ثم علل - سبحانه - ما أصابهم من عذاب أليم ، فقال : { إِنَّهُمْ كَانُواْ لاَ يَرْجُونَ حِسَاباً . وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا كِذَّاباً } أى : إن هؤلاء الطغاة كانوا فى الدنيا لا يخافون حسابنا ، ولا يفكرون فيه ، بل كانوا يكذبون به ، وبكل ما جاءهم به رسولنا تكذيبا عظيما .
وقوله : { كِذَّاباً } مصدر كذب ، ومجئ فِعَّال بمعنى تفعيل فى مصدر فعَّل فصيح شائع الغاية فى قبحه وإفراطه . وهو منصوب على أنه مفعول مطلق مؤكد لعامله .
قال صاحب الكشاف : قوله : { كِذَّاباً } أى : تكذيبا . وفِعَّال فى باب فَعَّل ، كله فاش فى كلام فصحاء العرب لا يقولون غيره . وهو مصدر كذَّب . .
{ وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا } أي : وكانوا يكذبون بحجج الله ودلائله على خلقه التي أنزلها على رسله ، فيقابلونها بالتكذيب والمعاندة .
وقوله : { كِذَّابًا } أي : تكذيبا ، وهو مصدر من غير الفعل . قالوا : وقد سُمع أعرابي يستفتي الفَرّاءَ على المروة : الحلقُ أحبّ إليك أو القِصار ؟ وأنشد بعضهم{[29665]} :
لَقَد طالَ ما ثَبَّطتنِي عَن صَحَابَتِي *** وعن حوج قضاؤها مِن شفَائيا
وقوله : وكَذّبُوا بآياتِنا كِذّابا يقول تعالى ذكره : وكذّب هؤلاء الكفار بحُجَجِنا وأدلتنا تكذيبا . وقيل : كِذّابا ، ولم يقل تكذيبا ، تصديرا على فعله .
وكان بعض نحويّي البصرة يقول : قيل ذلك لأن فعل منه على أربعة ، فأراد أن يجعله مثل باب أفعلت ، ومصدر أفعلت إفعالاً ، فقال : كذّابا ، فجعله على عدد مصدره ، قال : وعلى هذا القياس تقول : قاتل قتالاً ، قال : وهو من كلام العرب . وقال بعض نحويّي الكوفة : هذه لغة يمانية فصيحة ، يقولون : كذّبت به كذّابا ، وخَرّقت القميص خِرّاقا ، وكلّ فَعّلْت ، فمصدرها فِعّال بلغتهم مشدّدة . قال : وقال لي أعرابي مرّة على المروة يستفتيني : ألحلق أحبّ إليك أم القِصّار ؟ قال : وأنشدني بعض بني كلاب :
لَقَدْ طالَ ما ثَبّطَتْنِي عَنْ صَحَابَتِي *** وَعَنْ حِوَجٍ قِضّاؤُها مِنْ شَفائِيَا
وأجمعت القرّاء على تشديد الذال من الكِذّاب في هذا الموضع . وكان الكسائي خاصة يخفّف الثانية ، وذلك في قوله : لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْوا وَلا كِذّابا ويقول : وهو من قولهم : كاذبته كِذّابا ومكاذبة ، ويشدّد هذه ، ويقول قوله كَذّبوا يقيد الكِذّاب بالمصدر .
وكذبوا بآياتنا كذابا تكذيبا وفعال بمعنى تفعيل مطرد شائع في كلام الفصحاء قرئ بالتخفيف وهو بمعنى الكذب كقوله فصدقتها وكذبتها والمرء ينفعه كذابه وإنما أقيم مقام التكذيب للدلالة على أنهم كذبوا في تكذيبهم أو المكاذبة فإنهم كانوا عند المسلمين كاذبين وكان المسلمين كاذبين عندهم فكان بينهم مكاذبة أو كانوا مبالغين في الكذب مبالغة فيه وعلى المعنيين يجوز أن يكون حالا بمعنى كاذبين أو مكاذبين ويؤيده أنه قرئ كذابا وهو جمع كاذب ويجوز أن يكون للمبالغة فيكون صفة للمصدر أي تكذيبا مفرطا كذبه .
وقرأ جمهور الناس : «كِذّاباً » بشد الذال وكسر الكاف وهو مصدر بلغة بعض العرب ، وهي يمانية ومنه قول أحدهم وهو يستفتي :
ألحلق أحب إليك أم القصار{[11587]} ؟ . . . ومنه قول الشاعر : [ الطويل ]
لقد طال ما ثبطتني عن صحابتي . . . وعن حاجة قضاؤها من شفائيا{[11588]}
وهذا عندهم مصدر من فعّل ، وقال الطبري : لم يختلف القراء في هذا الموضع في { كذاباً } .
قال القاضي أبو محمد : وأراه أراد السبعة ، وأما في الشاذ ، فقرأ علي بن أبي طالب وعوف الأعرابي وعيسى والأعمش وأبو رجاء : «كِذَاباً » بكسر الكاف وبتخفيف الذال ، وقرأ عبد الله بن عمر بن عبد العزيز : «كُذّاباً » بضم الكاف وشد الذال على أنه جمع كاذب ونصبه على الحال قاله أبو حاتم{[11589]} .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
يعني القرآن {كذابا} يعني تكذيبا بما فيه من الأمر والنهي...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وكذّب هؤلاء الكفار بحُجَجِنا وأدلتنا تكذيبا. وقيل: كِذّابا، ولم يقل تكذيبا، تصديرا على فعله.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
فالكذاب والتكذيب في لغة العرب واحد، والآيات: جائز أن يراد بالآيات آيات البعث، ويراد بها آيات الوحدانية وآيات الرسالة ونحوها...
النوع الثاني من قبائح أفعالهم قوله: {وكذبوا بآياتنا كذابا} اعلم أن للنفس الناطقة الإنسانية قوتين نظرية وعملية، وكمال الإنسان في أن يعرف الحق لذاته والخير لأجل العمل به... فههنا بين الله تعالى رداءة حالهم في الأمرين، أما في القوة العملية فنبه على فسادها بقوله: {إنهم كانوا لا يرجون حسابا} أي كانوا مقدمين على جميع القبائح والمنكرات، وغير راغبين في شيء من الطاعات والخيرات.
وأما في القوة النظرية فنبه على فسادها بقوله: {وكذبوا بآياتنا كذابا} أي كانوا منكرين بقلوبهم للحق ومصرين على الباطل، وإذا عرفت ما ذكرناه من التفسير ظهر أنه تعالى بين أنهم كانوا قد بلغوا في الرداءة والفساد إلى حيث يستحيل عقلا وجود ما هو أزيد منه، فلما كانت أفعالهم كذلك كان اللائق بها هو العقوبة العظيمة. فثبت بهذا صحة ما قدمه في قوله: {جزاء وفاقا} فما أعظم لطائف القرآن مع أن الأدوار العظيمة قد استمرت، ولم ينتبه لها أحد، فالحمد لله حمدا يليق بعلو شأنه وبرهانه على ما خص هذا الضعيف بمعرفة هذه الأسرار.
واعلم أن قوله تعالى: {وكذبوا بآياتنا كذابا} يدل على أنهم كذبوا بجميع دلائل الله تعالى في التوحيد والنبوة والمعاد والشرائع والقرآن، وذلك يدل على كمال حال القوة النظرية في الرداءة والفساد والبعد عن سواء السبيل وقوله: {كذابا} أي تكذيبا...
واعلم أنه تعالى لما بين أن فساد حالهم في القوة العملية وفي القوة النظرية بلغ إلى أقصى الغايات وأعظم النهايات بين أن تفاصيل تلك الأحوال في كميتها وكيفيتها معلومة له، وقدر ما يستحق عليه من العقاب معلوم له، فقال: {وكل شيء أحصيناه كتابا}...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والمعنى: كذبوا ما اشتملت عليه الآيات من إثبات الوحدانية، ورسالة محمد صلى الله عليه وسلم. ولكون تكذيبهم بذلك قد استقر في نفوسهم ولم يترددوا فيه جيء في جانبه بالفعل الماضي لأنهم قالوا: {قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب} [فصلت: 5].