سورة الصف مدنية وآياتها أربع عشرة ، نزلت بعد سورة التغابن ، وهي من السور المدنية التي تضمنت بعض الأحكام التشريعية ، وتهذيب الأخلاق . فبعد أن بدأت بالإخبار بأن كل ما في السموات والأرض يسبحون الله ، أشارت إلى أنه لا يليق بالمؤمنين أن يخالف قولهم عملهم ، فالله يطلب منا أن تطابق أفعالنا أقوالنا ، ومن أكبر الجرائم عند الله أن يقول الإنسان شيئا مخالفا لفعله .
ثم بعد أن أمرنا بالصدق في القول والعمل ، أمرنا أن نكون صفا واحدا في قتال العدو . ومقتضى ذلك أننا نكون صفا واحدا في أمور الحياة كلها ، فلا جهاد إلا مع انتظام الأحوال وصدق الأفعال والأقوال في جميع الأمور . فإذا انتظم داخلنا وصدَقنا في جميع معاملاتنا ، وكنا يدا واحدة-يئس منا العدو وانتصرنا عليه .
ولذلك قال بعد أن حثنا على الصدق : { إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص } .
وسميت السورة " سورة الصف " أخذا من هذه الآية .
ثم وصمت السورة بني إسرائيل بالعناد والكفر على لسان رسولين كريمين هما موسى وعيسى عليهما السلام ، إذ زاغوا عنادا ، فختم الله على قلوبهم عندما كذبوا موسى ، وجاء بعده عيسى مصدقا بالتوراة مبشرا بمحمد صلى الله عليه وسلم فكذبه قومه أيضا . فليكن لك يا محمد أسوة بمن سبق من الأنبياء الذين صبروا على إيذاء قومهم وتكذيبهم . إن الله قد قضى أن من قام بالحق منصور ، ويا أيها المسلمون : إن الإيمان بالله والجهاد في سبيله هما الخلّتان اللتان تفوزون بهما في الدارين ، إذ لا فوز في الدنيا والآخرة إلا بعلم وعمل . والإيمان أفضل ما في العلم ، والجهاد أفضل ما في العمل . فلتكن فيكم الخصلتان والله يضمن لكم ثلاث خلال : غفران الذنوب ، ودخول الجنة ، والنصر المصحوب بالفتح القريب{ وبشر المؤمنين } . لماذا لا تقتدون بحواريّي عيسى إذ قالوا : { نحن أنصار الله } ، ونصرناهم على أعدائهم فأصبحوا ظاهرين عليهم . فإن أخلصتم في القول والعمل ، وصدقتم في جهادكم ونصركم لدينكم-ينصركم الله ويُظهركم على عدوكم . وقد صدق الله وعده .
قدّس اللهَ ونزّهه كلُّ شيء في هذا الكون : بعضُها بلسان الحال ، وبعضها بلسان المقال . وقد تقدم أن كل شيء في هذا الوجود يسبّح الله ، ويشهد له بالربوبية والوحدانية والقدرة وغيرها من صفات الكمال ، وهو الغالبُ على كل شيء ، الحكيم في تدبير خلقه .
{ 1-3 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ } وهذا بيان لعظمته تعالى وقهره ، وذل جميع الخلق{[1069]} له تبارك وتعالى ، وأن جميع من في السماوات والأرض يسبحون بحمد الله ويعبدونه ويسألونه حوائجهم ، { وَهُوَ الْعَزِيزُ } الذي قهر الأشياء بعزته وسلطانه ، { الْحَكِيمُ } في خلقه وأمره .
سورة الصف{[1]} وتسمى الحواريين .
مقصودها الحث{[2]} على الاجتهاد التام في{[3]} الاجتماع على قلب{[4]} واحد في جهاد من دعت الممتحنة إلى البراءة منهم ، بحملهم على الدين الحق ، أو محقهم عن جديد الأرض أقصى المحق ، تنزيها للملك{[5]} الأعلى عن الشرك ، وصيانة لجنابه الأقدس عن الإفك ، ودلالة على الصدق في البراءة منهم والعداوة لهم ، فهي{[6]} نتيجة سورة التوبة ، وأدل ما فيها على هذا المقصد الصف بتأمل آيته ، وتدبر ما له{[7]} من جليل النفع في أوله وأثنائه [ وغايته-{[8]} ] ، وكذا الحواريون ( بسم الله ) الملك الأعظم الذي له الأمر كله لأنه لا كفوء له ( الرحمان ) الذي عم بنعمة{[9]} البيان عما يرضيه ممن شاقه ، فقد شرك لكل أحد أن يرده أو يقبله ( الرحيم ) الذي خص{[10]} بإتمام الإنعام الموصل إلى دار السلام من شاء من عباده فهيأه لذلك وأهله .
لما ختمت الممتحنة بالأمر بتنزيهه سبحانه عن{[64786]} تولي من يخالف أمره بالتولي عنهم والبراءة منهم اتباعاً لأهل الصافات المتجردين عن كل ما سوى الله لا سيما عمن{[64787]} كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون ، افتتحت الصف بما هو كالعلة لذلك فقال :{ سبح لله } أي أوقع التنزيه الأعظم للملك الأعظم الذي له{ ما في السموات } من جميع الأشياء التي لا يغفل من أفلاكها ونجومها وغير ذلك من{[64788]} جواهرها وأعراضها{[64789]} في طلوعها وأفولها وسيرها في ذهابها ورجوعها وإنشاء السحاب وإنزال المياه وغير ذلك . ولما كان الخطاب مع غير الخلص أكده فقال :{ وما في الأرض } أي بامتثال جميع ما يراد منه مما هو كالمأمور بالنسبة إلى أفعال العقلاء من نزول المياه وإخراج النبات من النجم والشجر وإنضاج الحبوب والثمار - وغير ذلك من الأمور الصغار والكبار .
ولما كان امتثال غير العاقل وعصيان العاقل ربما{[64790]} أوهم نقصاً قال :{ وهو } أي وحده لا شريك له { العزيز } أي العظيم النفع الذي يغلب كل شيء ولا يغلبه شيء ، ويعسر الوصول إليه{[64791]} { الحكيم * } أي الذي يضع الأشياء في أتقن مواضعها ، فما مكّن العاقل من المعصية إلا لإظهار صفات الكمال من العلم والقدرة والحلم{[64792]} والكرم والرحمة والغضب وغير ذلك ، وقد علم بهذا التنزيه وختم آيته بهاتين الصفتين أنه تعالى منزه عما تضمنه يأس الكفار المذكور من{[64793]} أنه لا بعث وعن {[64794]}أن يجعل سبحانه لهم{[64795]} حظاً في الآخرة لأن كلاًّ من عدم البعث والتسوية بين المسيء والمحسن نقص{[64796]} .
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير : افتتحت بالتسبيح لما ختمت به سورة الممتحنة من قوله
{ لا تتولوا قوماً غضب الله عليهم }[ الممتحنة : 13 ] وهم اليهود ، {[64797]}وقد تقدم{[64798]} الإيماء إلى ما استوجبوا به هذا فأتبع بالتنزيه لما تقدم بيانه فإنه مما تعقب به ذكر جرائم المرتكبات ولا يرد في غير ذلك ، ثم أتبع ذلك بأمر العباد بالوفاء وهو الذي حد لهم{[64799]} في الممتحنة ليتنزهوا عن حال مستوجبي الغضب بنقيض الوفاء والمخالفة بالقلوب والألسنة{[64800]}{ يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم }[ آل عمران : 167 ] .
{ لياً بألسنتهم وطعناً في الدين }[ النساء : 46 ] .
{ من الذين قالوا آمنا{[64801]} بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم }[ المائدة : 41 ] .
{ ويقولون آمنا بالله والرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم }[ النور : 47 ] وبمجموع هذا استجمعوا {[64802]}اللعنة والغضب فقيل للمؤمنين :{ يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون }[ الصف : 2 ] احذروا أن تشبه أحوالكم حال من استحق المقت واللعنة والغضب ، ثم أتبع بحسن الجزاء لمن{[64803]} وفى قولاً وعقداً ولساناً وضميراً ، وثبت على ما{[64804]} أمر به فقال :{ إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً }[ الصف : 4 ] الآية ثم تناسج ما بعد . ولما كان الوارد من هذا الغرض في سورة الممتحنة قد جاء على طريق{[64805]} الوصية وسبيل النصح والإشفاق ، أتبع في سورة الصف بصريح العتب في ذلك والإنكار ليكون بعد ما{[64806]} تمهد في السورة قبل أوقع في الزجر ، وتأمل كم بين قوله سبحانه :{ يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء }{[64807]}[ الممتحنة : 1 ] وما تضمنته من اللطف{[64808]} وبين قوله : { لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون }[ الصف : 2 ] انتهى .
هذه السورة مدنية وآياتها أربع عشرة آية . وهي مبدوءة بالإيذان من الله بأن كل شيء في الوجود مسبح لله فهو مقدّسه ومنزّهه عن كل نقيصة أو عيب .
وفي السورة ينهى الله عن القول الذي لا يتبعه فعل . أو الوعد الذي لا يعقبه وفاء . ثم يندد الله تنديدا شديدا بالذين يتحدثون عن الخير أو المعروف ولا يأتونه أو يأتون خلافه من المعاصي .
وفي السورة تأنيس لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، إذ يبين الله له ما لقيه موسى كليمه من أذى قومه وسوء فعالهم وكذلك ما لقيه عيسى ابن مريم من المكاره والأذى وسوء القول فتحمل واصطبر ولم يتزعزع .
ثم يبين الله لعباده أفضل تجارة فيها التنجية والاستنقاذ من سوء العذاب ، وهي الإيمان بالله ورسوله والجهاد في سبيله بالمال والنفس .
{ سبح لله ما في السماوات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم 1 ياأيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون 2 كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون 3 إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص } .
كل شيء في هذا الكون ذاكر لله بتسبيحه وتنزيهه والإذعان له بالإلهية والربوبية ، { وهو العزيز الحكيم } الله القوي الغالب الذي لا يغالب . وهو سبحانه الحكيم في أقواله وأفعاله وتدبيره أمور خلقه .