اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَكَذَّبُواْ بِـَٔايَٰتِنَا كِذَّابٗا} (28)

قوله تعالى : { وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا كِذَّاباً } قرأ العامة : «كِذَّاباً » بتشديد الذال ، وكسر الكاف .

وكان من حق مصدر «فعَّل » أن يأتي على «التَّفعيل » نحو صرَّف تصريفاً .

قال الزمخشري : و«فعَّال » في باب «فعَّل » كله فاشٍ في كلام فصحاءٍ من العرب لا يقولون غيره ، وسمعني بعضهم أفسر آية ، فقال : لقد فسرتها فسَّاراً ما سمع بمثله .

قال غيره : وهي لغة بعض العرب يمانية ؛ وأنشد : [ الطويل ]

5079- لَقدْ طَالَ ما ثَبَّطتَنِي عَنْ صَحابَتِي *** وعَنْ حَاجَةٍ قِضَّاؤها من شِفَائِيَا{[59150]}

يريد : تَقْضِيَتُهَا ، والأصل على «التفعيل » ، وإنَّما هو مثل «زكَّى تَزْكِيَةً » .

وسمع بعضهم يستفتي في حجه ، فقال : آلحلق أحبُّ إليك أم القصَّار ؟ يريد التقصير .

قال الفراء : «هي لغة يمانية فصيحة ، يقولون : كذبت كذّاباً ، وخرَّقتُ القميص خِرَّاقاً ، وكل فعل وزن «فعَّل » فمصدره «فِعَّال » في لغتهم مشددة » .

وقرأ علي والأعمش وأبو رجاء{[59151]} وعيسى البصري : بالتخفيف .

وهو مصدر أيضاً ، إمَّا لهذا الفعل الظاهر على حذف الزوائد ، وإمَّا لفعل مقدر ك «أنْبَتَكُمْ مِنَ الأرْضِ نَبَاتاً » .

قال الزمخشري : «وهو مثل قوله تعالى : { والله أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض نَبَاتاً } [ نوح : 17 ] يعني وكذبوا بآياتنا ، فكذبوا كذاباً ، أو تنصبه ب «كذبوا » ؛ لأنه يتضمن معنى «كذّبوا » ، لأن كل مكذب بالحق كاذب ، وإن جعلته بمعنى المكاذبة ، فمعناه : وكذبوا بآياتنا ، فكاذبوا مكاذبة ، أو كذبوا بها مكاذبين ؛ لأنَّهم كانوا عند المسلمين مكاذبين ، وكان المسلمون عندهم كاذبين فبينهم مكاذبة ، أو لأنَّهم يتكلمون بما هو إفراط في الكذب ، فعل من يغالب فيبلغ فيه أقصى جهده » .

وقال أبو الفضل : وذلك لغة «اليمن » ، وذلك بأن يجعل مصدر «كذب » مخففاً «كِذَباً » بالتخفيف مثل «كَتَبَ كِتَاباً » فصار المصدر هنا من معنى الفعل دون لفظه مثل : «أعطيته عطاءً » .

قال شهابُ الدِّينِ{[59152]} : أمَّا «كذب كذاباً » بالتخفيف ، فهو مشهور ، ومنه قول الأعشى [ مجزوء الكامل ]

5080- فَصدَقْتُهَا وكَذبْتُهَا *** والمَرْءُ يَنْفعهُ كِذَابُهْ{[59153]}

وقرأ عمر{[59154]} بن عبد العزيز والماجشون : «كُذاباً » بضم الكاف وتشديد الذال ، وفيها وجهان :

أحدهما : أنه جمع كاذبِ ، نحو : ضراب «في » ضارب وعلى هذا ، فانتصابه على الحال المؤكدة ، أي : وكذبوا في حال كونهم كاذبين . قاله أبو البقاء .

والثاني : أنَّ «الكُذَّاب » بمعنى الواحد البليغ في الكذب ، يقال : رجل كذاب ، كقولك : حسان ، فيجعل وصفاً لمصدر كذبوا : أي تكذيباً كذباً مفرطاً كذبه . قاله الزمخشري .

قال القرطبي{[59155]} : وفي «الصِّحاح » : وقوله تعالى : { وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا كِذَّاباً } وهو أحد مصار المشدد ؛ لأن مصدره قد يجيء على «تَفْعِلَة » مثل «تَوصِيَة » ، وعلى «مُفَعَّل » مثل : { وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ } [ سبأ : 19 ] .


[59150]:ينظر معاني القرآن للفراء 3/229، ومعاني القرآن وإعرابه للزجاج 5/274، والقرطبي 19/118، والبحر المحيط 8/406، والدر المصون 6/466.
[59151]:ينظر: المحرر الوجيز 5/427، والبحر المحيط 8/406.
[59152]:الدر المصون 6/466.
[59153]:ينظر ابن يعيش 6/44، وشواهد الإيضاح ص 606، واللسان (صدق)، والكشاف 4/689، والقرطبي 19/118، ومجاز القرآن 2/283، والكامل 2/230، والتاج (صدق)، والطبري 30/14، ومجمع البيان 10/641، والبحر المحيط 8/406، والدر المصون 6/466.
[59154]:ينظر: المحرر الوجيز 5/427، والبحر المحيط 8/406.
[59155]:الجامع لأحكام القرآن 19/119.