غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{هُوَ ٱلَّذِيٓ أَنزَلَ عَلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ مِنۡهُ ءَايَٰتٞ مُّحۡكَمَٰتٌ هُنَّ أُمُّ ٱلۡكِتَٰبِ وَأُخَرُ مُتَشَٰبِهَٰتٞۖ فَأَمَّا ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمۡ زَيۡغٞ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَٰبَهَ مِنۡهُ ٱبۡتِغَآءَ ٱلۡفِتۡنَةِ وَٱبۡتِغَآءَ تَأۡوِيلِهِۦۖ وَمَا يَعۡلَمُ تَأۡوِيلَهُۥٓ إِلَّا ٱللَّهُۗ وَٱلرَّـٰسِخُونَ فِي ٱلۡعِلۡمِ يَقُولُونَ ءَامَنَّا بِهِۦ كُلّٞ مِّنۡ عِندِ رَبِّنَاۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّآ أُوْلُواْ ٱلۡأَلۡبَٰبِ} (7)

1

ولنذكر ههنا مسائل : الأولى : القرآن دل على أنه بكليته محكم وذلك قوله :

{ الر كتاب أحكمت آياته }[ هود : 1 ]{ الر تلك آيات الكتاب الحكيم }[ يوسف : 1 ] والمراد كون كله كلاماً ملحقاً فصيح الألفاظ صحيح المعاني ، وأنه بحيث لا يتمكن أحد من الإتيان بمثله لوثاقة مبانيه وبلاغة معانيه . ودل على أنه بتمامه متشابه { كتاباً متشابهاً مثاني }[ الزمر : 23 ] والمراد أنه يشبه بعضه بعضاً في الحسن والإعجاز والبراءة من التناقص والتناقض . ثم إن هذه الآية { هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات } دلت على أن بعض القرآن محكم وبعضه متشابه . فيعني ههنا بالمحكم ما هو المشترك بين النص والظاهر ، وبالمتشابه القدر المشترك بين المجمل والمؤول كما تقرر في المقدمة التاسعة من مقدّمات هذا الكتاب . والإحكام في اللغة المنع وكذا سائر تراكيبه . فالحاكم يمنع الظالم من الظلم ، وحكمة اللجام تمنع الفرس من الاضطراب ، وفي حديث النخعي " حكم اليتيم كما تحكم ولدك " أي امنعه من الفساد . وسميت الحكمة حكمة لأنها تمنع عما لا ينبغي وأما التشابه فهو كون الشيئين بحيث يعجز الذهن عن التمييز بينهما . ثم يقال لكل ما لا يهتدي الإنسان إليه متشابه إطلاقاً لاسم السبب على المسبب ، ونظيره المشكل لأنه أشكل أي دخل في شكل غيره ، ثم إن كل أحد من أصحاب المذاهب يدعي أن الآيات الموافقة لمذهبه محكمة ، ولقول خصمه متشابهة . فالمعتزلي يقول :{ فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر }[ الكهف : 29 ] محكم { وما تشاءون إلا أن يشاء الله }[ التكوير : 29 ] متشابه . والسني يقلب الأمر في ذلك . وكذا المعتزلي يقول :{ لا تدركه الأبصار }[ الأنعام : 103 ] محكم وقوله { وجوه يومئذٍ ناضرة إلى ربها ناظرة }

[ القيامة : 22 ، 23 ] متشابه . والسني بالعكس . فلا بد من قانون يرجع إليه فنقول : صرف اللفظ عن الراجح إلى المرجوح لا بد فيه من دليل منفصل . وهو إما لفظي أو عقلي . والدليل اللفظي لا يكون قاطعاً ألبتة لتوقفه على نقل اللغات ، وعلى وجوه التصريف والإعراب ، وعلى عدم الاشتراك وعدم المجاز وعدم التخصيص وعدم الإضمار وعدم المعارض النقلي والعقلي ، وكل ذلك مظنون ، والموقوف على المظنون أولى أن يكون مظنوناً فلا يجوز التعويل عليه في المسائل الأصولية ، فإذن لا سبيل إلى صرف اللفظ عن معناه الراجح إلى معناه المرجوح إلا بالدلالة القطعية العقلية ، على أن معناه الراجح محال عقلاً فإذا قامت هذه الدلالة وعرف المكلف أنه ليس مراد الله تعالى من هذه اللفظ ما أشعر به الظاهر ، فعند هذا لا يحتاج إلى أن يعرف أن ذلك المرجوح الذي هو المراد ماذا ، لأن السبيل إلى ذلك إنما يكون بترجيح مجاز على مجاز ، وترجيح تأويل على تأويل ، وذلك الترجيح لا يمكن إلا بالدلائل اللفظية وهي ظنية كما بينا ولا سيما المستعملة في ترجيح مرجوح على مرجوح آخر ، فإذن الخوض في تعيين التأويل غير جائز والله أعلم .

المسألة الثانية في حكاية أقوال الناس في المحكم والمتشابه . عن ابن عباس أن المحكمات هي الآيات الثلاث في سورة الأنعام { قل تعالوا }[ آية : 151 ] إلى آخرها ، وعلى هذا فالمحكم عنده ما لا يتغير باختلاف الشرائع ، لأن هذه الآية كذلك . والمتشابهات هي التي اشتبهت على اليهود كأوائل السور ، أوّلوها على حساب الجمل ليستخرجوا بقاء هذه الأمة فاختلط الأمر عليهم واشتبه . وعنه أن المحكم هو الناسخ والمتشابه هو المنسوخ . وقال الأصم : المحكم هو الذي يكون دلائله واضحة لائحة كإنشاء الخلق في قوله :{ فخلقنا النطفة علقة }[ المؤمنون : 14 ] والمتشابه ما يحتاج في معرفته إلى التدبر والتأمل كآيات البعث ، فإن التأمل يجعلها محكمة ، فإن من قدر على الإنشاء قدر على الإعادة . فإن عنى الأصم بوضوح الدلائل رجحانها ، وبالخفاء خلاف ذلك ، فهذا هو الذي ذكرنا من أن المحكم عبارة عن النص والظاهر ، والمتشابه المجمل والمؤول . وإن عنى بالواضح ما تعلم صحته بضرورة العقل ، وبالخفي ما تعرف صحته بدليل العقل ، فكل القرآن متشابه . فإن إنشاء الخلق أيضاً يفتقر إلى دليل عقلي ، فإن الدهري ينسب ذلك إلى الطبيعة ، والمنجم إلى تأثير الكواكب . ولعل الأصم يسمي ما هو الأبعد عن الغلط لقلة مقدماته وضبطها محكماً ، والذي هو غير ذلك متشابهاً . وقيل : كل ما أمكن تحصيل العلم به سواء كان ذلك بدليل جلي أو دليل خفي فهو المحكم ، وكل ما لا سبيل إلى معرفته كالعلم بوقت القيامة وبمقادير الثواب والعقاب في حق كل مكلف فذاك متشابه .

المسألة الثالثة في أنه لم جعل بعض القرآن محكماً وبعضه متشابهاً . من الملحدة من طعن فيه وقال : كيف يليق بالحكيم أن يجعل كتابه المرجوع إليه في دينه ، الموضوع إلى يوم القيامة بحيث يتمسك به كل صاحب مذهب ، فمثبت الرؤية يتمسك بقوله { وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة }[ القيامة : 22 ، 23 ] ونافيها يتشبث بقوله { لا تدركه الأبصار }[ الأنعام : 103 ] ومثبت الجهة { يخافون ربهم من فوقهم }[ النحل : 50 ]{ الرحمن على العرش استوى }

[ طه : 5 ] والنافي { ليس كمثله شيء }[ الشورى : 11 ] فكل منهم يسمي الآيات الموافقة لمذهبه محكمة والمخالفة متشابهة ، وربما آل الأمر في ترجيح بعضها على بعض إلى وجوه ضعيفة وتراجيح خفية ، وهذا لا يليق بالحكمة مع أنه لو جعل كله ظاهراً جلياً خالصاً عن المتشابه نفياً كان أقرب إلى حصول الغرض .

والجواب أنه متى كانت المتشابهات موجودة كان الوصول إلى الحق أصعب وأشق ، وزيادة المشقة توجب مزيد الثواب . وأيضاً لو كان كله محكماً كان مطابقاً لمذهب واحد فقط فكان ينفر أرباب سائر المذاهب عن قبوله وعن النظر فيه والانتفاع به ، وإذا كان مشتملاً على القسمين فحينئذٍ يطمع صاحب كل مذهب أن يجد فيه ما يؤيد مقالته فيجتهد في فهم معانيه ، وبعد الفحص والاستكشاف ، صارت المحكمات مفسرة للمتشابهات ، ويتخلص المبطل عن باطلة ويصل إلى الحق . وأيضاً إذا كان فيه محكم ومتشابه افتقر الناظر فيه إلى الاستعانة بالدلائل العقلية ، فيتخلص من ظلمة التقليد إلى ضياء البينة والاستدلال والطمأنينة ، وافتقر أيضاً إلى تحصيل علوم أخر كالصرف والنحو والمعاني والبيان وأصول الفقه وأصول الكلام إلى غير ذلك ، ولما في المشابهة من الابتلاء والتمييز بين الثابت على الحق والمتزلزل فيه . وههنا سبب أقوى وهو أن القرآن كتاب مشتمل على دعوة الخواص والعوام ، وطباع العامة تنبو في الأغلب عن إدراك الحقائق ، فمن سمع منهم في أول الأمر إثبات موجود ليس بجسم ولا متحيز ولا مشار إليه ظن أن هذا عدم ونفي فوقع في التعطيل ، فكان الأصلح أن يخاطبوا بألفاظ دالة على بعض ما توهموه وتخيلوه مخلوطاً بما يدل على الحق الصريح . فالأول وهو الذي يخاطبون به في أول الأمر من باب المتشابهات ، والثاني وهو الذي يكشف لهم آخر الحال من قبيل المحكمات .

قوله { هن أم الكتاب } الأم في اللغة الأصل الذي يتكون منه الشيء . فلما كانت المحكمات مفهومة بذواتها ، والمتشابهات إنما تصير مفهومة بإعانة المحكمات ، فلا جرم صارت المحكمات أصولاً للمتشابهات . وإنما لم يقل أمهات الكتاب ليطابق المبتدأ لأن مجموع المحكمات في تقدير شيء واحد هو الأصل لمجموع المتشابهات ، وهذا كقوله { وجعلنا ابن مريم وأمه آية }[ المؤمنون : 50 ] على معنى أن مجموعها آية واحدة . { وأخر } أي ومنه آيات آخر { متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ } أي ميل عن الحق { فيتبعون ما تشابه منه } لا يتمسكون إلا بالمتشابه . قال الربيع : هم وفد نجران حاجوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسيح فقالوا : أليس هو كلمة الله وروحاً منه ؟ قال صلى الله عليه وسلم : بلى . قالوا : حسبنا . وقال الكلبي : هم اليهود طلبوا علم مدة بقاء هذه الأمة من الحروف المقطعة في أوائل السور . وقال قتادة والزجاج : هم منكرو البعث لأنه قال في آخره { وما يعلم تأويله إلا الله } وما ذاك إلا وقت القيامة فإنه تعالى أخفاها عن الخلائق حتى الملائكة والأنبياء . والتحقيق أنه عام لكل مبطل متشبث بأهداب المتشابهات ، لأن اللفظ عام وخصوص السبب لا يمنع عن عموم اللفظ . ويدخل فيه كل ما فيه لبس واشتباه .

ومن جملته ما وعد الله به الرسول من النصرة والكفار من النقمة فكانوا يقولون ائتنا بعذاب الله ، ومتى الساعة ، ولو ما تأتينا بالملائكة ، فموهوا الأمر على الضعفة . قال أهل السنة : ويدخل في هذا الباب استدلال المشبهة بقوله

{ الرحمن على العرش استوى }[ طه : 5 ] فإنه لما ثبت بصريح العقل امتناع كون الإله في مكان وإلا لزم انقسامه ، وكل منقسم مركب ، وكل مركب ممكن . فمن تمسك به كان متمسكاً بالمتشابهات . ومن جملة ذلك استدلال المعتزلة بالظواهر الدالة على تفويض الفعل بالكلية إلى العبد فإنه لما ثبت بالبرهان العقلي أن صدور الفعل يتوقف على حصول الداعي وأنه من الله تعالى وإلا تسلسل ، فيكون حصول الفعل مع تلك الداعية وعدمه عند عدمها واجباً فيبطل التفويض ويثبت أن الكل بقضاء الله وقدره . وإذا لاحت الدلائل العقلية يجوز للعاقل أن يسمي الآيات الدالة على القضاء والقدر بالمتشابه ؟ بناء على ما اشتهر بين الجمهور من أن كل آية توافق مذهبهم فهي المحكمة ، وكل آية تخالفهم فهي المتشابهة . والإنصاف أن الآيات ثلاثة أقسام : أحدها ما يتأكد ظواهرها بالدلائل العقلية فذاك هو المحكم حقاً . وثانيها التي قامت الدلائل القاطعة على امتناع ظواهرها فذاك هو الذي يحكم فيه بأن مراد الله غير ظاهره . وثالثها الذي لا يوجد مثل هذه الدلائل على طرفي ثبوته وانتفائه فهو المتشابه بمعنى أن الأمر اشتبه فيه ولم يتميز أحد الجانبين عن الآخر . لكن ههنا عقدة أخرى وهي أن الدليل العقلي مختلف فيه أيضاً بحسب ما رتبه كل فريق وتخيله صادقاً في ظنه مادة وصورة . فكل فريق يدعي بمقتضى فكره أن الدليل العقلي قد قام على ما يوافق مذهبه وتأكد به الظاهر الذي تعلق به ، فلا خلاص من البين إلا بتأييد سماوي ونور إلهي

{ ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور }[ النور : 40 ] ثم إنه تعالى بين أن للزائغين غرضين : أحدهما { ابتغاء الفتنة } وهي في اللغة الاستهتار بالشيء والغلو فيه . يقال : فلان مفتون بطلب الدنيا ، والرجل مفتون بابنه وبشعره . فكان التمسك بذلك المتشابه يقرر البدعة والباطل في قلبه فيصير مفتوناً به عاشقاً لا ينقطع عنه تخيله ألبتة . وقيل : الفتنة في الدين هو الضلال عنه أي طلب أن يفتنوا الناس عن دينهم ويضلوهم . وعن الأصم : إنهم متى أوقعوا تلك المتشابهات في البين صار بعضهم مخالفاً للبعض في الدين ، وذلك يفضي إلى التقاتل والهرج والمرج فذاك هو الفتنة . الغرض الثاني { ابتغاء تأويله } أي طلب المعنى الذي يرجع إليه اللفظ بحسب ما يشتهونه من غير أن يكون قد وجد له في كتاب الله بيان . قال القاضي أبو بكر : هؤلاء الزائغون قد ابتغوا المتشابه من وجهين أحدهما أن يحملوه على غير الحق وهو المراد من قوله { ابتغاء الفتنة } والثاني أن يحكموا بحكم في الموضع الذي لا دليل فيه وهو قوله { وابتغاء تأويله } ثم قال عز من قائل { وما يعلم تأويله إلا الله } والعلماء اختلفوا في هذا الموضع .

منهم من يقف ههنا ، فعلى هذا لا يعلم المتشابه إلا الله وهو قول ابن عباس وعائشة والحسن ومالك بن أنس والكسائي والفراء ، ومن المعتزلة قول أبي علي الجبائي . ومنهم من لم يجعل الواو في { والراسخون } للابتداء وإنما يجعله للعطف حتى يكون العلم بالمتشابه حاصلاً عند الله وعند الراسخين ، لأن وصفهم بالرسوخ في العلم - وهو الثبوت والتعمق وبعد الغور فيه - يناسب ذلك . وهذا قول مجاهد والربيع بن أنس وأكثر المتكلمين ، وقد يروى عن ابن عباس أيضاً . والمختار هو الأول لوجوه منها : ما ذهب إليه كثير من العلماء أن " أما " فيه معنى التفصيل ألبتة ، وهذا إنما يستقيم لو قدر و " أما الراسخون في العلم فيقولون " . ومنها أن اللفظ إذا كان له معنى راجح ثم دل دليل أقوى منه على أن ذلك الظاهر غير مراد ، علم أن مراد الله بعض مجازات تلك الحقيقة وفي المجازات كثرة . وترجيح البعض على البعض لا يكون إلا بالتراجيح اللغوية الظنية ، ومثل ذلك لا يصح الاستدلال به في المسائل القطعية مثاله { الرحمن على العرش استوى }[ طه : 5 ] فإنه دل الدليل على أن الإله يمتنع أن يكون في المكان ، فعرفنا أنه ليس مراداً لله من هذه الآية ما أشعر به ظاهرها إلا أن في مجازات هذا اللفظ كثرة لا يتعين أحدها إلا بدليل لغوي ظني ، والقول بالظن في ذات الله وصفاته غير جائز بإجماع المسلمين ، ولهذا قال مالك بن أنس : الاستواء معلوم والكيفية مجهولة والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة . ومنها ما قيل إن هذه الآية ذم لطالب تأويل المتشابه حيث قال { فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه } وتخصيص بعض المتشابهات بذلك كطلب وقت الساعة ونحوه ترجيح من غير مرجح ، فالذم يتوجه على الكل وهو المطلوب . ومنها أنه تعالى مدح الراسخين في العلم بأنهم { يقولون آمنا به } وقال تعالى في أول البقرة :{ فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم }[ البقرة : 26 ] فهؤلاء الراسخون لو كانوا عالمين بتأويل ذلك المتشابه على التفصيل لما كان لهم في الإيمان به مدح ، ولا في قولهم { كل من عند ربنا } لأن كل من عرف شيئاً على التفصيل فإنه لا بد أن يؤمن به إنما الراسخون في العلم هم الذين علموا بالدلائل القطعية أن الله تعالى عالم بالمعلومات التي لا نهاية لها ، وعلموا أن القرآن كلام الله تعالى ، وأنه لا يتكلم بالباطل والعبث ، فإذا سمعوا آية ودلت الدلائل القاطعة على أنه لا يجوز أن يكون ظاهرها مراداً لله تعالى عرفوا أن مراد الله تعالى منه شيء غير ذلك الظاهر ، ثم فوضوا تعيين ذلك المراد إلى علمه وقطعوا بأن ذلك المعنى أي شيء كان فهو الحق والصواب .

فهؤلاء هم الراسخون في العلم بالله بحيث لم يزعزعهم قطعهم بترك الظاهر ولا عدم علمهم بالمراد عن الإيمان بالله والجزم بصحة القرآن ، ولم يصر كون ظاهره مردوداً شبهة لهم في الطعن في كلام الله تعالى . ثم إن جعل قوله { والراسخون } عطفاً على اسم { الله } فقوله { يقولون آمنا به } كلام مستأنف موضح لحال الراسخين بمعنى هم يقولون آمنا بالمتشابه كل من عند ربنا أي كل واحد من المحكم والمتشابه من عنده . وفي زيادة { عند } مزيد توضيح وتأكيد وتفخيم لشأن القرآن ، ويحتمل أن يعود الضمير في { آمنا به } إلى الكتاب أي يقولون ، آمنا بالكتاب كل من محكمه ومتشابهه من عند الله الحكيم الذي لا يتناقض كلامه ولا يختلف كتابه ، ويحتمل أن يكون قوله { يقولون } حالاً إلا أن فيه إشكالاً وهو أن ذا الحال هو الذي تقدم ذكره وههنا قد تقدم ذكر الله وذكر الراسخين ، والحال لا يمكن إلا من الراسخين فيلزم ترك الظاهر . { وما يذكر إلا أولوا الألباب } ما يتعظ إلا ذوو العقول الكاملة الذين يستعملون أذهانهم في فهم القرآن فيعلمون ما الذي يطابق ظاهره دلائل العقل فيكون محكماً ، وما الذي هو بالعكس فيكون متشابهاً ، ثم يعتقدون أن الكل كلام من لا يجوز في كلامه التناقض ، فيحكمون بأن ذلك المتشابه لا بد أن يكون له معنى صحيح عند الله وإن دق عن فهومنا . وقيل : هو مدح للراسخين بإلقاء الذهن وحسن التأمل حتى علموا من التأويل ما علموا .

/خ11