ثم بين - سبحانه - حق المطلقات فقال : { وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بالمعروف حَقّاً عَلَى المتقين } أي وللمطلقات على أزواجهن الذين طلقوهن متاع بالمعروف أي شيء ينتفع به انتفاعاً ممتدا لمدة من الوقت مما تعارف العقلاءي عليه وعلى فائدته للمرأة ، وهذا المتاع جعله الله حقا على المتقين الذين يصونون أنفسهم عن كل ما يبغضه الله - تعالى - .
وقد جعل الله هذا الحق للمطلقة على مطلقها جبراً لوحشة الفراق وإزالة لما قد يكون بين الزوجين من شقاق ، وتخفيفاً لما قد يحيط بجو الطلاق من تنافر وتخاصم وعدم وفاق .
وقال ابن كثير : وقد استدل بهذه الآية من ذهب من العلماء إلى وجوب المتعة لكل مطلقة سواء أكانت مفوضة ، أو مفروضاً لها ، أو مطلقة قبل المسيس ، أو مدخولا بها . وإليه ذهب سعيد بن جبير وغيره من السلف واختاره ابن جرير ، وهو قول عن الشافعي .
وعلى هذا التفسير يكون المراد بالمتاع ما يعطيه الرجل لامرأته التي طلقها زيادة عن الحقوق المقررة لها شرعا ليكون التسريح بإحسان .
ومن العلماء من يرى أن المراد بالمتاع هنا النفقة التي تكون للمطلقة في العدة قال الفخر الرازي : واعلم أن المراد بالمتاع ههنا فيه قولان :
أنه هو المتعة فظاهر هذه الآية يقتضي وجوب هذه المتعة لكل المطلقات .
والقول الثاني " أن المراد بهذه المتعة النفقة ، والنفقة قد تسمى متاعا ، وإذا حملنا هذا المتاع على النفقة اندفع التكرار فكان ذلك أولى " .
ويظهر أن مراد الفخر الرازي بقوله : " اندفع التكرار " أي ما بين هذه الآية التي سبقة وهي قوله - تعالى - : { وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الموسع قَدَرُهُ وَعَلَى المقتر قَدَرُهُ مَتَاعاً بالمعروف حَقّاً عَلَى المحسنين } ولك أن تقول : إنه لا تكرار مع إرادة المتعة التي ليست هي النفقة لأنه في السابقة بين أنها حق للمرأة حين تلطق ولم يكن قد قدر لها حق في المتعة إذا لم يوص لها زوجها بالنفقة .
والآية الثانية تقرر حق المتاع للمطلقات عامة ، وتعلق الأمر كله بالتقوى :
( وللمطلقات متاع بالمعروف حقا على المتقين ) .
وبعضهم يرى أنها منسوخة كذلك بالأحكام السابقة . . ولا حاجة لافتراض النسخ . فالمتاع غير النفقة . . ومما يتمشى مع الإيحاءات القرآنية في هذا المجال تقرير المتعة لكل مطلقة . المدخول بها وغير المدخول بها . المفروض لها مهر وغير المفروض لها . لما في المتعة من تندية لجفاف جو الطلاق ، وترضية للنفوس الموحشة بالفراق . وفي الآية استجاشة لشعور التقوى ، وتعليق الأمر به . وهي الضمان الأكيد والضمان الوحيد .
وقوله : { وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ } قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : لما نزل قوله : { مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ } [ البقرة : 236 ] قال رجل : إن شئتُ أحسنت ففعلت وإن شئتُ لم أفعل . فأنزل الله هذه الآية : { وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ } وقد استدل بهذه الآية من ذهب من العلماء إلى وجوب المتعة لكل مطلقة ، سواء كانت مفوضة أو مفروضًا لها أو مطلقًا{[4192]} قبل المسيس أو مدخولا بها ، وهو قول عن الشافعي ، رحمه الله . وإليه ذهب سعيد بن جبير . وغيره من السلف واختاره ابن جرير . ومن لم يوجبها مطلقا يخصص من هذا العموم بمفهوم قوله : { لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ } وأجاب الأولون : بأن هذا من باب ذكر بعض أفراد العموم فلا تخصيص على المشهور المنصور ، والله أعلم .
القول في تأويل قوله جل ذكره ( وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ )
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بذلك : ولمن طلق من النساء على مطلقها من الأزواج ، " متاع " . يعني بذلك : ما تستمتع به من ثياب وكسوة أو نفقة أو خادم ، وغير ذلك مما يستمتع به . وقد بينا فيما مضى قبل معنى ذلك ، واختلاف أهل العلم فيه ، والصواب من القول من ذلك عندنا ، بما فيه الكفاية من إعادته .
وقد اختلف أهل العلم في المعنية بهذه الآية من المطلقات .
فقال بعضهم : عني بها الثيِّبات اللواتي قد جومعن . قالوا : وإنما قلنا ذلك ، لأن [ الحقوق اللازمة للمطلقات ] غير المدخول بهن في المتعة ، قد بينها الله تعالى ذكره في الآيات قبلها ، فعلمنا بذلك أن في هذه الآية بيان أمر المدخول بهن في ذلك .
5590- حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى بن ميمون ، عن ابن أبي نجيح ، عن عطاء في قوله : " وللمطلقات متاع بالمعروف حقا على المتقين " ، قال : المرأة الثيب يمتعها زوجها إذا جامعها بالمعروف .
5591- حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله وزاد فيه : ذكره شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن عطاء .
وقال آخرون : بل في هذه الآية دلالة على أن لكل مطلقة متعة ، وإنما أنزلها الله تعالى ذكره على نبيه صلى الله عليه وسلم ، لما فيها من زيادة المعنى الذي فيها على ما سواها من آي المتعة ، إذ كان ما سواها من آي المتعة إنما فيه بيان حكم غير الممسوسة إذا طلقت ، وفي هذه بيان حكم جميع المطلقات في المتعة .
5592- حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الوهاب قال ، حدثنا أيوب ، عن سعيد بن جبير في هذه الآية : " وللمطلقات متاع بالمعروف حقا على المتقين " ، قال : لكل مطلقة متاع بالمعروف حقا على المتقين .
5593- حدثنا المثنى قال ، حدثنا حبان بن موسى قال ، أخبرنا ابن المبارك قال ، أخبرنا يونس ، عن الزهري- في الأمة يطلقها زوجها وهي حبلى- قال : تعتد في بيتها . وقال : لم أسمع في متعة المملوكة شيئا أذكره ، وقد قال الله تعالى ذكره : " متاع بالمعروف حقا على المتقين " ، ولها المتعة حتى تضع .
5594- حدثني المثنى قال ، حدثنا حبان بن موسى قال ، أخبرنا ابن المبارك قال ، أخبرنا ابن جريج ، عن عطاء قال : قلت له : أللأمة من الحر متعة ؟ قال : لا . قلت : فالحرة عند العبد ؟ قال : لا= وقال عمرو بن دينار : نعم ، " وللمطلقات متاع بالمعروف حقا على المتقين " .
وقال آخرون : إنما نزلت هذه الآية ، لأن الله تعالى ذكره لما أنزل قوله : وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ ، قال رجل من المسلمين : فإنا لا نفعل إن لم نرد أن نحسن . فأنزل الله : " وللمطلقات متاع بالمعروف حقا على المتقين " ، فوجب ذلك عليهم .
5595- حدثني يونس بن عبد الأعلى قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ ، فقال رجل : فإن أحسنت فعلت ، وإن لم أرد ذلك لم أفعل ! فأنزل الله : " وللمطلقات متاع بالمعروف حقا على المتقين " .
قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك ما قاله سعيد بن جبير ، من أن الله تعالى ذكره أنزلها دليلا لعباده على أن لكل مطلقة متعة . لأن الله تعالى ذكره ذكر في سائر آي القرآن التي فيها ذكر متعة النساء ، خصوصا من النساء ، فبين في الآية التي قال فيها : لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً ، وفي قوله : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ ، ما لهن من المتعة إذا طلقن قبل المسيس ، وبقوله : يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ ، حكم المدخول بهن ، وبقي حكم الصبايا إذا طلقن بعد الابتناء بهن ، وحكم الكوافر والإماء . فعم الله تعالى ذكره بقوله : " وللمطلقات متاع بالمعروف " ذكر جميعهن ، وأخبر بأن لهن المتاع ، كما خص المطلقات الموصوفات بصفاتهن في سائر آي القرآن ، ولذلك كرر ذكر جميعهن في هذه الآية .
وأما قوله : ( حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ ) ، فإنا قد بينا معنى قوله : " حقا " ، ووجه نصبه ، والاختلاف من أهل العربية في قوله : حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ ، ففي ذلك مستغنى عن إعادته في هذا الموضع .
فأما " المتقون " : فهم الذين اتقوا الله في أمره ونهيه وحدوده ، فقاموا بها على ما كلفهم القيام بها خشية منهم له ، ووجلا منهم من عقابه .
عطف على جملة : { والذين يتوفون منكم } [ البقرة : 240 ] جُعل استيفاء لأحكام المتعة للمطلقات ، بعد أن تقدم حكم متعة المطلقات قبل المسيس وقبل الفرض ، فعمم بهذه الآية طلب المتعة للمطلقات كلهن ، فاللام في قوله : { وللمطلقات متاع } لام الاستحقاق .
والتعريف في المطلقات يفيد الاستغراق ، فكانت هذه الآية قد زادت أحكاماً على الآية التي سبقتها . وعن جابر بن زيد قال : لما نزل قوله تعالى : { ومتعوهن على الموسع قدره } إلى قوله : { حقا على المحسنين } [ البقرة : 236 ] قال رجل : إن أحسنت فعلت وإن لم أرد ذلك لم أفعل ، فنزل قوله تعالى : { وللمطلقات متاع بالمعروف حقا على المتقين } فجعلها بيانا للآية السابقة ، إذ عوض وصف المحسنين بوصف المتقين .
والوجه أن اختلاف الوصفين في الآيتين لا يقتضي اختلاف جنس الحكم باختلاف أحوال المطلقات ، وأن جميع المتعة من شأن المحسنين والمتقين ، وأن دلالة صيغة الطلب في الآيتين سواء إن كان استحباباً أو كان إيجاباً . l فالذين حملوا الطلب في الآية السابقة على الاستحباب ، حملوه في هذه الآية على الاستحباب بالأولى ، ومعولهم في محمل الطلب في كلتا الآيتين ليس إلا على استنباط علة مشروعية المتعة وهي جبر خاطر المطلقة استبقاء للمودة ، ولذلك لم يستثن مالك من مشمولات هذه الآية إلا المختلعة ؛ لأنها هي التي دعت إلى الفرقة دون المطلق .
والذين حملوا الطلب في الآية المتقدمة على الوجوب ، اختلفوا في محمل الطلب في هذه الآية فمنهم من طرد قوله بوجوب المتعة لجميع المطلقات ، ومن هؤلاء عطاء وجابر بن زيد وسعيد ابن جبير وابن شهاب والقاسم بن محمد وأبو ثور ، ومنهم من حمل الطلب في هذه الآية على الاستحباب وهو قول الشافعي ، ومرجعه إلى تأويل ظاهر قوله : { وللمطلقات } بما دل عليه مفهوم قوله في الآية الأخرى { ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة } [ البقرة : 236 ] .
180- يحيى: قال مالك عن نافع، عن عبد الله بن عمر، أنه كان يقول: لكل مطلقة متعة إلا التي تطلق وقد فرض لها صداق ولم تمس فحسبها نصف ما فرض لها. وقال مالك: ليس للمتعة عندنا حد معروف، في قليلها ولا في كثيرها.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
ولمن طلق من النساء، على مطلقها من الأزواج "متاع"؛ يعني بذلك: ما تستمتع به من ثياب وكسوة أو نفقة أو خادم، وغير ذلك مما يستمتع به.
وقد اختلف أهل العلم في المعنية بهذه الآية من المطلقات؛
فقال بعضهم: عني بها الثيِّبات اللواتي قد جومعن. قالوا: وإنما قلنا ذلك، لأن الحقوق اللازمة للمطلقات غير المدخول بهن في المتعة، قد بينها الله تعالى ذكره في الآيات قبلها، فعلمنا بذلك أن في هذه الآية بيان أمر المدخول بهن في ذلك.
وقال آخرون: بل في هذه الآية دلالة على أن لكل مطلقة متعة، وإنما أنزلها الله تعالى ذكره على نبيه صلى الله عليه وسلم، لما فيها من زيادة المعنى الذي فيها على ما سواها من آي المتعة، إذ كان ما سواها من آي المتعة إنما فيه بيان حكم غير الممسوسة إذا طلقت، وفي هذه بيان حكم جميع المطلقات في المتعة.
وقال آخرون: إنما نزلت هذه الآية، لأن الله تعالى ذكره لما أنزل قوله: "وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ"، قال رجل من المسلمين: فإنا لا نفعل إن لم نرد أن نحسن. فأنزل الله: "وللمطلقات متاع بالمعروف حقا على المتقين"، فوجب ذلك عليهم.
والصواب من القول: أن الله تعالى ذكره أنزلها دليلا لعباده على أن لكل مطلقة متعة، لأن الله تعالى ذكره ذكر في سائر آي القرآن التي فيها ذكر متعة النساء، خصوصا من النساء، فبين في الآية التي قال فيها: "لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً"، وفي قوله: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ"، ما لهن من المتعة إذا طلقن قبل المسيس، وبقوله: "يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ"، حكم المدخول بهن، وبقي حكم الصبايا إذا طلقن بعد الابتناء بهن، وحكم الكوافر والإماء. فعم الله تعالى ذكره بقوله:"وللمطلقات متاع بالمعروف "ذكر جميعهن، وأخبر بأن لهن المتاع، كما خص المطلقات الموصوفات بصفاتهن في سائر آي القرآن، ولذلك كرر ذكر جميعهن في هذه الآية.
"حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ"؛ فأما المتقون: فهم الذين اتقوا الله في أمره ونهيه وحدوده، فقاموا بها على ما كلفهم القيام بها خشية منهم له، ووجلا منهم من عقابه.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
الإشارة ألا تجمعوا عليهن الفراق والحرمان فيتضاعف عليهن البلاء...
قوله تعالى: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بالمعروف حَقّاً عَلَى المتقين} عادتهم يقولون إنّ هذا أبلغ من قوله: « فَمَتِّعُوهُنّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ» من وجهين: أحدهما: لقوله {حَقّاً عَلَى المتقين} إذا قلنا إنّ المتّقي مرادف للمؤمن، فأفاد وجوبها على عموم المؤمنين وتلك اقتضت خصوص وجوبها بالمحسنين فقط. الثاني: أن ذلك أمر وهذا خبر في معنى الأمر وورود الأمر عندهم بصيغة الخبر أبلغ لاقتضائه ثبوت الشيء المأمور به ووقوعه في الوجود حتى صار مخبرا عنه بذلك...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما ذكر سبحانه وتعالى متاع المتوفى عنهن عقبه متاع المطلقات تأكيداً للحكم بالتكرير وتعميماً بعد تخصيص بعض أفراده فقال تعالى: {وللمطلقات} أي أيّ المدخول بهن بأي طلاق كان {متاع} أي من جهة الزوج يجبر ما حصل لها من الكسر {بالمعروف} أي من حالهما {حقاً على المتقين}
قال الحرالي: حيث كان الذي قبل الدخول حقاً على المحسنين كان المحسن يمتع بأيسر وصلة في القول دون الإفضاء والمتقي يحق عليه الإمتاع بمقدار ما وقع له من حرمة الإفضاء ولما وقع بينهم من الإرهاق والضجر فيكون في المتعة إزالة لبعض ذلك وإبقاء بسلام أو مودة...
وفيه إشارة إلى أن الطلاق كالموت لانقطاع حبل الوصلة الذي هو كالحياة وأن المتاع كالإرث.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
مطلقة مدخول بها قد فرض لها مهر فلها كل المفروض وعدتها ثلاثة قروء وفيها قوله تعالى {ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا} (البقرة: 229) الآية... وفي معناها قوله تعالى في سورة النساء {وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا} (النساء: 20)
ومطلقة غير مدخول بها ولا مفروض لها، فيجب لها المتعة بحسب إيسار المطلق ولا مهر لها، وفيها قوله تعالى: {لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن} (البقرة: 236) الآية...
ومطلقة مفروض لها غير مدخول بها فلها نصف المهر المفروض وفيها قوله تعالى {وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن} (البقرة: 237)...
ومطلقة مدخول بها غير مفروضة لها، قالوا ولها مهر مثلها بلا خلاف. وذكر بعضهم أن قوله تعالى في سورة النساء: {فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة} (النساء: 24) معناه فأعطوهن مهورهن بالفرض والتقدير إذا كان غير مسمى، أي والعمدة في التقدير مساواتها بأمثالها على الأقل، ولم يأمرنا تعالى بالتمتيع عند ذكر نوع من المطلقات إلا غير الممسوسات مطلقا كما في آية الأحزاب أو مقيد بقوله {أو يفرضوا لهن فريضة} (البقرة: 236) كما تقدم في الآية المشار إليها آنفا.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
والآية الثانية تقرر حق المتاع للمطلقات عامة، وتعلق الأمر كله بالتقوى: (وللمطلقات متاع بالمعروف حقا على المتقين). وبعضهم يرى أنها منسوخة كذلك بالأحكام السابقة.. ولا حاجة لافتراض النسخ. فالمتاع غير النفقة.. ومما يتمشى مع الإيحاءات القرآنية في هذا المجال تقرير المتعة لكل مطلقة. المدخول بها وغير المدخول بها. المفروض لها مهر وغير المفروض لها. لما في المتعة من تندية لجفاف جو الطلاق، وترضية للنفوس الموحشة بالفراق. وفي الآية استجاشة لشعور التقوى، وتعليق الأمر به. وهي الضمان الأكيد والضمان الوحيد...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
عطف على جملة: {والذين يتوفون منكم} [البقرة: 240] جُعل استيفاء لأحكام المتعة للمطلقات، بعد أن تقدم حكم متعة المطلقات قبل المسيس وقبل الفرض، فعمم بهذه الآية طلب المتعة للمطلقات كلهن، فاللام في قوله: {وللمطلقات متاع} لام الاستحقاق.
والتعريف في المطلقات يفيد الاستغراق، فكانت هذه الآية قد زادت أحكاماً على الآية التي سبقتها. وعن جابر بن زيد قال: لما نزل قوله تعالى: {ومتعوهن على الموسع قدره} إلى قوله: {حقا على المحسنين} [البقرة: 236] قال رجل: إن أحسنت فعلت وإن لم أرد ذلك لم أفعل، فنزل قوله تعالى: {وللمطلقات متاع بالمعروف حقا على المتقين} فجعلها بيانا للآية السابقة، إذ عوض وصف المحسنين بوصف المتقين.
والوجه أن اختلاف الوصفين في الآيتين لا يقتضي اختلاف جنس الحكم باختلاف أحوال المطلقات، وأن جميع المتعة من شأن المحسنين والمتقين، وأن دلالة صيغة الطلب في الآيتين سواء إن كان استحباباً أو كان إيجاباً. فالذين حملوا الطلب في الآية السابقة على الاستحباب، حملوه في هذه الآية على الاستحباب بالأولى، ومعولهم في محمل الطلب في كلتا الآيتين ليس إلا على استنباط علة مشروعية المتعة وهي جبر خاطر المطلقة استبقاء للمودة، ولذلك لم يستثن مالك من مشمولات هذه الآية إلا المختلعة؛ لأنها هي التي دعت إلى الفرقة دون المطلق...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
و المتاع في أصل معناه ما ينتفع به، وهو المعنى في قوله تعالى: {وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج}... وهو على هذا التوجيه قد يراد منه النفقة أمدا طال أو قصر؛ لأن النفقة، وهي الإدرار على الحي بما به حياته وبقاؤه، انتفاع ممتد في الزمان، وقد يراد المتعة أي إعطاء شيء من نحو الثياب ينتفع به أمدا ممتدا. والمتاع في هذه الآية ما المراد به؟ أهو المتعة التي ذكرناها في قوله تعالى: {و متعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره متاعا بالمعروف حقا على المحسنين 236} (البقرة)؟ أم المراد الانتفاع بالنفقة في أثناء العدة؟...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
وفي ضوء ذلك، يكون المتاع المشار إليه في هذه الآية بمثابة هدية الفراق التي يقدّمها الزوج للمرأة المطلقة، للتدليل على أنَّ انفصالهما لا يمثّل عقدة في ذاته تجاهها، ولا عداوة لها؛ بل هو أمر فرضته التعقيدات التي أحاطت بها. وربما كان هذا النهج الإسلامي حركة في إبقاء الذكريات المتبادلة بعد الفراق حية بطريقة حميمة بالرغم من سلبياته.
وقد اعتبرته الآية: {حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} الذين عاشوا التقوى في ذواتهم رؤية تنفتح على اللّه، فتنفتح على النّاس بالخير كلّه، مما يلزمهم أو لا يلزمهم من أفعاله وأوضاعه. لأنَّ من أحبّ اللّه أحبّ النّاس، فأحبّ تقديم كلّ ما ينفعهم في أمورهم العامة والخاصة، وبذل المحبة لهم في عمق مشاعرهم العاطفية...