الرابعة- قوله تعالى : " قم الليل " قراءة العامة بكسر الميم لالتقاء الساكنين . وقرأ أبو السمال بضم الميم إتباعا لضمة القاف . وحكى الفتح لخفته . قال عثمان بن جني : الغرض بهذه الحركة التبليغ بها هربا من التقاء الساكنين ، فبأي حركة تحركت فقد وقع الغرض . وهو من الأفعال القاصرة غير المتعدية إلى مفعول ، فأما ظرف الزمان والمكان فسائغ فيه ، إلا أن ظرف المكان لا يتعدى إليه إلا بواسطة ، لا تقول : قمت الدار حتى تقول قمت وسط الدار وخارج الدار . وقد قيل : إن " قم " هنا معناه صل ، عبر به عنه واستعير له حتى صار عرفا بكثرة الاستعمال .
الخامسة- " الليل " حد الليل : من غروب الشمس إلى طلوع الفجر . وقد تقدم بيانه في سورة " البقرة " {[15500]} . واختلف : هل كان قيامه فرضا وحتما ، أو كان ندبا وحضا ؟ والدلائل تقوي أن قيامه كان حتما وفرضا ، وذلك أن الندب والحض لا يقع على بعض الليل دون بعض ؛ لأن قيامه ليس مخصوصا به وقتا دون وقت . وأيضا فقد جاء التوقيت بذلك عن عائشة وغيرها على ما يأتي . واختلف أيضا : هل كان فرضا على النبي صلى الله عليه وسلم وحده ، أو عليه وعلى من كان قبله من الأنبياء ، أو عليه وعلى أمته ؟ ثلاثة أقوال : الأول : قول سعيد بن جبير لتوجه الخطاب إليه خاصة . الثاني : قول ابن عباس ، قال : كان قيام الليل فريضة على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى الأنبياء قبله . الثالث : قول عائشة وابن عباس أيضا وهو الصحيح ، كما في صحيح مسلم عن زرارة بن أوفى أن سعد بن هشام بن عامر أراد أن يغزو في سبيل الله . . . الحديث ، وفيه : فقلت لعائشة : أنبئيني عن قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقالت : ألست تقرأ : " يا أيها المزمل " قلت : بلى ! قالت فإن الله عز وجل افترض قيام الليل في أول هذه السورة ، فقام صلى الله عليه وسلم وأصحابه حولا ، وأمسك الله عز وجل خاتمتها اثني عشر شهرا في السماء ، حتى أنزل الله عز وجل في آخر هذه السورة التخفيف ، فصار قيام الليل تطوعا بعد فريضة . وذكر الحديث .
السابعة- وذكر وكيع ويعلى قالا : حدثنا مسعر عن سماك الحنفي قال : سمعت ابن عباس يقول لما أنزل أول " يا أيها المزمل " [ المزمل : 1 ] كانوا يقومون نحوا من قيامهم في شهر رمضان حتى نزل آخرها ، وكان بين أولها وآخرها نحو من سنة . وقال سعيد بن جبير : مكث النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه عشر سنين يقومون الليل ، فنزل بعد عشر سنين : " إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل " [ المزمل : 20 ] فخفف الله عنهم .
السادسة- قوله تعالى : " إلا قليلا " استثناء من الليل ، أي صل الليل كله إلا يسيرا منه ؛ لأن قيام جميعه على الدوام غير ممكن ، فاستثنى منه القليل لراحة الجسد . والقليل من الشيء ما دون النصف ، فحكي عن وهب بن منبه أنه قال : القليل ما دون المعشار والسدس . وقال الكلبي ومقاتل : الثلث .
ثم خوطب بعد-{[69360]} ذلك بالنبي{[69361]} والرسول : { قم } أي في خدمتنا {[69362]}بحمل أعباء{[69363]} نبوتنا والازدمال بالاجتهاد في الاحتمال ، واترك التزمل فإنه مناف للقيام{[69364]} .
ولما كان الاجتهاد في الخدمة دالاًّ على غاية المحبة ، وكانت النية خيراً{[69365]} من العمل ، وكان الإنسان مجبولاً على الضعف ، وكان سبحانه لطيفاً بهذه الأمة تشريفاً لإمامها صلى الله عليه وسلم ، رضى منا سبحانه بصدق التوجه إلى العمل وجعل أجورنا أكثر من أعمالنا ، فجعل إحياء البعض إحياء للكل ، فأطلق اسم الكل وأراد البعض فقال : { الليل } أي الذي هو وقت الخلوة والخفية والستر ، فصل لنا {[69366]}في كل ليلة من هذا الجنس{[69367]} وقف بين يدينا{[69368]} بالمناجاة والأنس بما أنزلنا عليك من كلامنا{[69369]} فإنا نريد إظهارك وإعلاء قدرك في البر والبحر والسر والجهر ، وقيام الليل في الشرع معناه الصلاة فلذا لم يقيده ، وهي جامعة لأنواع الأعمال الظاهرة والباطنة ، وهي عمادها ، فذكرها دال على ما عداها .
ولما كان للبدن حظ في الراحة قال مستثنياً من الليل : { إلا قليلاً * } أي من كل ليلة ، ونودي هذا النداء لأنه-{[69370]} صلى الله عليه وسلم " لما جاءه الوحي بغار حراء رجع إلى خديجة زوجته رضي الله تعالى عنها يرجف فؤاده فقال : " زملوني زملوني ! لقد خشيت على نفسي " . فسألته رضي الله عنها عن حاله ، فلما قص عليها أمره -{[69371]} قال{[69372]} : " خشيت على نفسي " يعني أن يكون هذا مبادىء شعر أو كهانة ، وكل ذلك من الشياطين وأن يكون الذي ظهر له بالوحي ليس بملك ، وكان صلى الله عليه وسلم يبغض الشعر والكهانة غاية البغضة ، فقالت{[69373]} له وكانت وزيرة صدق{[69374]} : " كلا والله ! لا يخزيك الله أبداً ، إنك لتصل الرحم وتقري الضيف وتحمل الكل وتعين على نوائب الحق " ونحو هذا من المقال الذي يثبت ، وفائدة التزمل أن الشجاع الكامل إذا دهمه أمر هو فوق قواه ففرق أمره فرجع إلى نفسه ، وقصر بصره وبصيرته على حسه ، اجتمعت قواه إليه فقويت جبلته الصالحة على تلك العوارض التخييلية فهزمتها فرجع إلى أمر الجبلة العلية ، وزال ما عرض من العلة البدنية .
وقال الإمام أبو جعفر{[69375]} بن الزبير : لما كان ذكر إسلام الجن قد أحرز غاية انتهى مرماها{[69376]} وتم مقصدها ومبناها ، وهي الإعلام باستجابة هؤلاء وحرمان من كان أولى بالاستجابة ، وأقرب في ظاهر الأمر إلى الإنابة ، بعد تقدم وعيدهم وشديد تهديدهم ، صرف الكلام إلى أمره صلى الله عليه وسلم بما يلزمه من وظائف عبادته وما يلزمه{[69377]} في أذكاره من ليله ونهاره ، مفتتحاً{[69378]} ذلك بأجمل مكالمة وألطف مخاطبة{[69379]} { يا أيها المزمل } [ المزمل : 1 ] {[69380]}وكان ذلك{[69381]} تسلية له صلى الله عليه وسلم كما ورد
{ فلا تذهب نفسك عليهم حسرات }[ فاطر : 8 ] إلى آخره ، وليحصل منه الاكتراث بعناد من قدم عناده وكثرة لججه ، وأتبع ذلك بما يشهد لهذا الغرض ويعضده وهو قوله تعالى
{ فاصبر صبراً جميلاً }[ المعارج : 5 ]
{ واصبر على ما يقولون واهجرهم هجراً جميلاً وذرني والمكذبين أولي النعمة ومهلهم قليلاً }[ المزمل : 10 - 11 ] وهذا عين الوارد في قوله تعالى :
{ فلا تذهب نفسك عليهم حسرات }[ فاطر : 8 ] وفي قوله
{ نحن أعلم بما يقولون وما أنت عليهم بجبار }[ ق : 45 ] ثم قال :
{ إن لدينا أنكالاً }[ المزمل : 12 ] فذكر ما أعد لهم ، وإذا تأملت هذه الآي وجدتها قاطعة بما قدمناه ، وبان لك التحام ما ذكره ، ثم رجع الكلام إلى التلطف به عليه الصلاة والسلام وبأصحابه - رضي الله عنهم أجمعين - وأجزل جزاءهم مع وقوع{[69382]} التقصير ممن يصح منه تعظيم المعبود الحق جل جلاله
( علم أن لن تحصوه فتاب عليكم{[69383]} فاقرؤوا ما تيسر من القرآن }[ المزمل : 20 ] ثم ختم السورة بالاستغفار من كل ما تقدم من عناد الجاحدين المقدم ذكرهم فيما قبل من السور{[69384]} إلى ما لا يفي العباد المستجيبون به مما أشار إليه قوله تعالى :
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.