ولما ذكر أنهم جعلوا له أنداداً مع أنه خلق الأرض في يومين ، وختم ذلك بأن أحسن الحسن الدعاء إلى الله ، وختم الأمر بالدعاء بصفة العلم ، أتبعه دلائل التوحيد إعلاماً بأن التوحيد أحسن الحسن يطرد كل شيء ، وتنبيهاً على أن الدعوة إلى الله تعالى عبارة عن تنوير الدلائل الدالة على الذات والصفات ، وذلك ببيان الأفعال وآثارها وهو العالم بجميع ما فيه من الأجزاء والأبعاض جوهراً وعرضاً ، وبدأ بذكر الفلكيات لأنها أدل ، فقال عاطفاً على ما تقديره : فمن آياته الناشئة عن شمول علمه المستلزم لشمول قدرته المنتجة لإعادته لمن يريد ونفوذ تصرفه في كل ما يشاء المستلزم لتفرده بالإلهية أنه خلق الخافقين كما مضى في ستة أيام : { ومن آياته } الدالة على وحدانيته :
وفي كل شيء له آية *** تدل على أنه الواحد
ولما كانت الظلمة عدماً والنور وجوداً والعدم مقدم قال : { الليل والنهار } أي الدالاّن باختلافهما وهيئتهما على قدرته على البعث وعلى كل مقدور { والشمس والقمر } اللذان هما الليل والنهار كالروح لذوي الأجساد ، وهذه الموجودات - مع ما مضى من خلق الخافقين - كتاب الملك الديان ، إلى الإنس والجان ، المشهود لهم بالعيان كما قيل يا إنسان :تأمل سطور الكائنات فإنها *** من الملك الأعلى إليك رسائل
وقد خط فيها لو تأملت خطة *** إلا كل شيء ما خلا الله باطل
ولما ثبت له سبحانه التفرد بالخلق والأمر ، وكان باطناً إلا عند من نور الله أو كانت الشمس والقمر من آياته المعرفة المشيرة في وجود الدنيا والآخرة إليه ، وكانا مشاهدين ، وكان الإنسان قاصر العقل مقيد الوهم بالمشاهدات لما عنده من الشواغل إلا من عصم الله ، أنتج قوله محذراً من عبادتهما لما يرى لهما من البهاء وفيهما من المنافع : { لا تسجدوا للشمس } التي هي أعظم أوثانكم فإنها من جملة مبدعاته ، وأعاد النافي تأكيداً للنفي وإفادة لأن النهي عن كل منهما على حدته ولذلك أظهر موضع الإضمار فقال : { ولا للقمر } كذلك .
ولما نهى عن السجود لهما ، أمر بالسجود بما يبين استحقاقه لذلك وعدم استحقاقهما أو استحقاق شيء غيرهما له فقال : { واسجدوا } ونبه على مزيد عظمته بالإظهار موضع الإضمار فقال : { لله } أي الذي له كل كمال من غير شائبة نقص من أفول أو تجدد حلول { الذي خلقهن } أي الأربعة لأجلكم فهو الذي يستحق الإلهية ، وأنث لأن ما لا يعقل حكمه حكم المؤنث في الضمير وهي أيضاً آيات ، وفيه إشارة إلى تناهي سفولها عما أهلوها له وذم عابديها بالإفراط في الغباوة ، ويمكن أن يكون عد القمر أقماراً لأنه يكون تارة هلالاً وأخرى بدراً وأخرى محواً ، فلذلك جمع إشارة إلى قهرهما بالتغيير له في الجرم ولمهما بالتسيير ، ولذلك عبر بضمير المؤنث الذي يكون لجمع الكثرة مما لا يعقل .
ولما ظهر أن الكل عبيده ، وكان السيد لا يرضى بإشراك عبده عبداً آخر في عبادة سيده قال : { إن كنتم إياه } أي خاصة بغاية الرسوخ { تعبدون * } كما هو صريح قولكم في الدعاء في وقت الشدائد لا سيما في البحر ، ومحصل قولكم { ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى } فإن أشركتم به شيئاً بسجود أو غيره فما خصصتموه بالعبادة لأن السجود من العبادة وفعله ولو في وقت واحد لغيره إشراك في الجملة ، ومن أشرك به لم يعبده وحده ، ومن لم يعبده وحده لم يعبده أصلاً ، لأنه أغنى الأغنياء ، لا يقبل إلا الخالص وهو أقرب إلى عباده من كل شيء فيوشك أن ينتقم بإشراككم ، وفي الآية إشارة إلى الحث على صيانة الآدميين عن أن يقع منهم سجود لغيره رفعاً لمقامهم عن أن يكونوا ساجدين لمخلوق بعد أن كانوا مسجوداً لهم ، فإنه سبحانه أمر الملائكة الذين هم أشرف خلقه بعدهم بالسجود آدم وهم في ظهره فتكبر اللعين إبليس ، فابد لعنه ، فشتان ما بين المقامين .
قوله تعالى : { وَمِنْ آَيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لاَ تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلاَ لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ( 37 ) فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لاَ يَسْأَمُونَ ( 38 ) وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } .
{ وَمِنْ آَيَاتِهِ } في موضع رفع خبر مقدم ، و { الليل } مبتدأ مؤخر ، { وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ } عطف على الليل . {[4062]}
يبين الله حججه على خلقه وما ذكره لهم من البراهين الظاهرة الدالة على وحدانيته وعظيم قدرته وسلطانه وتفرده في الخلق ، وهو قوله : { وَمِنْ آَيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ } وهاتان آيتان من آيات الله الدالة على عظيم صنعه وعلى قدرته البالغة في الخلْق والتكوين ، فالليل بسكونه الصامت الوادع ، والنهار وما يدور فيه من أوجه الحركة والجدِّ والنشاط والكسب لتحقيق المصالح والمعايش والحاجات في كل مناحي الحياة ، وكذلك الشمس والقمر آيتان أخريان من آيات الله تُزْجي بقاطع الدلالة والبرهان على عظمة الخالق الصانع المقتدر ، فالشمس بلهيبها المتأجج المضطرم ، وجُرمها الهائل الكبير ذي الحرارة والدفء والضياء ، وكذلك القمر هذا الكوكب القريب العجيب الأخّاذ ، الكوكب الساطع المشرق السيَّار ، الذي يبهر القلوب والألباب بعجيب إشراقه وضيائه وجماله المنسكب على وجه الأرض فيثير فيها البهجة والحبور والإيناس ، لا جرم أن ذلك يكشف عن عظمة الصانع الحكيم وعن بالغ قدرته التي تهونُ دونها كل القدرات والطاقات .
قوله : { لاَ تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلاَ لِلْقَمَرِ } لا ينبغي لأحد أن يعبد هذين الجُرمين فيسجد لهما من دون الله اغترارا وضلالا بما أذهله من جمال الصورة وروعة المنظر . لا ينبغي أن تثير هذه الصفات في الناس أيَّما اغترار من فرط الإعجاب فتنفتل قلوبهم وعقولهم عن ذكر الله إلى عبادة هذين الجرمين ، فهما ليسا إلا مخلوقين من مخلوقات الله الكثيرة ، وما من أحد يستحق العبادة والطاعة والإذعان سوى الله الواحد الخالق ، وهو قوله سبحانه : { وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ } يعني إن كنتم تُخلِصون لله العبادة ولا تشركون في عبادته شيئا ، فإن أناسا كانوا يسجدون للشمس والقمر كالصابئين في عبادتهم الكواكب ويزعمون أنهم يقصدون بالسجود لله فنُهوا عن هذه الواسطة وأمروا أن لا يسجدوا إلا لله الذي خلق هذه المعبودات المصطنعة وخلق كل شيء . {[4063]}
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.