الأسوة : بضم الهمزة وكسرها : القدوة .
برَآءُ : جمع بريء يعني متبرئين منهم .
بعد أن بيّن للمؤمنين خطر موالاة الكفار ولو كانوا من أقربائهم وأولادهم ، جاء هنا يذكّرهم بما فعل جدُّهم إبراهيم ( فإن قريشَ والعرب عامة يعتقدون أن نسبهم متصلٌ بإبراهيم ) وكيف تبرأ هو والذين هاجروا معه من أهلِهم وقومهم ، وعادوهم ، وتركوا لهم الديار ، فهلاَّ تأسّيتم أيها المؤمنون بهذا النبي العظيم ! ، قد كانت لكم قدوة حسنةٌ تقتدون بها في أبيكم إبراهيمَ والذين معه ، حين قالوا لقومهم : تبرأْنا منكم ، ومن الآلهة التي تعبدونها من دوِن الله ، لا يجمعُنا بكم شيء ، كَفَرْنا بكم ، وظهر بيننا وبينكم العداوةُ والبغضاء التي لا تزول أبداً حتى تؤمنوا بالله وحده . . . فلا تجاملوهم أيها المسلمون ولا تُبدوا لهم الرأفةَ وتستغفروا لهم .
وأما قولُ إبراهيم لأبيه : { لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَآ أَمْلِكُ لَكَ مِنَ الله مِن شَيْءٍ } فإنما كان عن مَوْعِدَةٍ وعدها إياه ، فلما تبيّن له انه عدوٌ للهِ تبرّأ منه ، كما جاء في سورة التوبة الآية 114 : { وَمَا كَانَ استغفار إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَآ إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ للَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ } .
ثم بين الله كيف ترك إبراهيمُ والذين معه قومهم وأوطانهم والتجأوا إلى الله : { رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ المصير } .
قد كانت لكم يا معشر المؤمنين { أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } أي : قدوة صالحة وائتمام ينفعكم ، { فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ } من المؤمنين ، لأنكم قد أمرتم أن تتبعوا ملة إبراهيم حنيفا ، { إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ } أي : إذ تبرأ إبراهيم عليه السلام ومن معه من المؤمنين ، من قومهم المشركين ومما يعبدون من دون الله .
ثم صرحوا بعداوتهم غاية التصريح ، فقالوا : { كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا } أي : ظهر وبان ، { بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ } أي : البغض بالقلوب ، وزوال مودتها ، والعداوة بالأبدان ، وليس لتلك العداوة والبغضاء وقت ولا حد ، بل ذلك { أَبَدًا } ما دمتم مستمرين على كفركم { حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ } أي : فإذا آمنتم بالله وحده ، زالت العداوة والبغضاء ، وانقلبت مودة وولاية ، فلكم أيها المؤمنون أسوة [ حسنة ] في إبراهيم ومن معه في القيام بالإيمان والتوحيد ، والقيام بلوازم ذلك ومقتضياته ، وفي كل شيء تعبدوا به لله وحده ، { إِلَّا } في خصلة واحدة وهي { قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ } آزر المشرك ، الكافر ، المعاند ، حين دعاه إلى الإيمان والتوحيد ، فامتنع ، فقال إبراهيم : { لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ و } الحال أني لا { أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ } لكني أدعو ربي عسى أن لا أكون بدعاء ربي شقيا ، فليس لكم أن تقتدوا بإبراهيم في هذه الحالة التي دعا بها للمشرك ، فليس لكم أن تدعوا للمشركين ، وتقولوا : إنا في ذلك متبعون لملة إبراهيم ، فإن الله ذكر عذر إبراهيم في ذلك بقوله : { وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إن إبراهيم لأواه حليم }
ولكم أسوة حسنة في إبراهيم ومن معه ، حين دعوا الله وتوكلوا عليه وأنابوا إليه ، واعترفوا بالعجز والتقصير ، فقالوا : { رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا } أي : اعتمدنا عليك في جلب ما ينفعنا ودفع ما يضرنا ، ووثقنا بك يا ربنا في ذلك .
{ وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا } أي : رجعنا إلى طاعتك ومرضاتك وجميع ما يقرب إليك ، فنحن في ذلك ساعون ، وبفعل الخيرات مجتهدون ، ونعلم أنا إليك نصير ، فسنستعد للقدوم عليك ، ونعمل ما يقربنا الزلفى إليك{[1053]} .
ثم أمر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالاقتداء بأصحاب ابراهيم عليه السلام فقال { قد كانت لكم أسوة حسنة } ائتمام واقتداء وطريقة حسنة { في إبراهيم والذين معه } من أصحابه اذ تبرؤوا من قومهم الكفار وعادوهم وقالوا لهم { كفرنا بكم } أي أنكرناكم وقطعنا محبتكم وقوله :{ إلا قول إبراهيم لأبيه } أي كانت لكم أسوة فيهم ما خلا هذا فانه لا يجوز الاستغفار للمشركين ثم 5 9 أخبر أنهم قالوا يعني قوم إبراهيم { ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير }
قوله تعالى : { قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم } لما نهى عز وجل عن مولاة الكفار ذكر قصة إبراهيم عليه السلام ، وأن من سيرته التبرؤ من الكفار ، أي فاقتدوا به وَأْتموا ، إلا في استغفاره لأبيه . والأسوة ما يتأسى به ، مثل القدوة والقدوة . ويقال : هو أسوتك ، أي مثلك وأنت مثله . وقرأ عاصم " أسوة " بضم الهمزة لغتان . { والذين معه } يعني أصحاب إبراهيم من المؤمنين . وقال ابن زيد : هم الأنبياء { إذ قالوا لقومهم } الكفار { إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله } أي الأصنام . وبرآء جمع بريء ، مثل شريك وشركاء ، وظريف وظرفاء . وقراءة العامة على وزن فعلاء . وقرأ عيسى بن عمر وابن أبي إسحاق " براء " بكسر الباء على وزن فعال ، مثل قصير وقصار ، وطويل وطوال ، وظريف وظراف . ويجوز ترك الهمزة حتى تقول : برا ، وتنون . وقرئ " براء " على الوصف بالمصدر . وقرئ " براء " على إبدال الضم من الكسر ، كرُخَال ورُبَاب{[14897]} . والآية نص في الأمر بالاقتداء بإبراهيم عليه السلام في فعله . وذلك يصحح أن شرع من قبلنا شرع لنا فيما أخبر الله ورسوله . { كفرنا بكم } أي بما آمنتم به من الأوثان . وقيل : أي بأفعالكم وكذبناها وأنكرنا أن تكونوا على حق . { وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا } أي هذا دأبنا معكم ما دمتم على كفركم { حتى تؤمنوا بالله وحده } فحينئذ تنقلب المعاداة موالاة ، { إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك } فلا تتأسوا به في الاستغفار فتستغفرون للمشركين ، فإنه كان عن موعدة منه له ، قاله قتادة ومجاهد وغيرهما . وقيل : معنى الاستثناء أن إبراهيم هجر قومه وباعدهم إلا في الاستغفار لأبيه ، ثم بين عذره في سورة " التوبة{[14898]} " . وفي هذا دلالة على تفضيل نبينا عليه الصلاة والسلام على سائر الأنبياء ؛ لأنا حين أمرنا بالاقتداء به أمرنا أمرا مطلقا في قوله تعالى : { وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا{[14899]} } [ الحشر : 7 ] وحين أمرنا بالاقتداء بإبراهيم عليه السلام استثنى بعض أفعاله . وقيل : هو استثناء منقطع ، أي لكن قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك ، إنما جرى لأنه ظن أنه أسلم ، فلما بان له أنه لم يسلم تبرأ منه . وعلى هذا يجوز الاستغفار لمن يظن أنه أسلم ، وأنتم لم تجدوا مثل هذا الظن ، فلم توالوهم . { وما أملك لك من الله من شيء }هذا من قول إبراهيم عليه السلام لأبيه ، أي ما أدفع عنك من عذاب الله شيئا إن أشركت به . { ربنا عليك توكلنا } هذا من دعاء إبراهيم عليه السلام وأصحابه . وقيل : علم المؤمنين أن يقولوا هذا . أي تبرؤوا من الكفار وتوكلوا على الله وقولوا : { ربنا عليك توكلنا } أي اعتمدنا { وإليك أنبنا }أي رجعنا { وإليك المصير } لك الرجوع في الآخرة .
{ قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك وما أملك لك من الله من شيء ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير } .
{ قد كانت لكم أسوة } بكسر الهمزة وضمها في الموضعين ، قدوة ( حسنة في إبراهيم ) أي به قولاً وفعلاً ( والذين معه ) من المؤمنين ( إذ قالوا لقومهم إنا برءاء ) جمع برئ كظريف { منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم } أنكرناكم ، { وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً } بتحقيق الهمزتين وإبدال الثانية واواً ، { حتى تؤمنوا بالله وحده إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك } مستثنى من أسوة ، فليس لكم التأسي به في ذلك بأن تستغفروا للكفار وقوله ( وما أملك لك من الله ) أي من عذابه وثوابه ( من شيء ) كني به عن أنه لا يملك له غير الاستغفار فهو مبني عليه مستثنى من حيث ظاهره مما يتأسى فيه { قل فمن يملك لكم من الله شيئاً } واستغفاره له قبل أن يتبين له أنه عدو لله كما ذكره في " براءة " ، { ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير }من مقول الخليل ومن معه أي قالوا :