145- قل - أيها النبي - : لا أجد الآن في مصدر التحليل والتحريم الذي أوحى به إلىَّ طعاماً محرماً على آكل يأكله ، إلا أن يكون هذا الشيء ميتة لم تذَكَّ ذكاة شرعية ، أو دماً سائلا ، أو لحم خنزير ، فإن ذلك المذكور ضارٌّ خبيث لا يجوز أكله أو أن يكون هذا الشيء المحرم فيه خروج من العقيدة الصحيحة ، بأن ذكر عند ذبحه اسم غير الله ، كصنم معبود آخر . على أن من دعته الضرورة إلى أكل شيء من هذه المحرمات غير طالب اللذة بالأكل ، وغير متجاوز قدر الضرورة ، فلا حرج عليه لأن ربك غفور رحيم{[65]} .
ثم أمر الله - تعالى - رسوله صلى الله عليه وسلم بعد إلزام المشركين وتبكيتهم ، وبيان أن ما يتقولونه فى أمر التحريم افتراء محض - بعد كل ذكل أمره بأن يبين لهم ما حمره الله عليهم فقال : { قُل لاَّ أَجِدُ فِي . . . . } .
أى : { قُل } يا محمد لهؤلاء المفترين على الله الكذب فى أمر التحليل والتحريم وغيرهما { لاَّ أَجِدُ فِي مَآ أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً على طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ } .
أى : لا أجد فيما أوحاه الله إلى من القرآن طعاما محرما على أكل يريد أن يأكله من ذكر أو أنثى رداً على قولهم { مُحَرَّمٌ على أَزْوَاجِنَا } والجملة الكريمة تفيد أن طريق التحريم والتحليل إنما هو الوحى وليس مجرد الهوى والتشهى ، وأن الأصل فى الأشياء الحل إلا أن يرد نص بالتحريم .
و { مُحَرَّماً } صفة لموصوف محذوف ، أى : شيئاً محرما ، أو طعاما محرما ، وهو المفعول الأول لأجد ، أما المفعول الثانى فهو { فِي مَآ أُوْحِيَ إِلَيَّ } قدم للاهتمام به .
وقوله { يَطْعَمُهُ } فى موضع الصفة لطاعم جىء به قطعا للمجاز كما فى قوله { وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ } ثم بين - سبحانه - ما حرمه فقال : { إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ } .
أى : لا أجد فيما أوحاه الله إلى الآن شيئاً محرما من المطاعم إلا أن يكون هذا الشىء أو ذلك الطعام { مَيْتَةً } أى : بهيمة ماتت حتف أنفها .
{ أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً } أى : دما مصبوبا سائلا كالدم الذى يخرج من المذبوح عند ذبحه ، لا الدم الجامد كالكبد والطحال ، والسفح : الصب والسيلان .
{ أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ } أى اللحم لأنه المحدث عنه ، أو الخنزير لأنه الأقرب أو جميع ما ذكر من الميتة والدم ولحم الخنزير .
{ رِجْسٌ } أى : قذر خبيث تعافه الطباع السليمة وضار بالأبدان { أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ } أى : خروجا عن الدين ، لكونه عند ذبحه قد ذكر عليه غير اسمه - تعالى - من صنم أو وثن أو طاغون أو نحو ذلك .
والإهلال : رفع الصوت عند رؤية الهلال ، ثم استعمل لرفع الصوت مطلقا ، ومنه إهلال الصبى ، والإهلال بالحج ، وكانوا فى الجاهلية إذا أرادوا ذبح ما قربوه إلى آلهتهم سموا عليها أسماءها - كاللات والعزى - ورفعوا بها أصواتهم ، وسمى ذلك إهلالا .
وإنما سمى { مَاأُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ } فسقا ، لتوغله فى باب الفسق ، والخروج عن الشريعة الصحيحة ، ومنه قوله - تعالى - ( وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسم الله عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ ) .
ثم بين - سبحانه - حكم المضطر فقال : { فَمَنِ اضطر غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ } .
أى : فمن أصابته ضرورة قاهرة ألجأته إلى الأكل من هذه الأشياء المحرمة حالة كونه غير باغ فى أكله ، أى غير طالب للمحرم وهو يجد غيره . أو غير طالب له للذته ، أو على جهة الاستئثار به على مضطر آخر بأن ينفرد بتناوله فيها عن الآخر .
أو حالة كونه - أيضاً - غير عاد فيما يأكل ، أى : غير متجاوز سد الجوعة فلا إثم عليه فى هذه الأحوال .
وباغ : مأخوذ من البغاء وهو الطلب تقول : بغيته بغاء وبغى بغية وبغية أى : طلبته .
وعاد : اسم فاعل بمعنى متعد ، تقول : فلان عدا طوره إذا تجاوز حده وتعداه إلى غيره فهو عاد ، ومنه قوله - تعالى - { بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ } وقوله { فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } أى : فإن ربك واسع المغفرة والرحمة لا يؤاخذ المضطرين ، ولا يكلف الناس بما فوق طاقتهم ، وإنما هو رءوف رحيم بهم يريد بهم اليسر ولا يريد بهم العسر .
والجملة الكريمة جواب الشرط باعتبار لازم المعنى وهو عدم المؤاخذة . وقيل جواب الشرط محذوف : أى فمن اضطر ، فلا مؤاخذة عليه وهذه الجملة تعليل له .
هذا ، والآية الكريمة ليس المقصود منها حصر المحرمات فى هذه الأربعة وإنما المقصود منها الرد على مزاعم المشركين فيما حرموه بغير علم من البحائر والسوائب وغيرها .
قال ابن كثير : الغرض من سياق هذه الآية الرد على المشركين الذين ابتدعوا ما ابتدعوه من تحريم المحرمات على أنفسهم بآرائهم الفاسدة من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام ونحو ذلك . فأمر - تعالى - رسوله أنه لا يجد فيما أوحاه الله إليه أن ذلك محرم ، وأن الذى حرمه هو الميتة وما ذكر معها وما عدا ذلك فلم يحرم ، وإنما هو عفو مسكوت عنه . فكيف تزعمون أنه حرام ؟ ! ومن أين حرمتموه ولم يحرمه الله - تعالى - ؟ ! وعلى هذا فلا ينفى تحريم أشياء أخر فيما بعد هذا . كما جاء النهى عن الحمر الأهلية ولحوم السباع وكل ذى مخلب من الطير " .
وقال القرطبى : والآية مكية ، ولم يكن فى الشريعة فى ذلك الوقت محرم غير هذه الأشياء ، ثم نزلت سورة المائدة بالمدينة وزيد فى المحرمات كالمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وغير ذلك ، وحرم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة أكل كل ذى ناب من السباع وكل ذى مخلب من الطير ، وقد اختلف العلماء فى حكم هذه الآية وتأويلها على أقوال :
الأول : ما أشرنا إليه من أن هذه الآية مكية وكل محرم حرمه رسول الله أو جاء فى الكتاب مضموم إليها ، فهو زيادة حكم من الله على لسان نبيه . على هذا أكثر أهل العلم من أهل النظر والفقه والأثر " .
والخلاصة : أن الآية الكريمة ليس المقصود منها حصر المحرمات فى هذه الأربعة وإنما المقصود منها الرد على مزاعم المشركين ، وذلك أن الكفار . كما قال الإمام الشافعى - لما حرموا ما أحل الله وأحلوا ما حرمه الله وكانوا على المضادة والمحادة جاءت الآية مناقضة لغرضهم ، فكأنه قال - سبحانه - لا حلال إلا ما حرمتموه ولا حرام إلا ما أحللتموه ، نازلا منزلة من يقول : لا تأكل اليوم حلاوة .
فتقول : لا أكل اليوم إلا الحلاوة ، والغرض المضادة لا للنفى والإثبات على الحقيقة .
فهو - تعالى - لم يقصد ما وراء الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به ، إذ القصد إثبات التحريم لا إثبات الحل .
قال إمام الحرمين : وهذا فى غاية الحسن ، ولولا سبق الشافعى إلى ذلك لما كنا نستجيز مخالفة مالك - رضى الله عنه - فى حصر المحرمات فيما ذكرته الآية " .
وفى حكم هذه الآية وتأويلها أقوال أخرى بسطها العلماء فارجع إليها إذا شئت .
والآن وقد كشف لهم عما في معتقداتهم وتصوراتهم وتصرفاتهم من وهن وسخف وهزال . وقد بين لهم أنها لا تقوم على علم ولا بينة ولا أساس . وقد ردهم إلى نشأة الحرث والأنعام التي يتصرفون فيها من عند أنفسهم ، أو بوحي شياطينهم وشركائهم ، بينما هؤلاء لم يخلقوها لهم ، إنما الذي خلقها لهم هو الله ، الذي يجب أن تكون له وحده الحاكمية فيما خلق وفيما رزق ، وفيما أعطى من الأموال للعباد . .
الآن يقرر لهم ما حرمه الله عليهم من هذا كله . ما حرمه الله حقاً عن بينة ووحي ، لا عن ظن ووهم . والله هو صاحب الحاكمية الشرعية ، الذي إذا حرم الشيء فهو حرام ، وإذا أحله فهو حلال ؛ بلا تدخل من البشر ولا مشاركة ولا تعقيب في سلطان الحاكمية والتشريع . . وبالمناسبة يذكر ما حرمه الله على اليهود خاصة ، وأحله للمسلمين ، فقد كان عقوبة خاصة لليهود على ظلمهم وبعدهم عن شرع الله !
( قل : لا أجد فيما أوحي إليّ محرماً على طاعم يطعمه ، إلا أن يكون ميتة ، أو دماً مسفوحاً أو لحم خنزير - فإنه رجس - أو فسقاً أهل لغير الله به . فمن اضطر - غير باغ ولا عاد - فإن ربك غفور رحيم . وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر . ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما - إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم - ذلك جزيناهم ببغيهم وإنا لصادقون . فإن كذبوك فقل : ربكم ذو رحمة واسعة ، ولا يرد بأسه عن القوم المجرمين ) . .
" يقول - جل ثناؤه - لنبيه محمد [ ص ] قل ، يا محمد ، لهؤلاء الذين جعلوا الله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيباً ، ولشركائهم من الآلهة والأنداد مثله . والقائلين : هذه أنعام وحرث حجر لا يطعمها إلا من نشاء - بزعمهم - والمحرمين من أنعام أخر ظهورها ، والتاركين ذكر اسم الله على أخر منها . والمحرمين بعض ما في بطون بعض أنعامهم على إناثهم وأزواجهم ، ومُحليه لذكورهم . المحرمين ما رزقهم الله افتراء على الله ؛ وإضافة ما يحرمون من ذلك إلى أن الله هو الذي حرمه عليهم : أجاءكم من الله رسول بتحريمه ذلك عليكم ، فأنبئونا به ، أم وصاكم الله بتحريمه مشاهدة منكم له ، فسمعتم منه تحريمه ذلك عليكم فحرمتموه ؟ فإنكم كذبة إن ادعيتم ذلك ، ولا يمكنكم دعواه ، لأنكم إذا ادعيتموه علم الناس كذبكم . فإني لا أجد فيما أوحي إلي من كتابه وآي تنزيله شيئاً محرماً على آكل يأكله ، مما تذكرون أنه حرمه من هذه الأنعام التي تصفون تحريم ما حرم عليكم منها - بزعمكم - إلا أن يكون( ميتة ) ، قد ماتت بغير تذكية ، أو ( دماً مسفوحاً ) ، وهو المنصبّ ، أو إلا أن يكون لحم خنزير ( فإنه رجس ) . . ( أو فسقا ) " يقول : أو إلا أن يكون فسقاً ، يعني بذلك : أو إلا أن يكون مذبوحاً ذبحه ذابح من المشركين من عبدة الأوثان لصنمه وآلهته فذكر اسم وثنه . فإن ذلك الذبح فسق ، نهى الله عنه وحرمه ، ونهى من آمن به عن أكل ما ذبح كذلك لأنه ميتة .
" وهذا إعلام من الله - جل ثناؤه - للمشركين الذين جادلوا نبي الله وأصحابه في تحريم الميتة بما جادلوهم به ، أن الذي جادلوهم فيه من ذلك هو الحرام الذي حرمه الله ، وأن الذي زعموا أن الله حرمه حلال أحله الله ؛ وأنهم كذبة في إضافتهم تحريمه إلى الله " . .
وقال في تأويل قوله تعالى : ( فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن ربك غفور رحيم ) :
. . . " أن معناه : فمن اضطر إلى أكل ما حرم الله من أكل الميتة والدم المسفوح أو لحم الخنزير ، أو ما أهل لغير الله به ، غير باغ في أكله إياه تلذذاً ، لا لضرورة حالة من الجوع ؛ ولا عاد في أكله بتجاوزه ما حده الله وأباحه له من أكله ، وذلك أن يأكل منه ما يدفع عنه الخوف على نفسه بترك أكله من الهلاك . . لم يتجاوز ذلك إلى أكثر منه . . فلا حرج عليه في أكله ما أكل من ذلك . ( فإن الله غفور ) فيما فعل من ذلك ، فساتر عليه ، بتركه عقوبته عليه . ولو شاء عاقبة عليه . ( رحيم ) بإباحته إياه أكل ذلك عند حاجته إليه . ولو شاء حرمه عليه ومنعه منه " .
أما حد الاضطرار الذي يباح فيه الأكل من هذه المحرمات ؛ والمقدار المباح منها فحولهما خلافات فقهية . . فرأي أنه يباح ما يحفظ الحياة فقد عند خوف الهلاك لو امتنع . . ورأي أنه يباح ما يحقق الكفاية والشبع . . ورأي أنه يباح فوق ذلك ما يدخر لأكلات أخرى إذا خيف انقطاع الطعام . . ولا ندخل في تفصيلات الفروع . . فهذا القدر منها يكفي في هذا الموضع .
يقول تعالى آمرًا عبده ورسوله محمدًا ، صلوات الله وسلامه عليه : قل لهؤلاء الذين حرموا ما رزقهم الله افتراء على الله : { لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ } أي : آكل يأكله . قيل : معناه : لا أجد شيئًا مما حرمتم حرامًا سوى هذه . وقيل : معناه : لا أجد من الحيوانات شيئًا{[11286]} حرامًا سوى هذه . فعلى هذا يكون ما ورد من التحريمات بعد هذا في سورة " المائدة " ، وفي الأحاديث الواردة ، رافعًا لمفهوم هذه الآية .
ومن الناس من يسمي ذلك نسخًا ، والأكثرون من المتأخرين لا يسمونه نسخًا ؛ لأنه من باب رفع مباح الأصل ، والله أعلم .
قال العَوْفي ، عن ابن عباس : { أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا } يعني : المهراق .
قال عِكْرِمة في قوله : { أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا } لولا هذه الآية لتتبع الناس ما في العُرُوق ، كما تتبعه اليهود .
وقال حماد ، عن عمران بن حُدَير قال : سألت أبا مِجْلَز عن الدم ، وما يتلطخ من الذبح من الرأس ، وعن القِدْر يُرَى فيها الحمرة ، فقال : إنما نهى الله عن الدم المسفوح .
وقال قتادة : حرم من الدماء ما كان مسفوحًا ، فأما لحم خالطه دم فلا بأس به .
وقال ابن جرير : حدثنا المثنى ، حدثنا حجاج بن مِنْهال ، حدثنا حماد ، عن يحيى بن سعيد ، عن القاسم ، عن عائشة : أنها كانت لا ترى بلحوم السباع بأسًا ، والحمرة والدم يكونان على{[11287]} القدر بأسًا ، وقرأت هذه الآية . صحيح غريب{[11288]} .
وقال الحميدي : حدثنا سفيان ، حدثنا عمرو بن دينار قال : قلت لجابر بن عبد الله : إنهم يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن لحوم الحمر الأهلية زمن خيبر ، فقال : قد كان يقول ذلك " الحَكَمُ بنُ عَمْرو " عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولكن أبى ذلك الحبر - يعني ابن عباس - وقرأ : { قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا } الآية .
وهكذا رواه البخاري عن علي بن المديني ، عن سفيان ، به . وأخرجه أبو داود من حديث ابن جُرَيْج ، عن عمرو بن دينار . ورواه الحاكم في مستدركه مع أنه في صحيح البخاري ، كما رأيت{[11289]} .
وقال أبو بكر بن مَرْدُوَيه والحاكم في مستدركه : حدثنا محمد بن على بن دُحَيم ، حدثنا أحمد بن حازم ، حدثنا أبو نُعَيم الفضل بن دُكَيْن ، حدثنا محمد بن شريك ، عن عمرو بن دينار ، عن أبي الشعثاء ، عن ابن عباس قال : كان أهل الجاهلية يأكلون أشياء ويتركون أشياء تقذرا ، فبعث الله نبيه وأنزل كتابه ، وأحل حلاله وحرم حرامه ، فما أحل فهو حلال ، وما حرم فهو حرام ، وما سكت عنه فهو عفو ، وتلا هذه الآية : { قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ [ إِلا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا ] }{[11290]} إلى آخر الآية .
وهذا لفظ ابن مَرْدُوَيه . ورواه أبو داود منفردًا به ، عن محمد بن داود بن صبيح ، عن أبي نعيم به . وقال الحاكم : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه{[11291]} .
وقال الإمام أحمد : حدثنا عفان ، حدثنا أبو عَوَانة ، عن سِمَاك بن حرب ، عن عِكْرِمة ، عن ابن عباس قال : ماتت شاة لسَوْدَة بنت زَمْعَة ، فقالت : يا رسول الله ، ماتت فلانة - تعني الشاة - قال : " فلم لا{[11292]} أخذتم مَسْكها ؟ " . قالت : نأخذ مَسْك شاة قد ماتت ؟ ! فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنما قال الله : { قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزيرٍ } وإنكم لا تطعمونه ، أن تدبغوه فتنتفعوا به " . فأرسلت فسلخت مسكها فدبغته ، فاتخذت منه قربة ، حتى تخرقت عندها{[11293]} .
ورواه البخاري والنسائي ، من حديث الشعبي ، عن عِكْرِمة ، عن ابن عباس ، عن سودة بنت زمعة ، بذلك أو نحوه{[11294]} .
وقال سعيد بن منصور : حدثنا عبد العزيز بن محمد ، عن عيسى بن نُميلَة الفزاري ، عن أبيه قال : كنت عند ابن عمر ، فسأله رجل عن أكل القنفذ ، فقرأ عليه : { قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ [ إِلا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزيرٍ ] }{[11295]} الآية ، فقال شيخ عنده : سمعت أبا هريرة يقول : ذكر عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال : " خبيث من الخبائث " . فقال ابن عمر : إن كان النبي صلى الله عليه وسلم قاله فهو كما قال .
ورواه أبو داود ، عن أبي ثور ، عن سعيد بن منصور ، به{[11296]} .
وقوله تعالى : { فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ } أي : فمن اضطر إلى أكل شيء مما حُرّم في هذه الآية الكريمة ، وهو غير متلبس ببغي ولا عدوان ، { فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } أي : غفور له ، رحيم به .
وقد تقدم تفسير هذه الآية في سورة البقرة بما فيه كفاية .
والمقصود من سياق هذه الآية الكريمة الرد على المشركين الذين ابتدعوا ما ابتدعوه ، من تحريم المحرمات على أنفسهم بآرائهم الفاسدة من البَحِيرة والسائبة والوصيلة والحام ونحو ذلك ، فأمر [ الله ]{[11297]} رسوله أن يخبرهم أنه لا يجد فيما أوحاه الله إليه أن ذلك محرم ، وإنما حُرِّم ما ذكر في [ هذه ]{[11298]} الآية ، من الميتة ، والدم المسفوح ، ولحم الخنزير ، وما أهل لغير الله به . وما عدا ذلك فلم يحرم ، وإنما هو عفو مسكوت عنه ، فكيف تزعمون [ أنتم ]{[11299]} أنه حرام ، ومن أين حرمتموه ولم يحرمه [ الله ]{[11300]} ؟ وعلى هذا فلا يبقى تحريم أشياء أخر فيما بعد هذا ، كما جاء النهي عن لحوم الحمر ولحوم السباع ، وكل ذي مخلب من الطير ، على المشهور من مذاهب{[11301]} العلماء .
{ قل لا أجد فيما أوحي إلي } أي في القرآن ، أو فيما أوحي إلي مطلقا ، وفيه تنبيه على أن التحريم إنما يعلم بالوحي لا بالهوى . { محرما } طعاما محرما . { على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة } أن يكون الطعام ميتة ، وقرأ ابن كثير وحمزة تكون بالتاء لتأنيث الخبر ، وقرأ ابن عامر بالياء ، ورفع ال{ ميتة } على أن كان هي التامة وقوله : { أو دما مسفوحا } عطف على أن مع ما في حيزه أي : إلا وجود ميتة أو دم مسفوحا ، أي مصبوبا كالدم في العروق لا كالكبد والطحال . { أو لحم خنزير فإنه رجس } فإن الخنزير أو لحمه قذر لتعدوه أكل النجاسة أو خبيث محنث { أو فسقا } عطف على لحم خنزير . وما بينهما اعتراض للتعليل . { أهل لغير الله به } صفة له موضحة وإنما سمي ما ذبح على اسم الصنم فسقا لتوغله في الفسق ، ويجوز أن يكون فسقا مفعولا له من أهل وهو عطف على يكون والمستكن فيه راجع إلى ما رجع إليه المستكن في يكون . { فمن اضطر } فمن دعته الضرورة إلى تناول شيء من ذلك { غير باغ } على مضطر مثله . { ولا عاد } قدر الضرورة { فإن ربك غفور رحيم } لا يؤاخذه ، والآية محكمة لأنها تدل على أنه لم يجد فيما أوحي إلى تلك الغاية محرما غير هذه ، وذلك لا ينافي ورود التحريم في شيء أخر فلا يصح الاستدلال بها على نسخ الكتاب بخبر الواحد ولا على حل الأشياء غيرها إلا مع الاستصحاب .