الأُميون : هم العرب ، لأنهم كانوا لا يعرفون القراءة والكتابة إلا نسبة قليلة منهم .
والله تعالى هو الذي أرسلَ رسولَه محمداً صلى الله عليه وسلم من العرب الأميين الذين لا يقرأون ولا يكتبون ، كي يتلو عليهم القرآن ، ويزكّيهم بالأخلاق الفاضلة ويطهرهم من الشرك وعبادة الأوثان ، ويعلّمهم الشرائع والعلم النافع ليقودوا العالم وينشروا القِيَم الفاضلة في الشرق والغرب . . وقد كان ذلك من أولئك الأميين بفضل الإسلام وتحت راية القرآن .
{ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ }
وأي ضلالٍ أكبر من عبادة الأصنام وإتيان الفواحش ، كما قال جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه يخاطب النجاشيّ ملكَ الحبشة لما هاجروا إليه :
« أيها الملك كنّا قوماً أهلَ جاهلية ، نعبد الأصنام ، ونأكل الميتة ، ونأتي الفواحش ، ونقطع الأرحام ، ونسيء الجِوار ، ويأكل القويُّ منا الضعيف ، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً منا ، نعرف نسبه وصِدقه وأمانته وعفافه . فدعانا إلى الله لنوحّده ولنعبده ، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان . وأمرَنا بصدق الحديث ، وأداء الأمانة وصلة الرحم ، وحُسن الجوار ، والكفّ عن المحارم والدماء ، ونهانا عن الفواحش وقول الزور ، وأكْل مال اليتيم ، وقذف المحصنات . وأمَرَنا أن نعبد الله ولا نشرك به شيئا ، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام » .
{ 2-4 } { هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ }
المراد بالأميين : الذين لا كتاب عندهم ، ولا أثر رسالة من العرب وغيرهم ، ممن ليسوا من أهل الكتاب ، فامتن الله تعالى عليهم ، منة عظيمة ، أعظم من منته على غيرهم ، لأنهم عادمون للعلم والخير ، وكانوا في ضلال مبين ، يتعبدون للأشجار والأصنام والأحجار ، ويتخلقون بأخلاق السباع الضارية ، يأكل قويهم ضعيفهم ، وقد كانوا في غاية الجهل بعلوم الأنبياء ، فبعث الله فيهم رسولاً منهم ، يعرفون نسبه ، وأوصافه الجميلة وصدقه ، وأنزل عليه كتابه { يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ } القاطعة الموجبة للإيمان واليقين ، { وَيُزَكِّيهِمْ } بأن يحثهم على الأخلاق الفاضلة ، ويفصلها لهم ، ويزجرهم عن الأخلاق الرذيلة ، { وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ } أي : علم القرآن{[1092]} وعلم السنة ، المشتمل ذلك علوم الأولين والآخرين ، فكانوا بعد هذا التعليم والتزكية منه أعلم الخلق ، بل كانوا أئمة أهل العلم والدين ، وأكمل الخلق أخلاقًا ، وأحسنهم هديًا وسمتًا ، اهتدوا بأنفسهم ، وهدوا غيرهم ، فصاروا أئمة المهتدين ، وهداة المؤمنين{[1093]} ، فلله عليهم ببعثه هذا الرسول صلى الله عليه وسلم ، أكمل نعمة ، وأجل منحة .
{ بسم الله الرحمن الرحيم }{ يسبح لله ما في السماوات وما في الأرض الملك القدوس العزيز الحكيم هو الذي بعث في الأميين } يعني العرب كانت أمة أمية لا تكتب ولا تقرأ { رسولاً منهم } يعني محمدا صلى الله عليه وسلم نسبه نسبهم . { يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين } أي ما كانوا قبل بعثة الرسول إلا في ضلال مبين يعبدون الأوثان .
ولما كانت القدرة على تزكية الجلف الجافي بحمله{[65208]} على التنزيه أدل على القدرة على غيره ، وكان قد أسلف عن بني إسرائيل أنهم لم يقبلوا التزكية بل زاغوا ، دل على قدرته في عزته وحكمته وملكه وقدسه على تزكية جميع العقلاء بقوله : { هو } أي وحده { الذي بعث } أي من حضرة غيب غيبه بشرع أوامره ونواهيه { في الأميين } أي العرب لأنهم كانوا معروفين من{[65209]} بين سائر الأمم لا يكتبون بل هم على الخلقة الأولى حين الخروج من بطن الأم ، وذكر ظرف البعث وإهمال غايته دال على أنها كل من يتأتى البعث إليه وهم جميع الخلق ، ويجوز أن تطلق الأمية على جميع أهل الأرض لأن بعثه{[65210]} صلى الله عليه وسلم كان حين ذهب العلم من الناس ، ولأن العرب أصل فجميع الباقين تبع لهم ، فلا بدع أن يحمل{[65211]} عليهم وصفهم { رسولاً } ولما كان تقويم الشيء بمثله أعجب قال : { منهم{[65212]} } بل الأمية بمعنى{[65213]} عدم الكتابة والتجرد عن كل تكلف وصف لازم له دائماً وعلمه لما يكن يعلم من غير تطلب{[65214]} ، فكانت آثار البشرية عنه مندرسة ، وأنوار الحقائق عليه لائحة ، وذلك لئلا يتوهم الافتقار إلى الاستعانة بالكتب لأن منشأ مشاكلته لحال من بعث فيهم أقرب إلى مساواتهم له لو أمكنهم{[65215]} ، فيكون عدم إمكان المساواة أدل على الإعجاز ، وذكر بعثه{[65216]} منهم إن خص الوصف بالعرب لا ينفي بعثه{[65217]} إلى غيرهم ولا سيما مع ما ورد فيه من الصرائح وأثبته من الدلائل القواطع{[65218]} ، فذكر موضع البعث وابتداءه فتكون الغاية مطلقة تقديرها : إلى عامة الخلق .
ولما كان كونه منهم مفهماً لأنه لا يزيد عليهم من حيث كونه منهم{[65219]} وإن زاد فبشيء يسير ، عجب{[65220]} من أمره ونبه{[65221]} على معجزة عظيمة له بقوله مستأنفاً : { يتلوا } أي يقرأ قراءة يتبع بعضها بعضاً على وجه الكثرة والعلو والرفعة { عليهم } مع كونه أمياً مثلهم { آياته } أي يأتيهم بها على سبيل التجدد والمواصلة آية بينة على صدقه لأنه أمي مثلهم بل فيهم الكاتب والعالم وإن كانوا معمورين في كثرتهم فما{[65222]} خصه عنهم بذلك إلا القادر على كل شيء .
ولما كان المقام للتنزيه ولتأديب من وقع في موادة الكفار ونحو ذلك ، قدم التزكية فقال{[65223]} : { ويزكيهم } أي عن الأخلاق الرذيلة والعقائد الزائغة ، فكانت{[65224]} تزكيته لهم مدة حياته بنظره الشريف إليهم وتعليمه لهم وتلاوته عليهم ، فربما نظر إلى الإنسان نظرة محبة فزكاه الله بها ، وربما سرت تلك النظرة إلى ثان فأشرقت أنوارها عليه على حسب القابليات كما وقع لعمير بن وهب ثم صفوان بن أمية وكذا ذو النور{[65225]} الطفيل بن عامر الدوسي رضي الله عنه ثم قومه ، فأما عمير فكان من أعظم المؤذين{[65226]} للنبي صلى الله عليه وسلم ولمن آمن به فتذاكر مع صفوان وقعة بدر في الحجر ومن فقدوا من صناديدهم وأنه ليس في العيش بعدهم خير ، ثم تمنوا رجلاً بقتال النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال عمير : لولا فقري وبنات لي وعيال أخشى عليهم الضيعة من بعدي لأتيته بغلة{[65227]} أسيري عندهم فقتلته ، فاغتنمها صفوان فعاهده أن يكفي عياله إن مات وأن يواسيه إن عاش ، فقال : اكتم عني ثلاثاً ، ثم ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فهداه الله فحلف صفوان أن لا يكلمه أبداً ، فلما فتحت مكة فر صفوان ليركب البحر من جدة ، فاستأذن عمير النبي صلى الله عليه وسلم ثم ذهب إليه فلحقه فلم يزل به حتى رجع ثم أسلم فكان{[65228]} من خيار الصحابة رضي الله عنه ، وأما ذو النور فحين دعاه النبي صلى الله عليه وسلم ثم سأل آية يعينه الله بها على قومه فآتاه الله نوراً حين أشرف على الحي الذي هو منه ، ثم دعا أباه وأمه فأسلما ، ثم صاحبته فكذلك ثم قومه ، فما تخلف منهم أحد ، وأما غير الصحابة رضي الله عنهم فتزكيته لهم بآثاره بحسب القابليات والأمور التي قضى الله أن يكون مهيأ ، {[65229]}فمن كان{[65230]} له أعشق كان لاتباعه ألزم ، فكان في كتاب الله وسنته أرسخ من سيرة وغيرها علماً وعملاً فكان{[65231]} أشد زكاء{[65232]} .
ولما كانوا بعد التزكية التي هي تخلية عن الرذائل أحوج ما يكون إلى تحلية بالفضائل قال : { ويعلمهم الكتاب } أي المنزل عليه الجامع لكل خير ديني ودنيوي في الأولى و{[65233]}الأخرى { والحكمة } وهي غاية الكتاب{[65234]} في قوة فهمه والعمل به ، فهي العلم{[65235]} المزين بالعمل والعمل{[65236]} المتقن بالعلم معقوله ومنقوله ليضعوا كل شيء منه في أحكم مواضعه فلا يزيغوا عن الكتاب كما زاغ بنو إسرائيل ، فيكون مثلهم{[65237]} كمثل الحمار {[65238]}يحمل أسفاراً{[65239]} ولو{[65240]} لم يكن له صلى الله عليه وسلم معجزة{[65241]} إلا هذه لكانت غاية .
ولما كان الوصف بالأمية مفهماً للضلال ، وكان كثير منهم حال إنزال هذه السورة يعتقد أنهم على دين متين وحال جليل مبين ، وكانوا{[65242]} بعد هدايته لهم بعد الأمية سيضلون لأن الإرسال{[65243]} من حضرة غيب الغيب في العلوم المنافية للأمية إلى ما لم تصل إليه أمة من الأمم قبلهم ، وكان ذلك موجباً للتوقف{[65244]} في كونهم كانوا أميين ، أكد هذا المفهوم بقوله : { وإن } أي والحال أنهم { كانوا } أي كوناً هو كالجبلة لهم . ولما كان{[65245]} كونهم ذلك في بعض الزمن الماضي ، أدخل الجار فقال : { من قبل } أي قبل إرساله إليهم من حين غيروا دين أبيهم إسماعيل{[65246]} عليه الصلاة والسلام وعبدوا الأصنام { لفي ضلال } أي بعد عن المقصود { مبين * } أي ظاهر في نفسه مناد لغيره{[65247]} أنه ضلال باعتقادهم الأباطيل الظاهرة وظنهم أنهم على شيء وعموم الجهل لهم ورضاهم به واختيارهم له وعيبهم {[65248]}من يميل{[65249]} إلى التعلم وينحو نحو التبصر كما وقع لهم مع زيد بن عمرو بن نفيل وغيره ، فوصفهم بهذا غاية في نفي التعلم من {[65250]}مخلوق عن نبيهم إعظاماً {[65251]}لما جاء به من الإعجاز وتقريراً لشدة احتياجهم إلى نبي يرشدهم إلى الهدى ، وينقذهم{[65252]} مما كانوا فيه من العمى والردى .