غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{۞وَإِن كُنتُمۡ عَلَىٰ سَفَرٖ وَلَمۡ تَجِدُواْ كَاتِبٗا فَرِهَٰنٞ مَّقۡبُوضَةٞۖ فَإِنۡ أَمِنَ بَعۡضُكُم بَعۡضٗا فَلۡيُؤَدِّ ٱلَّذِي ٱؤۡتُمِنَ أَمَٰنَتَهُۥ وَلۡيَتَّقِ ٱللَّهَ رَبَّهُۥۗ وَلَا تَكۡتُمُواْ ٱلشَّهَٰدَةَۚ وَمَن يَكۡتُمۡهَا فَإِنَّهُۥٓ ءَاثِمٞ قَلۡبُهُۥۗ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ عَلِيمٞ} (283)

282

واعلم أنه سبحانه جعل البياعات في هذا المقام على ثلاثة أقسام : بيع بكتاب وشهود ، وبيع برهان مقبوضة ، وبيع بالأمانة . ولما بين القسم الأول شرع في الثاني وقال { وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتباً فرهان مقبوضة } واتفق الفقهاء على أن الارتهان لا يختص بالسفر ولا بحالة عدم وجدان الكاتب ، كيف وقد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رهن درعه في غير سفر ، ولكنه وردت الآية على الغالب ، فإن الغالب أن لا يوجد الكاتب في السفر ولا يوجد أدوات الكتابة ولهذا قال ابن عباس : أرأيت إن وجدت الكاتب ولم تجد الصحيفة والدواة وقرأ { ولم تجدوا كاتباً } ونظيره قوله { فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم }[ النساء : 101 ] وليس الخوف من شرط جواز القصر . وكان مجاهد والضحاك يذهبان إلى أن الرهن لا يجوز في غير السفر أخذاً بظاهر الآية ، ولا يعمل بقولهما اليوم . وأصل الرهن من الدوام . رهن الشيء إذا دام وثبت . ونعمة راهنة أي دائمة ثابتة والرهن مصدر جعل اسماً وزال عنه عمل الفعل . فإذا قلت رهنت عنده رهناً لم يكن انتصابه انتصاب المصدر ولكن انتصاب المفعول به كما تقول : رهنت ثوباً . ولهذا جمع الأسماء . وله جمعان : رهن بضمتين كسقف في سقف ، ورهان مثل كباش في كبش . وقيل : إن أحدهما جمع الآخر . وفي الكلام حذف تقديره فرهن مقبوضة بدل من الشاهدين ، أو فعليه رهن ، أو فالوثيقة ، أو الذي يستوثق به رهن . ويعلم من قوله : { مقبوضة } أن الرهن لا بد في لزومه من القبض ، والمراد باللزوم أن لا يكون للراهن الرجوع عن الرهن ولا للمرتهن عن الارتهان .

وقبض المرهون المشاع إنما يحصل بقبض الكل وقبل القبض يصح الرهن ولكن لا يلزم . وأما صورة القبض فقبض العقار إنما يحصل بتخلية الراهن أو وكيله بينه وبين المرتهن أو وكيله وتمكينه منه بتسليم المفتاح فيما له مفتاح . وقبض المنقول يحصل بالنقل من موضعه إلى موضع لا يختص بالراهن كالشارع والمسجد وملك المرتهن ، وإن كان المنقول مقدراً فلا بد من التقدير أيضاً بوزن أو كيل أو ذرع . ولو نقل من بيت من دار الراهن إلى بيت آخر بإذنه ، أو وضعه الراهن بين يدي المرتهن إذا امتنع من قبضه ، حصل القبض . ثم إنه تعالى ذكر بيع الأمانة فقال { فإن أمن بعضكم بعضاً } فإن أمن بعض الدائنين بعض المديونين لحسن ظنه به وثقته بأنه لا يجحد الحق ولا ينكره { فليؤد الذي اؤتمن أمانته } فليكن المديون عند ظن الدائن به . وسمى الدين أمانة وإن كان مضموناً لائتمانه عليه بترك الارتهان منه والحاصل أنه مجاز مستعار . وذلك أنه لما اشترك هذا الدين مع الأمانة الشرعية في وصف وجود الأمانة اللغوية أطلق أحدهما على الآخر . والائتمان افتعال من الأمن { وليتق الله ربه } حتى لا يدور في خلده جحود واختيان . وفي الآية قول آخر وهو أنها خطاب للمرتهن بأن يؤدي الرهن عند استيفاء المال فإنها أمانة في يده . والصحيح هو الأول . ومن الناس من قال : هذه الآية ناسخة للآيات المتقدمة الدالة على وجوب الكتبة والإشهاد وأخذ الرهن . والحق أن تلك الأوامر محمولة على الإرشاد رعاية وجوه الاحتياط ، وهذه الآية محمولة على الرخصة . وعن ابن عباس أنه قال : في آية المداينة نسخ . ثم قال : { لا تكتموا الشهادة } وفيه وجوه :

الأول عن القفال : أنه تعالى لما أباح ترك الكتبة والإشهاد والرهن عند اعتقاد كون المديون أميناً ، ثم كان من الجائز أن يكون هذا الظن خطأ وأن يخرج المديون جاحداً للحق ، وكان من الممكن أن يكون بعض الناس مطلعاً على أحوالهم ، ندب الله ذلك الإنسان أن يشهد لصاحب الحق بحقه ، سواء عرف صاحب الحق تلك الشهادة أم لا ، وشدد فيه بأن جعله إثم القلب لو تركه . وعلى هذا يمكن أن يحمل قوله صلى الله عليه وسلم : " خير الشهود من شهد قبل أن يستشهد " وقيل : المراد من كتمان الشهادة أن ينكر العلم بتلك الواقعة . وقيل : المراد بالكتمان الامتناع من أدائها عند الحاجة إلى إقامتها ، فإن في ذلك إبطال حق المسلم ، وحرمه مال المسلم كحرمة دمه ، فلهذا بالغ في الوعيد وقال { ومن يكتمها فإنه أثم قلبه } والآثم الفاجر ، والآثم مرتفع بأن و { قلبه } فاعله . ويجوز أن يكون { قلبه } مبتدأ و { آثم } خبره مقدماً عليه ، والجملة خبر " إن " .

وفائدة ذكر القلب والشخص بجملته آثم لا قلبه وحده ، هو أن أفعال الجوارح تابعة لأفعال القلوب ومتولدة مما يحدث في القلب من الدواعي والصوارف ، وإسناد الفعل إلى القلب الذي هو محل الاقتراف ومعدن الاكتساب أبلغ كما يقال عند التوكيد : هذا مما أبصرته عيني وسمعته أذني وعرفه قلبي ، وعن النبي صلى الله عليه وسلم : " إن في جسد ابن آدم لمضغة إذا صلحت صلح بها سائر الجسد وإذا فسدت فسد بها سائر الجسد ألا وهي القلب " وزعم كثير من المتكلمين أن الفاعل والعارف والمأمور والمنهي هو القلب ، { والله بما تعملون عليم } فيه تحذير للكاتم وتهديد له . عن ابن عباس : أكبر الكبائر الإشراك بالله لقوله تعالى : { فقد حرم الله عليه الجنة } وشهادة الزور وكتمان الشهادة .

/خ283