مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَكَذَّبُواْ بِـَٔايَٰتِنَا كِذَّابٗا} (28)

والنوع الثاني : من قبائح أفعالهم قوله : { وكذبوا بآياتنا كذابا } اعلم أن للنفس الناطقة الإنسانية قوتين نظرية وعملية ، وكمال الإنسان في أن يعرف الحق لذاته والخير لأجل العمل به ، ولذلك قال إبراهيم : { رب هب لي حكما وألحقني بالصالحين } { فهب لي حكما } إشارة إلى كمال القوة النظرية { وألحقني بالصالحين } إشارة إلى كمال القوة العملية ، فههنا بين الله تعالى رداءة حالهم في الأمرين ، أما في القوة العملية فنبه على فسادها بقوله : { إنهم كانوا لا يرجون حسابا } أي كانوا مقدمين على جميع القبائح والمنكرات ، وغير راغبين في شيء من الطاعات والخيرات .

وأما في القوة النظرية فنبه على فسادها بقوله : { وكذبوا بآياتنا كذابا } أي كانوا منكرين بقلوبهم للحق ومصرين على الباطل ، وإذا عرفت ما ذكرناه من التفسير ظهر أنه تعالى بين أنهم كانوا قد بلغوا في الرداءة والفساد إلى حيث يستحيل عقلا وجود ما هو أزيد منه ، فلما كانت أفعالهم كذلك كان اللائق بها هو العقوبة العظيمة . فثبت بهذا صحة ما قدمه في قوله : { جزاء وفاقا } فما أعظم لطائف القرآن مع أن الأدوار العظيمة قد استمرت ، ولم ينتبه لها أحد ، فالحمد لله حمدا يليق بعلو شأنه وبرهانه على ما خص هذا الضعيف بمعرفة هذه الأسرار .

واعلم أن قوله تعالى : { وكذبوا بآياتنا كذابا } يدل على أنهم كذبوا بجميع دلائل الله تعالى في التوحيد والنبوة والمعاد والشرائع والقرآن ، وذلك يدل على كمال حال القوة النظرية في الرداءة والفساد والبعد عن سواء السبيل وقوله : { كذابا } أي تكذيبا وفعال من مصادر التفعيل وأنشد الزجاج :

لقد طال ماريثتني عن صحابتي *** وعن حوج قضاؤها من شفائنا

من قضيت قضاء قال الفراء هي لغة فصيحة يمانية ونظيره خرقت القميص خراقا ، وقال لي أعرابي منهم على المروة يستفتيني : الحلو أحب إليك أم العصار ؟ وقال صاحب «الكشاف » كنت أفسر آية فقال بعضهم : لقد فسرتها فسارا ما سمع به ، وقرئ بالتخفيف وفيه وجوه : ( أحدها ) : أنه مصدر كذب بدليل قوله :

فصدقتها أو كذبتها *** والمرء ينفعه كذابه

وهو مثل قوله تعالى : { أنبتكم من الأرض نباتا } يعني وكذبوا بآياتنا فكذبوا كذابا ( وثانيها ) : أن ينصبه بكذبوا لأنه يتضمن معنى كذبوا لأن كل مكذب بالحق كاذب ( وثالثها ) : أن يجعل الكذاب بمعنى المكاذبة ، فمعناه وكذبوا بآياتنا فكاذبوا مكاذبة . أو كذبوا بها مكاذبين . لأنهم إذا كانوا عند المسلمين كاذبين ، وكان المسلمون عندهم كاذبين فبينهم مكاذبة وقرئ أيضا كذلك وهو جمع كاذب ، أي كذبوا بآياتنا كاذبين ، وقد يكون الكذاب بمعنى الواحد البليغ في الكذب ، يقال رجل كذاب كقولك حسان وبخال ، فيجعل صفة لمصدر كذبوا أي تكذيبا كذابا مفرطا كذبه .

واعلم أنه تعالى لما بين أن فساد حالهم في القوة العملية وفي القوة النظرية بلغ إلى أقصى الغايات وأعظم النهايات بين أن تفاصيل تلك الأحوال في كميتها وكيفيتها معلومة له ، وقدر ما يستحق عليه من العقاب معلوم له ، فقال : { وكل شيء أحصيناه كتابا }