وقوله : { فَإِن زَلَلْتُمْ مِّن بَعْدِ مَا جَآءَتْكُمُ البينات فاعلموا أَنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ } تفريع على النهي ، وترهيب من العقاب الذي سيصيب المتبعين للشيطان .
قال القرطبي : وأصل الزلل في القدم ، ثم استعمل في الاعتقادات والآراء وغير ذلك .
يقال : زل يزل زلا وزللا وزلولا ، أي : دحضت قدمه .
والبينات : جمع بينة ، وهي الأدلة والمعجزات ، ومجيئها : ظهورها .
والمعنى : فإن تنحيتم عن طريق الحق ، وعدلتم عنه إلى الباطل ، من بعد أن ظهرت لكم الأدلة المفرقة بين الصواب والخطأ ، والتي تدعوكم إلى اتباع طريق الحق ، فاعلموا أن الله { عَزِيزٌ } لا يقهر ولا يعجزه الانتقام ممن زل { حَكِيمٌ } لا يترك ما تقتضيه الحكمة وإنما يضع الأمور في مواضعها .
وجيء في الشرط بإن ، لندرة حصول الزلل من المؤمنين ، إذ الشأن فيهم ذلك .
وقوله : { فاعلموا أَنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ } جواب الشرط .
وقوله : { مِّن بَعْدِ مَا جَآءَتْكُمُ البينات } قطع لعذرهم حتى لا يقولوا يوم الحساب إننا زللنا لأننا لا نعرف الحق من الباطل . وفي الآية دليل على أن عقوبة العالم بالذنب أعظم من عقوبة الجاهل به - كما قال القرطبي - .
وقال الفخر الرازي ما ملخصه : " وقوله : { فاعلموا أَنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ } نهاية في الوعيد ، لأنه يجمع من ضروب الخوف مالا يجمعه الوعيد بذكر العقاب . وربما قال الوالد لولده : إن عصيتني فأنت عارف بي وأنت تعلم قدرتي عليك وشدة سطوتي . فيكون هذا الكلام في الزجر أبلغ من ذكر الضرب وغيره . فإن قيل : أفهذه الآية مشتملة على الوعد كما أنها مشتملة على الوعيد ؟ قلنا : نعم من حيث أتبعه بقوله : { حَكِيمٌ } فإن اللائق بالحكمة أن يميز بين المحسن والمسيء ، فكما يحسن من الحكيم إيصال العذاب إلى المسيء فكذلك يحسن منه إيصال الثواب إلى المحسن ، بل هذا أليق بالحكمة وأقرب للرحمة " .
ثم يخوفهم عاقبة الزلل بعد البيان :
( فإن زللتم من بعد ما جاءتكم البينات فاعلموا أن الله عزيز حكيم ) . .
وتذكيرهم بأن الله( عزيز )يحمل التلويح بالقوة والقدرة والغلبة ، وأنهم يتعرضون لقوة الله حين يخالفون عن توجيهه . . وتذكيرهم بأنه( حكيم ) . . فيه إيحاء بأن ما اختاره لهم هو الخير ، وما نهاهم عنه هو الشر ، وأنهم يتعرضون للخسارة حين لا يتبعون أمره ولا ينتهون عما نهاهم عنه . . فالتعقيب بشطريه يحمل معنى التهديد والتحذير في هذا المقام . .
وقوله : { فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ } أي : عدلتم عن الحق بعد ما قامت عليكم الحُجَجُ ، فاعلموا أن الله عزيز [ أي ]{[3721]} في انتقامه ، لا يفوته هارب ، ولا يَغلبه غالب . حكيم في أحكامه ونقضه وإبرامه ؛ ولهذا قال أبو العالية وقتادة والربيع بن أنس : عزيز في نقمته ، حكيم في أمره . وقال محمد بن إسحاق : العزيز في نصره ممن كفر به إذا شاء ، الحكيم في عذره وحجته إلى عباده .
القول في تأويل قوله تعالى : { فَإِن زَلَلْتُمْ مّن بَعْدِ مَا جَآءَتْكُمُ الْبَيّنَاتُ فَاعْلَمُوَاْ أَنّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }
يعني بذلك جل ثناؤه : فإن أخطأتم الحق ، فضللتم عنه ، وخالفتم الإسلام وشرائعه ، من بعدما جاءتكم حججي ، وبينات هداي ، واتضحت لكم صحة أمر الإسلام بالأدلة التي قطعت عذركم أيها المؤمنون ، فاعلموا أن الله ذو عزّه ، لا يمنعه من الانتقام منكم مانع ، ولا يدفعه عن عقوبتكم على مخالفتكم أمره ومعصيتكم إياه دافع ، حكيم فيما يفعل بكم من عقوبته على معصيتكم إياه بعد إقامته الحجة عليكم ، وفي غيره من أموره .
وقد قال عدد من أهل التأويل : إن البينات هي محمد صلى الله عليه وسلم والقرآن . وذلك قريب من الذي قلنا في تأويل ذلك ، لأن محمدا صلى الله عليه وسلم والقرآن من حجج الله على الذين خوطبوا بهاتين الاَيتين . غير أن الذي قلناه في تأويل ذلك أولى بالحقّ ، لأن الله جل ثناؤه ، قد احتجّ على من خالف الإسلام من أخبار أهل الكتاب بما عهد إليهم في التوراة والإنجيل وتقدم إليه على ألسن أنبيائهم بالوصاة به ، فذلك وغيره من حجج الله تبارك وتعالى عليهم مع ما لزمهم من الحجج بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالقرآن فلذلك اخترنا ما اخترنا من التأويل في ذلك .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر أقوال القائلين في تأويل قوله : فإنْ زَلَلْتُمْ :
حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي في قوله : فإنْ زَلَلْتُمْ يقول : فإن ضللتم .
وحدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : فإنْ زَلَلْتُمْ قال : والزلل : الشرك .
ذكر أقوال القائلين في تأويل قوله : مِنْ بَعْدَ ما جاءَتْكُمْ البَيّناتُ :
حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : مِنْ بَعْد ما جاءَتْكُمْ البَيّناتُ يقول : من بعد ما جاءكم محمد صلى الله عليه وسلم .
وحدثني القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا حجاج ، عن ابن جريج : فإنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمْ البَيّناتُ قال : الإسلام والقرآن .
وحدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : فاعْلَمُوا أنّ اللّهَ عَزيزٌ حَكِيمُ يقول : عزيز في نقمته ، حكيم في أمره .
قوله تعالى : { فإن زللتم من بعد ما جاءكم البينات فاعلموا أن الله عزيز حكيم } تفريع على النهي أي فإن اتبعتم خطوات الشيطان فزللتم أو فإن زللتم فاتبعتم خطوات الشيطان وأراد بالزلل المخالفة للنهي .
وأصل الزلل الزلَق أي اضطراب القدَم وتحركها في الموضع المقصود إثباتها به ، واستعمل الزلل هنا مجازاً في الضُّر الناشىء عن اتباع الشيطان من بناءِ التمثيل على التمثيل ؛ لأنه لما شبهت هيئة من يعمل بوسوسة الشيطان بهيئة الماشي على أثر غيره شبه ما يعتريه من الضر في ذلك المشي بزلل الرجل في المشي في الطريق المزلقة ، وقد استفيد من ذلك أن ما يأمر به الشيطان هو أيضاً بمنزلة الطريق المزلقة على طريق المكنية وقوله : { زللتم } تخييل وهو تمثيلية فهو من التخييل الذي كان مجازاً والمجاز هنا في مركبه .
والبينات : الأدلة والمعجزات ومجيئها ظهورها وبيانها ، لأن المجيء ظهور شخص الجائي بعد غيبته .
وجيء في الشرط بإنْ لندرة حصول هذا الزلل من الذين آمنوا أو لعدم رغبة المتكلم في حصوله إن كان الخطاب لمن آمن بظاهره دون قلبه . وفيه إشارة إلى أن ما خامر نفوسهم من كراهية الصلح هو زلة عظيمة . وقوله : { فاعلموا أن الله عزيز حكيم } جواب الشرط ، و { أن الله عزيز حكيم } ، مفعول { اعلموا } ، والمقصود علم لازمه وهو العقاب .
والعزيز فعيل من عز إذا قوي ولم يُغْلب ، وأصله من العزة وقد مر الكلام عليه عند قوله { أَخذته العزة } [ البقرة : 206 ] وهو ضد ، فكان العلم بأنه تعالى عزيز مستلزماً تحققهم أنه معاقبهم لا يفلتهم ، لأن العزيز لا ينجو من يناوئه .
والحكيم يجوز أن يكون اسم فاعل من حكم أي قوي الحكم ، ويحتمل أنه المحكم للأمور فهو من مجيء فَعِيل بمعنى مُفعل ، ومناسبته هنا أن المتقن للأمور لا يفلت مستحق العقوبة ، فالكلام وعيد وإلاّ فإن الناس كلهم يعلمون أن الله عزيز حكيم .
ولك أن تجعل قوله : { فاعلموا } تنزيلاً لعلمهم منزلة العدم لعدم جريهم على ما يقتضيه من المبادرة إلى الدخول في الدين أو لمخالفة أحكام الدين أو من الامتعاض بالصلح الذي عقده الرسول .
وإنما قال تعالى : { من بعد ما جاءتكم البينات } إعذار لهم ، وفيه إشارة إلى أنهم يجب عليهم تفويض العلم إلى الله الذي أوحى إلى رسوله بإبرام الصلح مع المشركين ، لأنه ما أوحاه الله إلاّ لمصلحة وليس ذلك بوهن للمسلمين ، لأن الله عزيز لا يهن لأحد ، ولأنه حكيم يضع الأمور في مواضعها ، ويختار للمسلمين ما فيه نصر دينه وقد رأيتم البينات الدالةَ على عناية الله برسوله وأنه لا يخزيه ولا يضيع أمره ومن تلك البينات ما شاهدوه من النصر يوم بدر .
وإن كان المراد الدخولَ في الإسلام أو الدوامَ عليه فالمعنيُّ : بـِ ( فإن زللتم ) : الاتصاف بما ينافي الأمر بالدخول في السّلم ، والمراد بالبينات المعجزاتُ الدالة على صدق الرسول ، نقل الفخر عن « تفسير القاضي عبد الجبار » دلت الآية على أن المؤاخذة بالذنب لا تحصل إلاّ بعد البيان وأن المؤاخذة تكون بعد حصول البينات لا بعد حصول اليقين من المكلف ، لأنه غير معذور في عدم حصول اليقين إن كانت الأدلة كافية .
وفي « الكشاف » روي أن قارئاً قرأ هذه الآية فإن الله غفور رحيم فسمعه أعرابي فأنكره وقال لا يقول الحكيم كذا لا يذكر الغفران عند الزلل لأنه إغراء عليه اهـ وفي القرطبي عن « تفسير النقاش » نسبة مثل هذه القصة إلى كعب الأحبار ، وذكر الطيبي عن الأصمعي قال كنت أقرأ : والسارقُ والسارقةُ فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالاً من الله والله غفور رحيم ، وبجنبي أعرابي فقال كلامُ مَنْ هذا ؟ قلت كلامُ الله ، قال : ليس هذا كلامُ الله فانتبهتُ فقرأت { والله عزيز حكيم } [ المائدة : 38 ] فقال أصبتَ هذا كلام الله فقلت أتقرأ القرآن ؟ قال لا قلتُ من أين علمت ؟ قال يا هذا عَزَّ فَحَكَم فقطعَ ولو غَفر ورَحم لَمَا قَطَع .