الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{وَٱتَّخَذُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ ءَالِهَةٗ لِّيَكُونُواْ لَهُمۡ عِزّٗا} (81)

قوله تعالى : " واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا " يعني مشركي قريش و " عزا " معناه أعوانا ومنعة يعني أولادا ، والعز المطر الجود{[10946]} أيضا ، قاله الهروي ، وظاهر الكلام أن " عزا " راجع إلى الآلهة التي عبدوها من دون الله ووحد لأنه بمعنى المصدر أي لينالوا بها العز ويمتنعون بها من عذاب الله ، فقال الله تعالى ( كلا ) أي ليس الأمر كما ظنوا وتوهموا ، بل يكفرون بعبادتهم أي ينكرون أنهم عبدوا الأصنام أو تجحد الآلهة عبادة المشركين لها كما قال{[10947]} : " تبرأنا إليك ما كانوا إيانا يعبدون " {[10948]}[ القصص :63 ] وذلك أن الأصنام جمادات لا تعلم العبادة " ويكونون عليهم ضدا " أي أعوانا في خصومتهم وتكذيبهم . عن مجاهد والضحاك : يكونون لهم أعداء . ابن زيد : يكون عليهم بلاء فتحشر آلهتهم وتركب لهم عقول فتنطق . وتقول : يا رب عذب هؤلاء الذين عبدونا من دونك و " كلا " هنا يحتمل أن تكون بمعنى لا ، ويحتمل أن تكون بمعنى حقا أي حقا " سيكفرون بعبادتهم " وقرأ أبو نهيك " كلا سيكفرون " بالتنوين . وروي عنه مع ذلك ضم الكاف وفتحها . قال المهدوي : " كلا " ردع وزجر وتنبيه ورد لكلام متقدم ، وقد تقع لتحقيق ما بعدها التنبيه عليه " كلا إن الإنسان ليطغى " {[10949]}[ العلق : 6 ] فلا يوقف عليها على هذا ويوقف في المعنى الأول فإن صلح فيها المعنيان جميعا جاز الوقف عليها والابتداء بها . فمن نون ( كلا ) من قوله : " كلا سيكفرون بعبادتهم " مع فتح الكاف فهو مصدر كَلَّ ونصبه بفعل مضمر ، والمعنى : كَلَّ هذا الرأي والاعتقاد كلا يعني اتخاذهم الآلهة " ليكونوا لهم عزا " فيوقف على هذا على " عزا " وعلى " كلا " وكذلك في قراءة الجماعة ؛ لأنها تصلح للرد لما قبلها ، والتحقيق لما بعدها ، ومن روى ضم الكاف مع التنوين فهو منصوب أيضا بفعل مضمر كأنه قال : سيكفرون " كلا سيكفرون بعبادتهم " يعني الآلهة .

قلت : فتحصل في " كلا " أربعة معان : التحقيق وهو أن تكون بمعنى حقا ، والنفي والتنبيه وصلة للقسم ولا يوقف منها إلا على الأول ، وقال الكسائي : " لا " تنفي فحسب ، و " كلا " تنفي شيئا وتثبت شيئا ، فإذا قيل : أكلت تمرا ، قلت : كلا إني أكلت عسلا لا تمرا ، ففي هذه الكلمة نفي ما قبلها ، وتحقق ما بعدها والضد يكون واحدا ويكون جمعا كالعدو والرسول ، وقيل : وقع الضد موقع المصدر أي ويكونون عليهم عونا فلهذا لم يجمع وهذا في مقابلة قوله . " ليكونوا لهم عزا " والعز مصدر فكذلك ما وقع في مقابلته ، ثم قيل الآية في عبدة الأصنام فأجري الأصنام مجرى من يعقل جريا على توهم الكفرة . وقيل : فيمن عبد المسيح أو الملائكة أو الجن أو الشياطين فالله تعالى أعلم .


[10946]:المطر الجود: الغزير.
[10947]:في ك: قالوا.
[10948]:راجع جـ 13 ص 303 فما بعد.
[10949]:راجع جـ 20 ص 122 فما بعد.