ثم بين - سبحانه - سنة من سننه العامة في خلقه ، وهى تدل على سعة رحمته ، ووافر عدله فقال : { وَمَا كَانَ الله لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حتى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ . . } .
أى : وما كان من شأن الله - تعالى - في لطفه وعدله . . أن يصف قوما بالضلال عن طريق الحق { بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ } إلا الإِسلام ، لمجرد قول أو عمل صدر عنهم عن طريق الخطأ في الاجتهاد .
وإنما يصفهم بذلك بعد أن يبين لهم ما يبج اتقاؤه من الأقوال والأفعال ، فلا يطيعون أمره ، ولا يستجيبون لتوجيه - سبحانه - .
قال صاحب الكشاف : يعنى - سبحانه - أن أمر باتقائه واجتنا به كالاستغفار للمشركين وغيرهما مما نهى عنه وبين أنه محظور ، لا يؤاخذ به عباده الذين هداهم للإِسلام ، ولا يسميهم ضلالا ، إلا إذا أقدموا عليه بعد بيان حظره عليهم ، وعلمهم أنه واجب الاتقاء والاجتناب . وأما قبل العلم والبيان فلا سبيل عليهم ، كما لا يؤاخذون بشر الخمر ، ولا بببيع الصاع بصاعين قبل التحريم .
وهذا بيان لعذر من خاف المؤاخذة بالاستغفار للمشركين قبل ورود النهى عنه . وفى هذه الآية شديدة ما ينبغى أن يغفل عنها : وهى أن المهدى للإِسلام إذا أقدم على بعض محظورات الله صار داخلا في حكم الإِضلال .
وقال صاحب المنار : أخرج ابن المنذر أن عبد الله بن معسود كان يخطب أصحابه لك عشية خميس ثم يقول : فمن استطاع منكم أن يغدو عالما أو متعلما فليفعل ، ولا يغدو لسوى ذلك ، فإن العالم والمتعلم شريكان في الخير . أيها الناس : إنى والله لا أخاف عليكم أن تؤخذوا بما لم يبين لكم ، وقد قال - تعالى - { وَمَا كَانَ الله لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حتى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ . . } .
وقوله : { إِنَّ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } تعليل لما قبله ، أى إن الله - تعالى - عليم بكل شئ ، ولا يخفى عليه شئ من أقوال الناس وأفعالهم ، وسيحاسبهم يوم القيامة على ذلك ، وسيجازى الذين أساؤوا بما عملوا ، ويجازى الذين أحسنوا بالحسنى .
وقد ورد أنه لما نزلت الآيتان خشي الذين كانوا يستغفرون لآبائهم المشركين أن يكونوا قد ضلوا لمخالفتهم عن أمر اللّه في هذا فنزلت الآية التالية تطمئنهم من هذا الجانب ، وتقرر القاعدة الإسلامية : أنه لا عقوبة بغير نص ؛ ولا جريمة بغير بيان سابق على الفعل :
( وما كان اللّه ليضل قوماً بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون . إن اللّه بكل شيء عليم ) .
إن اللّه لا يحاسب الناس إلا على ما بين لهم أن يتقوه ويحذروه ولا يأتوه . وليس من شأنه أن يذهب بهدى قوم بعد إذ هداهم ويكلهم إلى الضلال لمجرد الفعل ، ما لم يكن هذا الفعل مما نهاهم عنه قبلا . . ذلك أن الإنسان قاصر واللّه هو العليم بكل شيء . ومنه البيان والتعليم .
ولقد جعل اللّه هذا الدين يسراً لا عسراً ، فبين ما نهى عنه بياناً واضحاً ، كما بين ما أمر به بياناً واضحاً . وسكت عن أشياء لم يبين فيها بياناً - لا عن نسيان ولكن عن حكمة وتيسير - ونهى عن السؤال عما سكت عنه ، لئلا ينتهي السؤال إلى التشديد . ومن ثم فليس لأحد أن يحرم شيئاً من المسكوت عنه ، ولا أن ينهى عما لم يبينه اللّه . تحقيقاً لرحمة اللّه بالعباد . .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِلّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتّىَ يُبَيّنَ لَهُم مّا يَتّقُونَ إِنّ اللّهَ بِكُلّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } .
يقول تعالى ذكره : وما كان الله ليقضي عليكم في استغفاركم لموتاكم المشركين بالضلال بعد إذ رزقكم الهداية ووفقكم للإيمان به وبرسوله ، حتى يتقدم إليكم بالنهي عنه فتتركوا الانتهاء عنه فأما قبل أن يبين لكم كراهية ذلك بالنهي عنه ثم تتعدوا نهيه إلى ما نهاكم عنه ، فإنه لا يحكم عليكم بالضلال ، لأن الطاعة والمعصية إنما يكونان من المأمور والمنهى ، فأما من لم يؤمر ولم ينه فغير كائن مطيعا أو عاصيا فيما لم يؤمر به ولم ينه عنه . إنّ اللّهَ بِكُلّ شَيْء عَلِيمٌ يقول تعالى ذكره : إن الله ذو علم بما خالط أنفسكم عند نهي الله إياكم عن الاستغفار لموتاكم المشركين من الجزع على ما سلف منكم من الاستغفار لهم قبل تقدمه إليكم بالنهي عنه وبغير ذلك من سرائر أموركم وأمور عباده وظواهرها ، فبين لكم حلمه في ذلك عليكم ليضع عنكم ثقل الوجد بذلك .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : لِيُضِلّ قَوْما بَعْدَ إذْ هَدَاهُمْ حتى يُبَيّنَ لَهُمْ ما يَتّقُونَ قال : بيان الله للمؤمنين في الاستغفار للمشركين خاصة ، وفي بيانه طاعته ومعصيته ، فافعلوا أو ذروا .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : وَما كانَ اللّهُ لِيُضِلّ قَوْما بَعْدَ إذْ هَدَاهُمْ حتى يُبَيّنَ لَهُمْ ما يَتّقُونَ قال : بيان الله للمؤمنين أن لا يستغفروا للمشركين خاصة ، وفي بيانه طاعته ومعصيته عامة ، فافعلوا أو ذروا .
قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، نحوه .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، قوله : وَما كانَ اللّهُ لِيُضِلّ قَوْما بَعْدَ إذْ هَدَاهُمْ حتى يُبَيّنَ لَهُمْ ما يَتّقُونَ قال : يبين الله للمؤمنين في أن لا يستغفروا للمشركين في بيانه في طاعته وفي معصيته ، فافعلوا أو ذروا .
{ وما كان الله ليضل قوما } أي ليسميهم ضُلاّلاً ويؤاخذه مؤاخذتهم { بعد إذ هداهم } للإسلام . { حتى يبين لهم ما يتقون } حتى يبين لهم خطر ما يجب اتقاؤه ، وكأنه بيان عذر الرسول عليه الصلاة والسلام في قوله لعمه أو لمن استغفر لأسلافه المشركين قبل المنع . وقيل إنه في قوم مضوا على الأمر الأول في القبلة والخمر ونحو ذلك ، وفي الجملة دليل على أن الغافل غير مكلف . { إن الله بكل شيء عليم } فيعلم أمرهم في الحالين .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.