ثم ساق - سبحانه - أنواعا أخرى من الأدلة على وحدانية الله - تعالى وقدرته . فقال :
{ قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يَبْدَأُ . . . }
أى : قل يا محمد لهؤلاء الغافلين عن الحق : هل من شركائكم الذين عبدتموهم من دون الله ، أو أشركتموهم مع الله ، من له القدرة على أن يبدأ خلق الإِنسان من نطفة ، ثم من علقة ، ثم من مضغة . . . ثم ينشئه خلقا آخر ، ثم يعيده إلى الحياة مرى أخرى بعد موته ؟
قل لهم يا محمد : الله وحده هو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده ، أما شركاؤكم فهم أعجز من أن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له . . .
وإذا كان الأمر كذلك من الوضوح والظهور { فأنى تُؤْفَكُونَ } والإِفك الصرف والقلب عن الشيء . يقال : أفكه عن الشيء يأفكه أفكا ، إذا قلبه عنه وصرفه .
أي فكيف ساغ لكم أن تصرفوا عقولكم عن عبادة الإِله الحق ، إلى عبادة أصنام لا تنفع ولا تضر ؟ !
وجاءت جملة { قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ . . . } بدون حرف العطف على ما قبلها للإِيذان باستقلالها في الحصول المطلوب ، وإثبات المقصود .
وساق - سبحانه - الأدلة بأسلوب السؤال والاستفهام ، لأن الكلام إذا كان واضحا جليا ثم ذكر على سبيل الاستفهام ، وتفويض الجواب إلى المسئول كان ذلك أبلغ وأوقع في القلب .
وجعل - سبحانه - إعادة المخلوقات بعد موتها حجة عليهم في التدليل على قدرته مع عدم اعترافهم بها ، للإِيذان بسطوع أدلتها ، لأن القادر على البدء يكون أقدر على الإِعادة كما قال - تعالى - { وَهُوَ الذي يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ . . } فلما كان إنكارهم لهذه الحقيقة الواضحة من باب العناد أو المكابرة ، نزل إنكارهم لها منزلة العدم .
وإلى هذا المعنى أشار صاحب الكشاف بقوله : " فإن قلت : كيف قيل لهم هل من شركائكم من يبدأ الخلق ثم يعيده ، وهم غير معترفين بالإِعادة ؟
قلت : قد وضعت إعادة الخلق لظهور برهانها موضع ما إن دفعه دافع كان مكابرا رادا الظاهر البين الذي لا مدخل للشبهة فيه ، ودلالة على أهم في إنكارهم لها منكرون أمرا مسلما معترفا بصحته عند العقلاء . " وقال لنبيه - صلى الله عليه وسلم - { قُلِ الله يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ } فأمره بأن ينوب عنهم في الجواب . يعني أنه لا يدعهم لجاجهم ومكابرتهم أن ينطقوا بكلمة الحق فتكلم أنت عنهم . . "
ثم عودة إلى مظاهر قدرة الله ، وهل للشركاء فيها من نصيب .
( قل : هل من شركائكم من يبدأ الخلق ثم يعيده ? قل : الله يبدأ الخلق ثم يعيده . فأنى تؤفكون ? قل : هل من شركائكم من يهدي إلى الحق ? قل : الله يهدي للحق أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أم من لا يهدي إلا أن يهدى ? فما لكم ? كيف تحكمون ? ) . .
وهذه الأمور المسؤول عنها - من إعادة الخلق وهدايتهم إلى الحق - ليست من بدائه مشاهداتهم ولا من مسلمات اعتقاداتهم كالأولى . ولكنه يوجه إليهم فيها السؤال ارتكانا على مسلماتهم الأولى ، فهي من مقتضياتها بشيء من التفكر والتدبر . ثم لا يطلب إليهم الجواب ، إنما يقرره لهم اعتمادا على وضوح النتائج بعد تسليمهم بالمقدمات .
( قل : هل من شركائكم من يبدأ الخلق ثم يعيده ? ) . .
وهم مسلمون بأن الله هو الذي يبدأ الخلق غير مسلمين بإعادته ، ولا بالبعث والنشور والحساب والجزاء . . ولكن حكمة الخالق المدبر لا تكمل بمجرد بدء الخلق ؛ ثم انتهاء حياة المخلوقين في هذه الأرض ، ولم يبلغوا الكمال المقدر لهم ، ولم يلقوا جزاء إحسانهم وإساءتهم ، وسيرهم على النهج أو انحرافهم عنه . إنها رحلة ناقصة لا تليق بخالق مدبر حكيم . وإن الحياة الآخرة لضرورة من ضرورات الاعتقاد في حكمة الخالق وتدبيره وعدله ورحمته . ولا بد من تقرير هذه الحقيقة لهم وهم الذين يعتقدون بأن الله هو الخالق ، وهم الذين يسلمون كذلك بأنه يخرج الحي من الميت . والحياة الأخرى قريبة الشبه بإخراج الحي من الميت الذي يسلمون به :
( قل : الله يبدأ الخلق ثم يعيده ) . .
{ قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمّ يُعِيدُهُ قُلِ اللّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمّ يُعِيدُهُ فَأَنّىَ تُؤْفَكُونَ } .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قُلْ يا محمد هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ يعني من الاَلهة والأوثان مَنْ يَبْدَأُ الخَلْقَ ثُمّ يُعِيدُهُ ؟ يقول : من ينشىء خلق شيء من غير أصل ، فيحدث خلقه ابتداء ثم يعيده ، يقول : ثم يفنيه بعد إنشائه ، ثم يعيده كهيئته قبل أن يفنيه ؟ فإنهم لا يقدرون على دعوى ذلك لها . وفي ذلك الحجة القاطعة والدلالة الواضحة على أنهم في دعواهم أنها أرباب وهي لله في العبادة شركاء كاذبون مفترون . فقُلِ لهم حينئذ يا محمد : اللّهُ يَبْدَأُ الخَلْقَ فينشئه من غير شيء ويحدثه من غير أصل ثم يفنيه إذا شاء ، ثُمّ يُعِيدُهُ إذا أراد كهيئته قبل الفناء . فَأَنّي تُؤْفَكُونَ يقول : فأيّ وجه عن قصد السبيل وطريق الرشد تصرفون وتقلبون . كما :
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن الحسن : فَأنّىَ تُؤْفَكونَ قال : أنىَ تصرفون .
وقد بيّنا اختلاف المختلفين في تأويل قوله : أنّىَ تُؤْفَكُونَ والصواب من القول في ذلك عندنا بشواهده في سورة الأنعام .
هذا توقيف أيضاً على قصور الأصنام وعجزها ، وتنبيه على قدرة الله عز وجل ، و «بدء الخلق » يريد به إنشاء الإنسان في أول أمره ، و «إعادته » هي البعث من القبور ، و { تؤفكون } معناه : تصرفون وتحرمون ، تقول العرب : أرض مأفوكة إذا لم يصبها مطر فهي بمعنى الخيبة والتلف ، كما قال { والمؤتفكة أهوى }{[6105]} .