وبعد هذا العرض لمصارع المكذبين ، عادت السورة إلى تقرير الحقيقة التى كفر بها الجاهلون والجاحدون ، وهى أن البعث حق ، فقال - تعالى - : { أَفَعَيِينَا بالخلق الأول بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ } والاستفهام للإِنكار والنفى ، وقوله { عَيِينَا } من العى بمعنى العجز . يقال : عَيِىَ فلان بهذا الشئ ، إذا عجز عنه ، وانقطعت حيلته فيه ، ولم يهتد إلى طريقه توصله إلى مقصوده منه .
واللبس : الخلط . يقال : لبس على فلان الأمر - من باب ضرب - إذا اشتبه واختلط عليه ، ولم يستطع التمييز بين ما هو صواب وما هو خطأ .
أى : أفعجزت قدرتنا عن خلق هؤلاء الكافرين وإيجادهم من العدم ، حتى يتوهموا أننا عاجزون عن إعادتهم إلى الحياة بعد موتهم ؟
كلا إننا لم نعجز عن شئ من ذلك لأن قدرتنا لا يعجزنا شئ ، ولكن هؤلاء الكافرين لانطماس بصائرهم ، واستيلاء الشيطان عليهم ، قد صاروا فى لبس وخلط من أمرهم ، بدليل أنهم يقرون بأننا نحن الذين خلقناهم ولم يكونوا شيئا مذكورا ، ومع ذلك فهم ينكرون قدرتنا على " الخلق الجديد " أى : على إعادتهم إلى الحاية الدنيا مرة أخرى بعد موتهم .
فقوله - تعالى - : { بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ } أى : بل إن هؤلاء الكافرين فى خلط وشك وحيرة من أن يكون هناك خلق جديد أى خلق مستأنف لهم بعد موتهم ، مع أنهم - لو كانوا يعقلون - لعلموا أن القادر على الخلق من العدم ، قادر على إعادة هذا المخلوق من باب أولى ، كما قال - سبحانه - : { وَهُوَ الذي يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ . . } قال الآلوسى : وقوله : { بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ } عطف على مقدر يدل عليه ما قبله ، كأن قيل : إنهم معترفون بالأول غير منكرين قدرتنا عليه ، فلا وجه لإِنكارهم الثانى ، بل هم فى خلط وشبهة فى خلق مستأنف .
وقال بعض العلماء ما ملخصه : فى الآية أسئلة ثلاثة : لم عرف الخلق الأول ؟ ولم نكر اللبس ؟ ولم نكر الخلق الجديد ؟
وللإِجابة على ذلك نقول : عرف الخلق الأول للتعميم والتهويل والتفخيم ومنه تعريف الذكور فى قوله
{ يَهَبُ لِمَن يَشَآءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَن يَشَآءُ الذكور } وأما التنكير فأمره منقسم ، فأحيانا يقصد به التفخيم ، من حيث ما فيه من الإِبهام . . وهو المقصود هنا من تنكير لفظ { لبس } . كأنه قيل : بل هم فى لبس أى لبس .
وأحيانا يقصد به التقليل والتهوين لأمره ، وهو المقصود هنا بقوله من { خَلْقٍ جَدِيدٍ } أى : أن هذا الخلق الجديد شئ هين بالنسبة إلى الخلق الأول ، وإن كان كل شئ هين بالنسبة إلى قدرة الله - تعالى - .
وقوله : { أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأوَّلِ } أي : أفأعجزنا{[27280]} ابتداء الخلق حتى هم في شك من الإعادة ، { بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ } والمعنى : أن ابتداء الخلق لم يعجزنا والإعادة أسهل منه ، كما قال تعالى : { وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ } [ الروم : 27 ] ، وقال الله تعالى : { وَضَرَبَ لَنَا مَثَلا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ } [ يس : 78 - 79 ] ، وقد تقدم في الصحيح : " يقول الله تعالى : يؤذيني ابن آدم ، يقول : لن يعيدني كما بدأني ، وليس أول الخلق بأهون علي من إعادته " {[27281]} .
القول في تأويل قوله تعالى : { أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأوّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ * وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ } .
وهذا تقريع من الله لمشركي قريش الذين قالوا : أئِذَا مِتْنَا وكُنّا تُرَابا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ يقول لهم جلّ ثناؤه : أفعيينا بابتداع الخلق الأوّل الذي خلقناه ، ولم يكن شيئا فنعيا بإعادتهم خلقا جديدا بعد بلائهم في التراب ، وبعد فنائهم يقول : ليس يعيينا ذلك ، بل نحن عليه قادرون . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : أفَعَيِينا بالخَلْقِ الأوّلِ يقول : لم يعينا الخلق الأوّل .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : أفَعَيِينا بالخَلْقِ الأوّلِ يقول : أفعيي علينا حين أنشأناكم خلقا جديدا ، فتمتروا بالبعث .
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن عطاء بن السائب ، عن أبي ميسرة أفَعَيِينا بالخَلْقِ الأوّلِ قال : إنا خلقناكم .
وقوله : بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ يقول تعالى ذكره : ما يشكّ هؤلاء المشركون المكذّبون بالبعث أنا لم نعي بالخلق الأوّل ، ولكنهم في شكّ من قُدرتنا على أن نخلقهم خلقا جديدا بعد فنائهم ، وبَلائهم في قبورهم . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : بَلْ هُمْ في لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ ؟ يقول : في شكّ من البعث .
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن عطاء بن السائب ، عن أبي ميسرة بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ قال : الكفار مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ قال : أن يخلقوا من بعد الموت .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ : أي شكّ والخلق الجديد : البعث بعد الموت ، فصار الناس فيه رجلين : مكذّب ، ومصدّق .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ قال : البعث من بعد الموت .
{ أفعيينا بالخلق الأول } أي أفعجزنا عن الإبداء حتى نعجز عن الإعادة ، من عيي بالأمر إذا لم يهتد لوجه عمله والهمزة فيه للإنكار . { بل هم في لبس من خلق جديد } أي هم لا ينكرون قدرتنا على الخلق الأول بل هم في خلط ، وشبهة في خلق مستأنف لما فيه من مخالفة العادة ، وتنكير الخلق الجديد لتعظيم شأنه والإشعار بأنه على وجه غير متعارف ولا معتاد .