .
وهكذا رواه ابن جرير عن أبي عبيد الوصّابي محمد بن حفص ، عن ابن حُمَيْر ، عن أبي الحسن مولى بني أسد ، عن مكحول ، به{[4922]} .
وعن عبد الله بن مسعود ، رضي الله عنه ، قال : قتلت بنو إسرائيل ثلاثمائة نبي من أول النهار ، وأقاموا سوق بَقْلِهِمْ من آخره . رواه ابن أبي حاتم . ولهذا لما أن تكبروا عن الحق واستكبروا على الخلق ، قابلهم الله على ذلك بالذلة والصغار في الدنيا والعذاب المهين في الآخرة ، فقال : { فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } أي : موجع مهين .
قال محمد بن جعفر بن الزبير وغيره : إن هذه الآية في اليهود والنصارى .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : وتعم كل من كان بهذه الحال ، والآية توبيخ للمعاصرين لرسول الله صلى الله عليه وسلم بمساوىء أسلافهم وببقائهم أنفسهم على فعل ما أمكنهم من تلك المساوىء لأنهم كانوا حرصى{[3046]} على قتل محمد عليه السلام ، وروي أن بني إسرائيل قتلوا في يوم واحد سبعين نبياً وقامت سوق البقل بعد ذلك{[3047]} ، وروى أبو عبيدة بن الجراح عن النبي عليه السلام : أنهم قتلوا ثلاثة وأربعين نبياً فاجتمع من خيارهم وأحبارهم مائة وعشرون ليغيروا وينكروا فقتلوا أجمعين كل ذلك في يوم واحد{[3048]} وذلك معنى قوله تعالى : { ويقتلون الذين يأمرون بالقسط } وقوله تعالى : { بغير حق } مبالغة في التحرير للذنب إذ في الإمكان{[3049]} أن يقتضي ذلك أمر الله تعالى بوجه ما من تكرمة نبي أوغير ذلك ، وعلى هذا المعنى تجيء أفعل من كذا إذا كان فيها شياع{[3050]} مثل أحب وخير وأفضل ونحوه مقولة من شيئين ظاهرهما الاشتراك{[3051]} بينهما .
وقرأ جمهور الناس : «ويقتلون الذين » وقرأ حمزة وجماعة من غير السبعة «ويقاتلون الذين » وفي مصحف ابن مسعود «وقاتلوا الذين » ، وقرأها الأعمش ، وكلها متوجهة وأبينها قراءة الجمهور ، والقسط العدل ، وجاءت البشارة بالعذاب من حيث نص عليه وإذا جاءت البشارة مطلقة فمجملها فيما يستحسن ، ودخلت الفاء في قوله : { فبشرهم } لما في الذي من معنى الشرط في هذا الموضع فذلك بمنزلة قولك : الذي يفعل كذا فله إذا أردت أن ذلك إنما يكون له بسبب فعله الشيء الآخر فيكون الفعل في صلتها وتكون بحيث لم يدخل عليها عامل يغير معناها كليت ولعل ، وهذا المعنى نص في كتاب سيبويه في باب ترجمة هذا باب الحروف التي تتنزل منزلة الأمر والنهي لأن فيها معنى الأمر والنهي{[3052]} .
استئناف لبيان بعض أحوال اليهود ، المنافية إسلامَ الوجه لله ، فالمراد بأصحاب هذه الصلات خصوص اليهود ، وهم قد عُرفوا بمضمون هذه الصلات في مواضع كثيرة من القرآن . والمناسبة : جريان الجدال مع النصارى وأن جُعلوا جميعاً في قَرَن قولِه : { وقل للذين أوتوا الكتاب والأمين أأسلمتم } ( آل عمران : 20 ) .
( وجيء في هاته الصلات بالأفعال المضارعة لتدل على استحضار الحالة الفظية ، وليس المراد إفادة التجدّد ؛ لأنّ ذلك وإن تأتَّى في قوله : { يكفرون } لا يتأتَّى في قوله : { ويقتلون } لأنَّهم قتلوا الأنبياء والذين يأمرون بالقسط في زمنٍ مضى . والمراد من أصحاب هذه الصلات يهود العَصر النبوي : لأنّهم الذين توعّدهم بعذاب أليم ، وإنّما حَمَل هؤلاء تبِعة أسلافهم لأنّهم معتقدون سداد ما فعله أسلافهم ، الذين قتلوا زكرياء لأنّه حاول تخليصَ ابنه يَحيَى من القتل ، وقتلوا يحيَى لإيمانه بعيسى ، وقتلوا النبي إرْمِيَاء بمصر ، وقتلوا حزقيال النبي لأجل توبيخه لهم على سوء أفعالهم ، وزعموا أنّهم قتلوا عيسى عليه السلام ، فهو معدود عليهم بإقرارهم وإن كانوا كاذبين فيه ، وقَتَل مَنشا ابنُ حزقيال ، ملكُ إسرائيل ، النبي أشعياء : نشره بالمِنشار لأنّه نهاه عن المنكر ، بمرأى ومسمع من بني إسرائيل ، ولم يحموه ، فكان هذا القتل معدوداً عليهم ، وكم قتلوا ممّن يأمرون بالقسط ، وكل تلك الجرائم معدودة عليهم ؛ لأنّهم رضُوا بها ، وألَحّوا في وقوعها .
وقوله : { بغير حق } ظرف مستقر في موضع الحال المؤكّدة لمضمون جملةِ { يقتلون النبيّئين } إذ لا يكون قتل النبيّئين إلاّ بغير حق ، وليس له مفهوم لظهور عدم إرادة التقييد والاحترازِ ؛ فإنّه لا يقتل نبيء بحق ، فذكر القيد في مثله لا إشكال عليه ، وإنّما يجيء الإشكال في القيد الواقع في حَيّز النفي ، إذا لم يكن المقصود تسلّط النفي عليه مثل قوله تعالى : { لا يسألون الناس إلحافاً } [ البقرة : 273 ] وقولِه : { ولا تكونوا أول كافر به ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً } وقد تقدم في سورة البقرة ( 41 .
والمقصود من هذه الحال زيادة تشويه فعلهم .
ولما كان قوله : { ويقتلون الذين يأمرون بالقسط } مومئاً إلى وجه بناء الخبر : وهو أنَّهم إنّما قتلوهم لأنّهم يأمرون بالقسط أي بالحق ، فقد اكتفي بها في الدلالة على الشناعة ، فلم تحتج إلى زيادة التشنيع .
وقرأ الجمهور من العشرة { يقتلون } الثاني مثل الأول بسكون القاف وقرأه حمزة وحده « ويُقاتلون » بفتح القاف بعدها بصيغة المفاعلة وهي مبالغة في القتل .
والفاء في { فبشّرهم } فاء الجواب المستعملةُ في الشرط ، دخلت على خبر إنّ لأنّ اسم إنّ وهو موصول تضمن معنى الشرط ، إشارة إلى أنّه ليس المقصود ، قوماً معيّنين ، بل كل من يتَّصف بالصلة فجزاؤه أنّ يَعلم أنّ له عذاباً أليماً . واستعمل بشّرهم في معنى أنذرهم تهكّماً .
وحقيقة التبشير : الإخبار بما يُظهر سرور المخبَر ( بفتح الباء ) وهو هنا مستعمل في ضدّ حقيقته ، إذ أريد به الإخبار بحصول العذاب ، وهو موجب لحزن المخبَرين ، فهذا الاستعمال في الضدّ معدود عند علماء البيان من الاستعارة ، ويسمّونها تهكّمية لأنّ تشبيه الضدّ بضدّه لا يروج في عقل أحد إلاّ على معنى التهكّم ، أو التمليح ، كما أطلق عمرو ابن كلثوم .
اسم الأضياف على الأعداء ، وأطلق القرى على قتل الأعداء ، في قوله :
نزلتم مَنزل الأضيافِ منّا *** فعَجَّلْنَا القِرى أن تشتمونا
قَرَيْنَاكُم فعَجَّلْنا قِراكــم *** قُبَيْل الصُّبْح مِرْداةً طَحُونا
قال السكاكي : وذلك بواسطة انتزاع شَبه التضادّ وإلحافه بشَبه التناسب .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
{إنّ الّذِينَ يَكْفُرُونَ بآياتِ اللّهِ}: يجحدون حجج الله وأعلامه فيكذّبون بها من أهل الكتابين التوراة والإنجيل.
{وَيَقْتُلُوُنَ النّبِيّينَ بِغَيْرِ حَقّ}: يعني بذلك أنهم كانوا يقتلون رسل الله الذين كانوا يرسلون إليهم بالنهي عما يأتون من معاصي الله، وركوب ما كانوا يركبونه من الأمور التي قد تقدم الله إليهم في كتبهم بالزجر عنها، نحو زكريا وابنه يحيى وما أشبههما من أنبياء الله.
{وَيَقْتُلُونَ الّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النّاسِ}: بمعنى القتل: هؤلاء أهل الكتاب، كان أتباع الأنبياء ينهونهم ويذكرونهم فيقتلونهم.
حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: ثني حجاج، قال: قال ابن جريج في قوله: {إنّ الّذِينَ يَكْفُرُونَ بآياتِ اللّهِ وَيَقْتُلُونَ النّبِيّينَ بِغَيْرِ حَقّ وَيَقْتُلُونَ الّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النّاسِ} قال: كان ناس من بني إسرائيل ممن لم يقرأ الكتاب كان الوحي يأتي إليهم، فيذكّرون قومهم فيقتلون على ذلك، فهم الذين يأمرون بالقسط من الناس.
فتأويل الآية إذا: إن الذين يكفرون بآيات الله، ويقتلون النبيين بغير حقّ، ويقتلون آمريهم بالعدل في أمر الله ونهيه، الذين ينهونهم عن قتل أنبياء الله وركوب معاصيه.
{فَبَشّرْهُمْ بِعَذَابٍ ألِيمٍ أُولَئِكَ الّذِينَ حَبِطَتْ أعْمَالُهُمْ فِي الدّنْيا وَالاَخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ}: فأخبرهم يا محمد، وأعلمهم أن لهم عند الله عذابا مؤلما لهم.
في هذه الآية جواز إنكار المنكر مع خوف القتل، وأنه منزلة شريفة يستحق بها الثواب الجزيل؛ لأن الله مدح هؤلاء الذين قُتِلُوا حين أَمَرُوا بالمعروف ونَهَوْا عن المنكر. وَرَوَى أبو سعيد الخدري وغيره عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال:"أَفْضَلُ الجِهَادِ كَلِمَةُ حَقٍّ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ" وفي بعض الروايات: "يُقْتَلُ عَلَيْهِ". وَرَوَى أبو حنيفة عن عكرمة عن ابن عباس عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال:"أَفْضَلُ الشّهَدَاءِ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ المطَّلِب وَرَجُلٌ تَكَلَّمَ بِكَلِمَةِ حَقٍّ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ فَقُتِلَ". قال عمرو بن عبيد: لا نعلم عملاً من أعمال البر أفضل من القيام بالقسط يُقْتَلُ عليه...
وإنما قال الله تعالى: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} وإن كان الإخبار عن أسلافهم، مِنْ قِبَلِ أن المخاطَبِينَ من الكفار كانوا راضين بأفعالهم، فأُجْمِلُوا معهم في الإخبار بالوعيد لهم؛ وهذا كقوله تعالى: {قل فلم تقتلون أنبياء الله من قبل} [البقرة: 91] وقوله تعالى: {الذين قالوا إن الله عهد إلينا أن لا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار قل قد جاءكم رسل من قبلي بالبينات وبالذي قلتم فلم قتلتموهم إن كنتم صادقين} [آل عمران: 183]، فنسب القَتْلَ إلى المخاطَبِينَ لأنهم رضوا بأفعال أسلافهم وتولّوهم عليها، فكانوا مشاركين لهم في استحقاق العذاب كما شاركوهم في الرضا بقتل الأنبياء عليهم السلام...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
إن هذه الآية في اليهود والنصارى، وتعم كل من كان بهذه الحال. والآية توبيخ للمعاصرين لرسول الله صلى الله عليه وسلم بمساوئ أسلافهم وببقائهم أنفسهم على فعل ما أمكنهم من تلك المساوئ لأنهم كانوا حرصى على قتل محمد عليه السلام،... {بغير حق}: مبالغة في التحرير للذنب، إذ في الإمكان أن يقتضي ذلك أمر الله تعالى بوجه ما من تكرمة نبي أو غير ذلك...
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
قال بعض علمائنا: هذه الآية دليلٌ على الأمْرِ بالمعروف والنهْيِ عن المنكر، وإنْ أدَّى إلى قَتْلِ الآمِرِ به.
وقد بينّا في كتاب "المشكلين "الأمر بالمعروف والنهيَ عن المنكر وآياته وأخباره وشروطَه وفائدتَه. وسنشيرُ إلى بعضه هاهنا، فنقول:
المسلمُ البالغ القادِرُ يلزمه تغييرُ المنكر؛ والآياتُ في ذلك كثيرة، والأخبارُ متظاهرة، وهي فائدة الرسالة وخلافة النبوة، وهي ولايةُ الإلهية لمن اجتمعت فيه الشروطُ المتقدمة.
وليس من شرطه أن يكونَ عَدْلاً عند أهل السنة. وقالت المبتدعة: لا يغيِّر المنكرَ إلاَّ عَدْل، وهذا ساقط؛ فإن العدالة محصورة في قليل من الْخَلْق والنهيُ عن المنكر عامٌّ في جميع الناس.
فإن استدلُّوا بقوله: {أتأمرون الناسَ بالبِرِّ} [البقرة:44]. وقوله تعالى: {كَبُر مَقْتاً عند الله أنْ تقولُوا ما تفعلون} [الصف:3] ونحوه.
قلنا: إنما وقع الذمّ هاهنا على ارتكاب ما نُهِي عنه، لا عن نَهْيه عن المنكر.
وكذلك ما رُوِي في الحديث من أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم رأى قوماً تُقْرَض شِفَاهُهم بمقاريض من نار، فقيل له: هم الذين يَنْهَوْن عن المنكر ويأتونه، إنما عوقبوا على إتيانهم.
ولا شكَّ في أن النهْيَ عنه ممَّن يأتيه أقبح ممن لا يأتيه عند فاعله فيبعد قبولُه منه.
وأما القدرة فهي أصلٌ، وتكون منه في النفس وتكون في البدن إن احتاج إلى النهْي عنه بيده، فإن خاف على نفسه من تغييره الضربَ أو القتل، فإن رجا زوالَه جاز عند أكثر العلماء الاقتحام عند هذا الغَرَر، وإن لم يَرْجُ زوالَه فأيّ فائدة فيه؟
والذي عنده: أنَّ النية إذا خلصت فليقتحم كيفما كان ولا يُبالي.
فإن قيل: هذا إلقاء بيده إلى التَّهْلُكة.
قلنا: قد بينا معنى الآية في موضعها، وتمامها في شَرْح المشكلين، والله أعلم.
فإن قيل: فهل يَسْتَوي في ذلك المنكر الذي يتعلَّق به حقُّ الله تعالى مع الذي يتعلَّق به حقُّ الآدمي؟
قلنا: لم نر لعلمائنا في ذلك نصّاً. وعندي أنَّ تخليص الآدمي أوجب من تخليص حَقِّ الله تعالى.
اعلم أنه تعالى لما ذكر من قبل حال من يعرض ويتولى بقوله: {وإن تولوا فإنما عليك البلاغ}، أردفه بصفة هذا المتولي؛ فذكر ثلاثة أنواع من الصفات:
الصفة الأولى: قوله: {إن الذين يكفرون بآيات الله}.
فإن قيل: ظاهر الآية يقتضي كونهم كافرين بجميع آيات الله واليهود والنصارى ما كانوا كذلك لأنهم كانوا مقرين بالصانع وعلمه وقدرته والمعاد.
قلنا: الجواب من وجهين الأول: أن نصرف آيات الله إلى المعهود السابق وهو القرآن، ومحمد صلى الله عليه وسلم. الثاني: أن نحمله على العموم، ونقول إن من كذب بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم يلزمه أن يكذب بجميع آيات الله تعالى لأن من تناقض لا يكون مؤمنا بشيء من الآيات إذ لو كان مؤمنا بشيء منها لآمن بالجميع.
الصفة الثانية: قوله تعالى: {ويقتلون النبيين بغير حق} وفيه مسائل:
السؤال الأول: إذا كان قوله {إن الذين يكفرون بآيات الله} في حكم المستقبل، لأنه وعيد لمن كان في زمن الرسول عليه الصلاة والسلام ولم يقع منهم قتل الأنبياء ولا القائمين بالقسط فكيف يصح ذلك؟.
والجواب من وجهين الأول: أن هذه الطريقة لما كانت طريقة أسلافهم صحت هذه الإضافة إليهم، إذ كانوا مصوبين وبطريقتهم راضين، فإن صنع الأب قد يضاف إلى الابن إذا كان راضيا به وجاريا على طريقته. الثاني: إن القوم كانوا يريدون قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم وقتل والمؤمنين إلا أنه تعالى عصمه منهم، فلما كانوا في غاية الرغبة في ذلك، صح إطلاق هذا الاسم عليهم على سبيل المجاز، كما يقال: النار محرقة، والسم قاتل، أي ذلك من شأنهما إذا وجد القابل، فكذا ههنا لا يصح أن يكون إلا كذلك.
السؤال الثاني: ما الفائدة في قوله {ويقتلون النبيين بغير حق} وقتل الأنبياء لا يكون إلا كذلك.
والجواب: والمراد منه شرح عظم ذنبهم، وأيضا يجوز أن يكون المراد أنهم قصدوا بطريقة الظلم في قتلهم طريقة العدل.
السؤال الثالث: قوله: {ويقتلون النبيين} ظاهره مشعر بأنهم قتلوا الكل، ومعلوم أنهم ما قتلوا الكل ولا الأكثر ولا النصف.
والجواب: الألف واللام محمولان على المعهود لا على الاستغراق.
الصفة الثالثة: قوله: {ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس} وفيه مسائل:
المسألة الثانية: قال الحسن: هذه الآية تدل على أن القائم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عند الخوف، تلي منزلته في العظم منزلة الأنبياء، وروي أن رجلا قام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أي الجهاد أفضل؟ فقال عليه الصلاة والسلام: « أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر».
واعلم أنه تعالى كما وصفهم بهذه الصفات الثلاثة، فقد ذكر وعيدهم من ثلاثة أوجه الأول: قوله: {فبشرهم بعذاب أليم} وفيه مسألتان:
المسألة الثانية: هذا محمول على الاستعارة، وهو أن إنذار هؤلاء بالعذاب قائم مقام بشرى المحسنين بالنعيم.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
قال تعالى: {إن الذين يكفرون} وهم الذين خذلهم الله {بآيات الله} في إبراز الاسم الأعظم إشارة إلى عظيم كفرهم بكونه مما أضيف إليه سبحانه وتعالى. قال الحرالي: وفي ذكره بصيغة الدوام ما يقع منهم من الكفر بآيات الله في ختم اليوم المحمدي مع الدجال فإنهم أتباعه {ويقتلون النبيين} في إشعاره ما تمادوا عليه من البغي على الأنبياء...: {من الناس} أي كلهم، سواء كانوا أنبياء أو لا، ويجوز أن يكون المراد بهذا القيد زيادة توبيخهم بأنهم يقتلون جنسهم الذي من حقهم أن يألفوه ويسعوا في بقائه، وهذا تحقيق لأن قتلهم لمجرد العدوان.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس} أي الحكماء الذين يرشدون الناس إلى العدالة العامة في كل شيء ويجعلونها روح الفضائل وقوامها ومرتبتهم في الهداية والإرشاد تلي مرتبة الأنبياء وأثرهم في ذلك يلي أثرهم. ذلك أن جميع طبقات الناس تنتفع بهدي الأنبياء كل صنف بقدر استعداده وأما الحكماء فلا ينتفع بهم إلا بعض الخواص المستعدين لتلقي الفلسفة. ألم تر كيف اصطلم التوحيد وثنية العرب في مدة قليلة بدعوة النبي صلى الله عليه وسلم وكيف عجزت دعوة فلاسفة اليونان إلى التوحيد عن مثل ذلك أو ما يقاربه فلم يستجب لهم فيها في الزمن الطويل إلا قليل من طلاب الفلسفة. ذلك بأن دعوة النبي على ما تختص به من التأييد الإلهي وثأتير روح الوحي لها ثلاثة مظاهر بينها الله تعالى في قوله: {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن} [النحل: 125] فالحكمة ما يدعي به العقلاء وأهل النظر من البراهين والحجج، والموعظة ما يدعي به العوام السذج، والجدل بالتي هي أحسن للمتوسطين الذين لم يرتقوا إلى الاستعداد لطلب الحكمة، ولا ينقادون إلى الموعظة بسهولة بل يبحثون بحثا ناقصا فلا بد من الحسنى في مجادلتهم ومخاطبتهم على قدر عقولهم. وأما الحكماء فإن لهم طريقة واحدة في الدعوة إلى الحق والفضيلة مبنية على طلب العدل في الأفكار والأخلاق. وقد يكون الحكيم الذي يدعو إلى ذلك متدينا ويجري في الإقناع بالدين على الطريقة المذكورة آنفا وقد يكون غير متدين وهو مع ذلك يدعو إلى القسط والعدل من طريق العقل بحسب ما وصل إليه علمه مع الصدق والإخلاص. والإقدام على قتل هؤلاء دليل على غمط العقل، ومقت العدل، وأقبح بذلك جرما، وكفى به إثما. ولم يفسر الأستاذ الإمام الذين يأمرون بالقسط بالحكماء بل قال إن مرتبة هؤلاء تلي مرتبة الأنبياء وقال: إن قوله تعالى: {من الناس} يشعر بقتلهم. وأقول على ما تقدم من الاختيار أنه يشعر بشمول قوله: {الذين يأمرون بالقسط} لمن بلغته دعوة نبي على وجهها فآمن بها ومن لم يكن كذلك وإلا لقال:"والذين يأمرون بالقسط من المؤمنين" وفي هذا من تعظيم شأن الحكمة والعدالة ما فيه من شرف الإسلام وإرشاد أهله إلى أن يكونوا من أهل هذه المرتبة التي تلي مرتبة النبوة: {ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا وما يذكر إلا أولوا الألباب} [البقرة: 269]... وقد يقال إنه ما ظهر أثره في البشرة باستنباط أو انقباض وكآبة ولكنه غلب في الأول. وهذا العذاب يصيب من كان منهم في زمن البعثة في الدنيا ثم يشاركون بمثل ذنوبهم في عذاب الآخرة. وأي الناس أحق بالعذاب الأليم من هؤلاء القساة الطغاة المسرفين في الشر إسرافا جعلهم على منتهى البعد عن النبيين والآمرين بالقسط حتى كان منهم الذين قتلوهم بالفعل ومنهم الذين نفوسهم كنفوس من قتلوا وما يمنعهم عن الفعل إلا العجز {وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك} [الأنفال: 20] فهذه النفوس قد أحاطت بها خطاياها حتى لم يبق فيها منفذ لنور آيات الله التي بها يبصر الحق ويهتدي إلى إقامة القسط ولذلك قال فيهم: {أولئك الذين حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة}...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
هؤلاء الذين أخبر الله عنهم في هذه الآية، أشد الناس جرما وأي جرم أعظم من الكفر بآيات الله التي تدل دلالة قاطعة على الحق الذي من كفر بها فهو في غاية الكفر والعناد ويقتلون أنبياء الله الذين حقهم أوجب الحقوق على العباد بعد حق الله، الذين أوجب الله طاعتهم والإيمان بهم، وتعزيرهم، وتوقيرهم، ونصرهم وهؤلاء قابلوهم بضد ذلك، ويقتلون أيضا الذين يأمرون الناس بالقسط الذي هو العدل، وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي حقيقته إحسان إلى المأمور ونصح له، فقابلوهم شر مقابلة، فاستحقوا بهذه الجنايات المنكرات أشد العقوبات، وهو العذاب المؤلم البالغ في الشدة إلى غاية لا يمكن وصفها، ولا يقدر قدرها المؤلم للأبدان والقلوب والأرواح...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
استئناف لبيان بعض أحوال اليهود، المنافية إسلامَ الوجه لله، فالمراد بأصحاب هذه الصلات خصوص اليهود، وهم قد عُرفوا بمضمون هذه الصلات في مواضع كثيرة من القرآن. والمناسبة: جريان الجدال مع النصارى وأن جُعلوا جميعاً في قَرَن قولِه: {وقل للذين أوتوا الكتاب والأمين أأسلمتم} (آل عمران: 20).
(وجيء في هاته الصلات بالأفعال المضارعة لتدل على استحضار الحالة اللفظية، وليس المراد إفادة التجدّد؛ لأنّ ذلك وإن تأتَّى في قوله: {يكفرون} لا يتأتَّى في قوله: {ويقتلون} لأنَّهم قتلوا الأنبياء والذين يأمرون بالقسط في زمنٍ مضى. والمراد من أصحاب هذه الصلات يهود العَصر النبوي: لأنّهم الذين توعّدهم بعذاب أليم، وإنّما حَمَل هؤلاء تبِعة أسلافهم لأنّهم معتقدون سداد ما فعله أسلافهم، الذين قتلوا زكرياء لأنّه حاول تخليصَ ابنه يَحيَى من القتل، وقتلوا يحيَى لإيمانه بعيسى... وزعموا أنّهم قتلوا عيسى عليه السلام، فهو معدود عليهم بإقرارهم وإن كانوا كاذبين فيه... وكم قتلوا ممّن يأمرون بالقسط، وكل تلك الجرائم معدودة عليهم؛ لأنّهم رضُوا بها، وألَحّوا في وقوعها.
وقوله: {بغير حق} ظرف مستقر في موضع الحال المؤكّدة لمضمون جملةِ {يقتلون النبيّئين} إذ لا يكون قتل النبيّئين إلاّ بغير حق، وليس له مفهوم لظهور عدم إرادة التقييد والاحترازِ؛ فإنّه لا يقتل نبيء بحق، فذكر القيد في مثله لا إشكال عليه، وإنّما يجيء الإشكال في القيد الواقع في حَيّز النفي، إذا لم يكن المقصود تسلّط النفي عليه مثل قوله تعالى: {لا يسألون الناس إلحافاً} [البقرة: 273] وقولِه: {ولا تكونوا أول كافر به ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً} وقد تقدم في سورة البقرة.
والمقصود من هذه الحال زيادة تشويه فعلهم.
ولما كان قوله: {ويقتلون الذين يأمرون بالقسط} مومئاً إلى وجه بناء الخبر: وهو أنَّهم إنّما قتلوهم لأنّهم يأمرون بالقسط أي بالحق، فقد اكتفي بها في الدلالة على الشناعة، فلم تحتج إلى زيادة التشنيع.
وقرأ الجمهور من العشرة {يقتلون} الثاني مثل الأول بسكون القاف وقرأه حمزة وحده « ويُقاتلون» بفتح القاف بعدها بصيغة المفاعلة وهي مبالغة في القتل.
والفاء في {فبشّرهم} فاء الجواب المستعملةُ في الشرط، دخلت على خبر إنّ لأنّ اسم إنّ وهو موصول تضمن معنى الشرط، إشارة إلى أنّه ليس المقصود، قوماً معيّنين، بل كل من يتَّصف بالصلة فجزاؤه أنّ يَعلم أنّ له عذاباً أليماً. واستعمل بشّرهم في معنى أنذرهم تهكّماً.
وحقيقة التبشير: الإخبار بما يُظهر سرور المخبَر (بفتح الباء) وهو هنا مستعمل في ضدّ حقيقته، إذ أريد به الإخبار بحصول العذاب، وهو موجب لحزن المخبَرين، فهذا الاستعمال في الضدّ معدود عند علماء البيان من الاستعارة، ويسمّونها تهكّمية لأنّ تشبيه الضدّ بضدّه لا يروج في عقل أحد إلاّ على معنى التهكّم، أو التمليح،..
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
هذه بعض أعمال أسلاف الذين كانوا يحاجون النبي صلى الله عليه وسلم،وقد ذكرت تلك العمال للدلالة على انهم لا يطلبون الحق،وغنما يلجون في الباطل،وقد ذهبت لجاجتهم إلى درجة ان يقتلوا الداعين إلى الحق،فقتلوا بعض النبيين،وقتلوا بعض الذين يدعون إلى القسط... ولرسالة رسله وصدق دعواتهم،فهم لا يكفرون فقط بالله،بل يكفرون مع ذلك بالآيات الدالة المثبتة،وهذا أقصى ما يصل إليه الضالون،لا يهتدون إلى الحق،ويغلقون عقولهم فلا يمكن ان تصل إليها دعوة الحق،ويمنع الغرض مداركهم من ان تفهم ما تشير إليه الآيات البينات وأمثال هؤلاء لا تجدي معهم محاجة، فهم قوم بور،كما عبر القرآن الكريم عن أمثالهم،وإنهم لكفرهم بالحق وعنادهم،وصم آذانهم عن ان تستمع إلى الداعي إليه اندفعوا فعملوا عملين وهما:قتل النبيين،وقتل الدعاة إلى القسط؛ والقسط هو الحق والميزان والاعتدال والمعقول في كل شيء،وهؤلاء اليهود قد قتلوا بعض النبيين؟ والجواب عن ذلك انهم استهانوا،ومن فعل ذلك مع البعض فقد اعتدى على مقام النبوة فكأنما قتل كل الأنبياء،كما قال تعالى: {من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا} [المائدة 32]...
الإشارة إلى هؤلاء الذين يحاجون بالباطل،ولا يسلمون وجوههم لله،ولا يذعنون للحق،ويقتلون الأنبياء،ويقتلون دعاة الحق؛ هؤلاء بسبب هذه الصفات وهذه العمال حبطت أعمالهم،أي بطلت وأصبحت لا تنتج إلا شرا لصاحبها،كالدابة التي تأكل شر الثمار حتى ينتفخ بطنها من سوء ما تأكل،وحبط العمال ان لا تنتج خيرا لصاحبها،وان يكون الجزاء عليها شرا،وان تكون نتيجتها سوءا،فيحاسب الله الفاعلين على نياتهم التي طويت في صدورهم وعملوا العمال باسم الخير،وهي للشر،وأولئك الأشرار يبطل الله أعمالهم ويحبطها،فجزاؤها شر في الآخرة بعذاب اليم،وفي الدنيا بذهاب دولتهم وسلطانهم؛ لأن الإعراض عن الحق،ومعاقبة من ينطق بكلمة الحق،وقتل الذين يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر،من شانه ان يفسد الدولة،وإذا فسدت الجماعة ذهبت القوة،ولذا قال سبحانه: {وما لهم من ناصرين} أي ليس لهم أي ناصر،فالنفي المستغرق مع تأكيده بمن الزائدة،يفيد انه لا يمكن ان يكون لكن يقتل الداعي إلى الخير ناصر مطلقا؛ لأن الناس لا يثقون به ويتقونه ولا يطمئنون إليه،ولا يمكن ان يعيش امرؤ هنيئا إلا بثقة من الناس.
إذن فالبينات واضحة، إن الذي يكفر بالله يكون قبل ذلك كافرا بالأدلة التي تدل على وجود الخالق. إن الحق لم يقل هنا: إن الذين يكفرون بالله، وذلك حتى يوضح لنا أنّ الحق غيب، ولكن الآيات البينات ظاهرة في الكون، لذلك قال: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّين}. ولنا أن نلاحظ هنا، أن كلمة القتل تأتي دائما للنبيين، أي أنها لا تأتي للذين أخذوا صفة تزيد على مهمة النبي، وهو الرسول، فليس من المعقول أن يرسل الله رسولا ليبلغ منهجا لله، فيُقدر الله خلقه على أن يقتلوا الرسول. ولكن الأنبياء يرسلهم الله ليكونوا أسوة سلوكية للمؤمنين، ولا يأتي الواحد منهم بتشريعات جديدة، أما الرسول فإن الله يبعثه حاملا لمنهج من الله. وليس من المعقول أن يصطفي الله عبدا من عباده ويستخلصه ليبلغ منهجه، ويُمَكّن الله بعد ذلك بعضا من خلقه أن يقتلوا هذا الرسول...
إن وجود النبيّ الذي يتمسك بشرع الله، ويخضع جوارحه، وسلوكه لمنهج الله بين جماعة تدّعي أنها تدين الله، ولكنها لا تتمسك بمنهج الله تحملهم إلى أن يقولوا: لماذا يفعل النبي هذا السلوك القويم، ولماذا يخضع جوارحه لمنطق الإيمان، ونحن غير ملتزمين مثله؟ وهذا السؤال يثير الغيظ والحقد على النبيّ بين هذه الجماعة عير الملتزمة بدين الله، وإن أعْلنت في ظاهر الأمر التزامها بالدين. إنهم يحقدون على النبيّ لأنه يرتفع بسلوكه المسلم، وهم لا يستطيعون أن يرتفعوا ليكونوا مثله. إن النبيّ بسلوكه الخاضع لمنهج الله يكون أسوة واضحة جلية يظهر بها الفرق بين مجرد إعلان الإيمان بمنهج الله، وبين الالتزام السلوكي بمنهج الله، وتكون أسوة النبيّ مُحقرة لفعلهم. ولذلك حين نجد إنسانا ملتزما بدين الله ومنهجه، فإننا نجد غير الملتزم ينال الملتزم بالسخرية والاستهزاء، لماذا؟ لأن غير الملتزم يمتلئ بالغيظ والحقد على الملتزم القادر على إخضاع نفسه لمنهج الله...
ويسأل غير الملتزم نفسه: لماذا يكون هذا الإنسان قادرا على نفسه مخضعا لها لمنهج الله وأنا غير قادر على ذلك؟ إن غير الملتزم يحاول إزاحة الملتزم وإبعاده من أمامه. لماذا؟ لأن غير الملتزم يتضاءل في نظر نفسه ونظر الآخرين إذا ما قارن نفسه بالملتزم بمنهج الله، وعندما يقارن الآخرون بين سلوك الملتزم بمنهج الله وسلوك غير الملتزم بمنهج الله فهم لا يحترمون غير الملتزم فيشعر بالصغار النفسي أمام الملتزم وأمام الناس فيحاول غير الملتزم أن يزيح الملتزم وينحيه عن طريقه، إن غير الملتزمين بمنهج الله يسخرون ويتغامزون على الملتزمين بمنهج الله، كما يقول الحق سبحانه وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ يَضْحَكُونَ، وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ، وَإِذَا انقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُواْ فَكِهِينَ، وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُواْ إِنَّ هَؤُلاَءِ لَضَالُّونَ، وَمَآ أُرْسِلُواْ عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ} [المطففين: 29-33]...
ألا توضح لنا تلك الآيات البينات ما يقوله غير الملتزمين في بعض مجتمعاتنا للملتزمين بمنهج الله؟ إن غير الملتزمين قد يفرح الواحد منهم، لأنه استطاع السخرية من مؤمن ملتزم بالله. وقد يتهم غيرُ الملتزمين إنسانا ملتزما بأن الالتزام ضلال...
إن أتباع النبيّ ينفعلون بحدث قتل النبيّ فإن استطاعوا منع ذلك القتل لفعلوا وإن لم يستطع أتباع النبي منع قتل النبيّ فلا أقل من أن يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر، لكن القتلة يتجاوز طغيانهم فلا يقتلون النبيين فقط فإذا قال لهم منكر لتصرفهم: ولماذا تقتلون النبيين؟ فإنهم يقتلونه أيضا، وبالنسبة لرسولنا محمد صلى الله عليه وسلم، ونحن نعرف أن أعداءه قد صنعوا معه أشياء أرادوا بها اغتياله، وذلك يدل على غباء الذين فكروا في ذلك الاغتيال. لماذا؟ لأنهم لم ينظروا إلى وضعه صلى الله عليه وسلم، فلم يكن نبيا فقط، ولكنه رسول أيضا. وما دام رسولا فهو أسوة وحامل لمنهج في آن واحد، فلو كان محمد صلى الله عليه وسلم نبيا فقط لكان في استطاعتهم أن يقتلوه كما قتلوا النبيين من قبل، لكنه رسول من عند الله، ولقد رأوه يحمل منهجا جديدا، وهذا المنهج يسفه أحلامهم، ويوضح أكاذيبهم، من تبديلهم للكتب المنزلة عليهم...
إذن، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم رسولا يحمل رسالة ومنهجا، وحينما أرادوا أن يقتلوه كنبيّ، غفلوا عن كونه رسولا...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
في أجواء هذه الآيات حديث عن تاريخ أهل الكتاب في إطار الحديث عن الحواجز التي تحول بين الإسلام وبين الانطلاق بعيداً في حياة الآخرين من خلال مؤامرات اليهود وانحرافهم وتعقيدهم ضد كل الرسالات التي لا تُحقق لهم ما يريدونه لأنفسهم من امتيازات وتمنيات وأطماع، بل تعمل على أن تحقق للحياة وللمستضعفين فيها، الفرص الطيّبة التي تهيئ لهم سبل الكرامة والنمو والرخاء، فهم لا يوافقون على ذلك، فقد تحوّل الكتاب عندهم إلى ما يشبه الميزة القومية، التي لا تعني لهم شيئاً إلاَّ بمقدار ما تضيف إلى رصيدهم من امتيازات ذاتية في مقابل الشعوب الأخرى. وبهذه النفسية المعقدة واجهوا الرسول محمد صلى الله عليه وسلم في رسالته كما واجهوا بقية الرسالات والرسل، فقد انطلقت كل الرسالات لتقودهم إلى كتاب الله، ولكنهم وقفوا جميعاً ليحتفظوا بالكتاب كتراثٍ وميزةٍ ومصدر تجارة واستغلال وابتزاز وتأكيد للشخصية المستعلية التي تعتبر نفسها من شعب الله المختار، وتلك هي قصة الصراع بينهم وبين النبيين والذين اتبعوهم ممن يأمر بالقسط، إنه الصراع بين التجارة والرسالة، وبين الشكل والمضمون، وهذا ما جمّد اليهودية عن الانطلاق في الحياة كدعوة ورسالة تدعو الآخرين إلى اعتناقها والدخول فيها، بل حاولت أن تغلق الباب على الذين يدخلون فيها، وتحوّلت إلى قومية تبحث عن اليهودية في نقاء الدم وفي صفاء النسب بعيداً عن الجانب الفكري والعملي. وقد أنزل الله آياته على رسوله، ليعالج هذا الوضع المعقّد، بالحديث عن التاريخ الدموي الإجرامي لهؤلاء الذين يتظاهرون بالسلام والرحمة والقيم الروحية في الحياة من أجل الخداع والغش والحيلة والمكر، وبالتأكيد على خطأ المفاهيم المنحرفة التي يوحون بها إلى أنفسهم مما لا يرجع إلى أساس متين. {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} إن القضية تبدأ بالعناد والتعصب والتنكّر للرسل، وتتحرك بالكفر بآيات الله الذي ينطلق من الرفض النفسي للاقتناع مهما كانت وسائل الإقناع التي تقدم إليهم، وتتحول إلى عُقدةٍ إجرامية، فهم يواجهون آيات الله، ويحسون في أعماقهم بأنها الحق الذي لا جدال فيه، ولكنهم يرفضونه بألسنتهم ومواقفهم ركوناً إلى أطماعهم وشهواتهم وتعقيداتهم المرضيّة، ويخافون أن تنطلق الدعوة إلى الله في حياة الناس الذين يشعرون بالحاجة إلى الإيمان والعدل، ويعمدون إلى النبيين، فيطلبون منهم أن يسكتوا ويتنازلوا عما يدعون إليه على أساس الرغبة والرهبة. ويمتد الأنبياء في صبر الرسالة وهدوء الإيمان، ويستمرون في الدعوة وفي الموقف، ويتعاظم الخطر على المنحرفين، فهذه الأصوات المؤمنة قد بدأت ترتفع من هنا وهناك. فهذا صوتٌ يرتفع بالإيمان، وهذا صوتٌ ينطلق بالعدل، وذاك صوتٌ يهجم على الظلم والبغي والطغيان. وبدأت الأصوات تدق عليهم الأبواب التي يعيشون خلفها، وتقتحم عليهم حالة الأمن والطمأنينة والاسترخاء. وارتفعت الأصوات واشتدت حتى تحولت إلى ما يشبه الثورة، أو هكذا خيّل إليهم في استشرافهم للمستقبل.. فماذا يفعلون؟ لا سبيل إلاّ إلى إخماد الصوت الأول الذي فتح للإنسان كل هذه الآفاق، لتخمد الأصوات الأخرى، ولا طريق إلى ذلك إلا بقتل النبيّ الرسول...
وبدأت المذبحة، مذبحة النبيين في كل صباح ومساء، واختفى النبيون من الساحة ولم تختفِ الأصوات، فقد تحوّل كل واحد منها إلى آلاف الأصوات التي تنطق بالكلمة الواحدة والفكرة الواحدة والهدف الواحد، وضجّت الساحة من جديد بالأمر بالعدل والإنكار على الظلم، وأي ظلم أفظع من ظلم الذين يأمرون بالقسط، وبدأت مذبحة المؤمنين في كل يوم، وما زال التاريخ الدامي يفرض نفسه على ساحة الرسالات، فالظلم لا يستطيع أن يدافع عن نفسه بالحجة والبرهان، لأنه يفقد المبرّر لكل أفكاره وقناعاته، والرسالات لا تستخدم القوة بل الإقناع، لأنها تريد أن تفتح قلوب الناس على الله، وعيون الناس على النور، قبل أن تخضع الواقع لما تريد. وقد تجد في الشهادة روحاً جديدة تعطي الدم للرسالة، ويظل التاريخ الدامي للرسالات، يفتح لها آفاقاً جديدة قد لا يلمحها الذين يصنعونها، ولكنها تشرق على الذين لا يزالون يواصلون الخطى من بعيد. وبعد ذلك... ماذا استفاد هؤلاء المجرمون؟ إنها أيام يعيشونها في استرخاء، ويبدأ العذاب القاتل في الدنيا، في ضمائرهم، وفي الآخرة، عند الله. {فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} ونلاحظ في التعبير بالبشارة بالعذاب أسلوباً من أساليب الاستهزاء بهم وبأفكارهم والتهديد لهم، وذلك لأن البشارة في مفهومها تعني الإخبار بالخبر السارّ الذي يُرتاح إليه ويسرّ به...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
تعقيباً للآية السابقة التي تضمّنت أنّ اليهود والنصارى والمشركين كانوا يجادلون رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ولا يستسلمون للحق، ففي الآية الأولى إشارة إلى بعض علامات هذا الأمر حيث تقول الآية: (إنّ الّذين يكفرون...).
وتشير هذه الآية في البداية إلى ثلاث ذنوب كبيرة وهي الكفر بآيات الله وقتل الأنبياء بغير الحق وقتل الّذين يدعون إلى العدالة ويدافعون عن أهداف الأنبياء، وكلّ واحد من هذه الذنوب يكفي لوحده لجعل الإنسان معانداً ومتصلّباً بكفره وعدم تسليمه للحق، بل يسعى لخنق كلّ صوت يدعو إلى الحقّ.
التعبير ب (يكفرون) و (يقتلون) جاء بصيغة الفعل المضارع وهو إشارة إلى أنّ كفرهم وقتلهم الأنبياء والآمرين بالقسط كان من جملة برنامجهم في الحياة فيرتكبون هذه الأعمال بصورة دائمة ومستمرّة (لأن الفعل المضارع يدلّ على الاستمرارية).
وبطبيعة الحال إنّ هذه الأعمال كانت تصدر عادةً من اليهود حيث نلحظ استمرارهم بهذه الأعمال في زماننا الحاضر بشكل آخر، ولكنّ هذا لا يمنع من عموميّة مفهوم الآية أيضاً.
ثمّ أنّ الآية تشير إلى ثلاثة عقوبات مترتّبة على ارتكاب هذه الذنوب، ففي البداية تشير الآية (فبشرّهم بعذاب أليم).