{ هو الذي أرسل رسوله بالهدى } : أي أرسل رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم بالهدى أي بالهداية البشرية .
{ ودين الحق } : أي الإِسلام إذ هو الدين الحق الثابت بالوحى الصادق .
{ ليظهره على الدين كله } : أي لينصره على سائر الأديان حتى لا يبقى إلا الإِسلام ديناً .
{ ولو كره المشركون } : أي ولو كره نصره وظهوره على الأديان المشركون الكافرون .
إنه تعالى هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق دين الله الحق الذي هو الإِسلام ليظهره على الدين كله وذلك حين نزول عيسى إذ يبطل يومها كل دين ولم يبق إلا الإِسلام ولو كره ذلك المشركون فإن الله مظهره لا محالة .
ثم ذكر سبب الظهور والانتصار للدين الإسلامي ، الحسي والمعنوي ، فقال : { هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ } أي : بالعلم النافع والعمل الصالح .
بالعلم الذي يهدي إلى الله وإلى دار كرامته ، ويهدي لأحسن الأعمال والأخلاق ، ويهدي إلى مصالح الدنيا والآخرة .
{ وَدِينِ الْحَقِّ } أي : الدين الذي يدان به ، ويتعبد لرب العالمين الذي هو حق وصدق ، لا نقص فيه ، ولا خلل يعتريه ، بل أوامره غذاء القلوب والأرواح ، وراحة الأبدان ، وترك نواهيه سلامة من الشر والفساد{[1080]} فما بعث به النبي صلى الله عليه وسلم من الهدى ودين الحق ، أكبر دليل وبرهان على صدقه ، وهو برهان باق ما بقي الدهر ، كلما ازداد العاقل تفكرا ، ازداد به فرحا وتبصرا .
{ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ } أي : ليعليه على سائر الأديان ، بالحجة والبرهان ، ويظهر أهله القائمين به بالسيف والسنان ، فأما نفس الدين ، فهذا الوصف ملازم له في كل وقت ، فلا يمكن أن يغالبه مغالب ، أو يخاصمه مخاصم إلا فلجه وبلسه ، وصار له الظهور والقهر ، وأما المنتسبون إليه ، فإنهم إذا قاموا به ، واستناروا بنوره ، واهتدوا بهديه ، في مصالح دينهم ودنياهم ، فكذلك لا يقوم لهم أحد ، ولا بد أن يظهروا على أهل الأديان ، وإذا ضيعوه واكتفوا منه بمجرد الانتساب إليه ، لم ينفعهم ذلك ، وصار إهمالهم له سبب تسليط الأعداء عليهم ، ويعرف هذا ، من استقرأ الأحوال ونظر في أول المسلمين وآخرهم .
ولما أخبر بذلك ، علله بما هو شأن كل ملك فكيف بالواحد في ملكه فقال : { هو } أي الذي ثبت أنه جامع لصفات الجمال والجلال وحده من غير أن يكون له شريك أو وزير ، { الذي أرسل }{[65065]} بما له من القوة والإرادة{[65066]} { رسوله } أي الحقيق بأن يعظمه كل من بلغه أمره لأن عظمته من عظمته ، ولم يذكر حرف الغاية إشارة إلى عموم الإرسال إلى كل من شمله الملك كما مضى { بالهدى } أي البيان الشافي { ودين الحق } أي الملك الذي ثباته لا يدانيه ثبات ، فلا ثبات لغيره ، فثبات هذا الدين بثباته ، ويجوز أن يكون المعنى : والدين الذي هو الحق الثابت في الحقية{[65067]} الكامل فيها كمالاً ليس لغيره ، فيكون من إضافة الموصوف إلى صفته إشارة إلى شدة التباسه بها{[65068]} { ليظهره } أي يعليه مع الشهرة وإذلال المنازع { على الدين } أي جنس الشريعة التي تجعل ليجازي من يسلكها و{[65069]}من يزيغ{[65070]} عنها ، بها يشرع فيها من الأحكام { كله } فلا يبقى دين إلا كان دونه وانمحق به وذل أهله له ذلاً لا يقاس به ذل ، { ولو كره } أي{[65071]} إظهاره { المشركون * } أي المعاندون في كفرهم{[65072]} الراسخون في تلك المعاندة ، وأعظم مراد بهذا أهل العناد ببدعة الاتحاد ، فإنهم ما تركوا شيئاً مما سواه حتى أشركوا به - تعالى الله{[65073]} عما يقولون علواً كبيراً ، - وهم مع بعد نحلتهم من العقول وفسادها من الأوهام ومصادمتها لجميع النقول في غاية الكثرة لمصير الناس إلى ما وعد الله ورسوله - وصدق الله ورسوله{[65074]} - من أن أكثرهم قد مرجت عهودهم{[65075]} وخفيت أماناتهم{[65076]} وصاروا حثالة كحثالة التمر لا يعبأ الله بهم ، لكنهم على كثرتهم بما تضمنته هذه الآية في أمثالها في غاية الذل ولله الحمد لا عز لهم إلا بإظهار الاتباع للكتاب{[65077]} والسنة وهم يعلمون أنهم يكذبون في هذه الدعوى لأنهم في غاية المخالفة لهما{[65078]} بحيث يعتقدون أنهما شرك لإثباتهما لله تعالى وجوداً يخالف وجود الخلق وهم يقولون مكابرة للضرورة أن الوجود واحد وأنه لا موجود ظاهراً وباطناً سواه ، ولذلك سموا الوجود به ثم{[65079]} لا يردهم علمهم بذلهم وأنهم لا عز لهم إلا بحمى الشريعة عن ضلالهم فأعجب لذلك وألجأ إلى الله تعالى بسؤال العافية ، فإن القلوب بيد الله يقلبها كيف يشاء ، وضربهم بالذل مع كثرتهم في {[65080]}غاية الدلالة على الله سبحانه لأن الملك الكامل القدرة لا يقر من يطعن في ملكه ويسعى في رد رسالته وإهانة رسله ولقد أنجز سبحانه كثيراً من وعده بما دل{[65081]} - لكونه تغليباً على أقوى الملوك من الأكاسرة والقياصرة{[65082]} - على القدرة على الباقين ، وذلك أنه لما تقاعد قومه عن نصرته وانتدبوا لتكذيبه وجحدواما شاهدوه من صدقه يسر{[65083]} الله له أنصاراً من أمته هم {[65084]}نزاع القبائل{[65085]} وأجاد الأفاضل وسادات الأماثل فبلغوا في تأييده أقصى الأمل .