مدارك التنزيل وحقائق التأويل للنسفي - النسفي  
{أَوۡ مِسۡكِينٗا ذَا مَتۡرَبَةٖ} (16)

{ فَلاَ اقتحم العقبة * وَمَا أَدْرَاكَ مَا العقبة * فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ فِى يَوْمٍ ذِى مَسْغَبَةٍ * يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ * ثُمَّ كَانَ مِنَ الذين ءامَنُواْ } يعني فلم يشكر تلك الآيادي والنعم بالأعمال الصالحة من فك الرقاب أو إطعام اليتامى والمساكين ، ثم بالإيمان الذي هو أصل كل طاعة وأساس كل خير ، بل غمط النعم وكفر بالمنعم . والمعنى أن الإنفاق على هذا الوجه مرضي نافع عند الله لا أن يهلك ماله لبداً في الرياء والفخار . وقلما تستعمل «لا » مع الماضي إلا مكررة ، وإنما لم تكرر في الكلام الأفصح لأنه لما فسر اقتحام القبة بثلاثة أشياء صار كأنه أعاد «لا » ثلاث مرات وتقديره : فلا فك رقبة ولا أطعم مسكيناً ولا آمن . والاقتحام الدخول والمجاوزة بشدة ومشقة ، والقُحمة الشدة فجعل الصالحة عقبة وعملها اقتحاماً لها في ذلك من معاناة المشقة ومجاهدة النفس . وعن الحسن : عقبة والله شديدة مجاهدة الإنسان نفسه وهواه وعدوه الشيطان . والمراد بقوله { مَا العقبة } ما اقتحامها ومعناه أنك لم تدركنه صعوبتها على النفس وكنه ثوابها عند الله . وفك الرقبة تخليصها من الرق والإعانة في مال الكتابة .

{ فَكَّ رَقَبَةً * أَوْ إِطْعَامٌ } مكي وأبو عمرو وعلي على الإبدال من اقتحم العقبة ، وقوله { وَمَا أَدْرَاكَ مَا العقبة } اعتراض . غيرهم { فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ } على : اقتحامها فك رقبة أو إطعام . والمسغبة المجاعة ، والمقربة القرابة ، والمتربة الفقر ، مفعلات من سغب إذا جاع وقرب في النسب . يقال : فلان ذو قرابتي وذو مقربتي . وترب إذا افتقر ومعناه التصق بالتراب فيكون مأواه المزابل ووصف اليوم بذي مسغبة كقولهم همٌّ ناصب أي ذو نصب . ومعنى { ثُمَّ كَانَ مِنَ الذين ءامَنُواْ } أي داوم على الإيمان . وقيل : «ثم » بمعنى الواو . وقيل : إنما جاء ب «ثم » لتراخي الإيمان وتباعده في الرتبة والفضيلة عن العتق والصدقة لا في الوقت ، إذ الإيمان هو السابق على غيره ولا يثبت عمل صالح إلا به { وَتَوَاصَوْاْ بالصبر } عن المعاصي وعلى الطاعات والمحن التي يبتلى بها المؤمن { وَتَوَاصَوْاْ بالمرحمة } بالتراحم فيما بينهم