غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{قُلۡ يَـٰٓأَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ تَعَالَوۡاْ إِلَىٰ كَلِمَةٖ سَوَآءِۭ بَيۡنَنَا وَبَيۡنَكُمۡ أَلَّا نَعۡبُدَ إِلَّا ٱللَّهَ وَلَا نُشۡرِكَ بِهِۦ شَيۡـٔٗا وَلَا يَتَّخِذَ بَعۡضُنَا بَعۡضًا أَرۡبَابٗا مِّن دُونِ ٱللَّهِۚ فَإِن تَوَلَّوۡاْ فَقُولُواْ ٱشۡهَدُواْ بِأَنَّا مُسۡلِمُونَ} (64)

61

ثم إنه صلى الله عليه وسلم لما أورد على نصارى نجران من الدلائل ما انقطعوا معه ، ثم دعاهم إلى المباهلة فانخزلوا ورضوا بالصغار وقبلوا الجزية ، أمره الله تعالى بنمط آخر من الكلام مبني على الإنصاف يشهد به كل طبع مستقيم وعقل سليم فقال : { قل يا أهل الكتاب } يعني نصارى نجران ، لأن الآية من تمام قصتهم ، ولأنه كلام منصف فخوطب بما يطيب به قلوبهم كما لو قيل لحامل القرآن : يا حافظ كتاب الله .

وقيل : المراد يهود المدينة ، وقيل اليهود والنصارى جميعاً لأن ظاهر اللفظ يتناولهما ، ولما روي أن اليهود قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : ما تريد إلا أن نتخذك رباً كما اتخذت النصارى عيسى ، وقالت النصارى : يا محمد ما نريد إلا أن نقول فيك ما قالت اليهود في عزير . فأنزل الله تعالى هذه الآية . والمراد من قوله : { تعالوا } تعيين ما دعوا إليه والتوجه إلى النظر فيه وإن لم يكن انتقالاً من مكان إلى مكان . والمعنى هلموا إلى كلمة سواء فيها إنصاف من بعضنا لبعض ، لا ميل فيه لأحد على صاحبه . والسواء هو العدل والإنصاف لأن حقيقة الإنصاف إعطاء النصف وفيه التسوية بين نفسه وبين صاحبه . أو المراد إلى كلمة سواء مستوية بيننا وبينكم لا يختلف فيها القرآن والتوراة والإنجيل . وتفسير الكلمة بقوله : { أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله } فمحل { أن لا نعبد } خفض على البدل من { كلمة } أو رفع على الخبر أي هي أن لا نعبد . وهو خبر في معنى الأمر أي اعبدوا . وإنما ذكر أموراً ثلاثة لأن النصارى جمعوا بين الثلاثة . فعبدوا غير الله وهو المسيح ، وأشركوا به غيره لأنهم أثبتوا أقانيم ثلاثة أباً وابناً وروح القدس ، ثم قالوا : إن أقنوم الكلمة تدرعت بناسوت المسيح وأقنوم روح القدس تدرعت بناسوت مريم ، ولولا كون هذين الأقنومين ذاتين مستقلتين لما جاز عليهما مفارقة ذات الأب والتدرع بناسوت عيسى ومريم . وحيث أثبتوا ثلاثة ذوات مستقلة فقد أشركوا . ثم اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً لأنهم أطاعوهم في التحليل والتحريم من تلقاء أنفسهم من غير شريعة وبيان ، ولأنهم يسجدون لهم ويطيعونهم في المعاصي وهوى النفس ورؤية الأمور من الوسائط { أفرأيت من اتخذ إلهه هواه }[ الجاثية : 23 ] ولأن من مذهبهم أن الكامل في الرياضة يظهر فيه أثر اللاهوت ويحل فيه فيقدر على إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص . فهم وإن لم يطلقوا عليهم اسم الرب إلا أنهم أثبتوا في حقهم معنى الربوبية ، فثبت أن النصارى جمعوا بين الأمور الثلاثة ، وبطلانها كالأمر المتفق عليه بين العقلاء . فإن قيل : المسيح ما كان المعبود إلا الله فوجب أن يبقى الأمر بعد ظهور المسيح عليه ، والقول بالاشتراك أيضاً ضائع . وإذا لم يكن الحكم إلا لله وجب أن لا يرجع في التحليل والتحريم والانقياد والائتمار إلا إليه .

عن عدي بن حاتم : ما كنا نعبدهم يا رسول الله . قال صلى الله عليه وسلم : أليس كانوا يحلون لكم ويحرمون فتأخذون بقولهم ؟ قال : نعم . قال صلى الله عليه وسلم : هو ذاك . وعن الفضيل : لا أبالي أطعت مخلوقاً في معصية الخالق أو صليت لغير القبلة . { فإن تولوا } عن التوحيد { فقولوا } أيها المسلمون لأهل الكتاب { اشهدوا بأنا مسلمون } دونكم كما يقول الغالب لمغلوبه في جدال أو صراع : لزمتك الحجة فاعترف بأني أنا الغالب . أو يكون من باب التعريض ومعناه فاعترفوا بأنكم كافرون حيث أعرضتم عن الحق بعد ما تبين .