الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{وَقَرۡنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجۡنَ تَبَرُّجَ ٱلۡجَٰهِلِيَّةِ ٱلۡأُولَىٰۖ وَأَقِمۡنَ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتِينَ ٱلزَّكَوٰةَ وَأَطِعۡنَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥٓۚ إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُذۡهِبَ عَنكُمُ ٱلرِّجۡسَ أَهۡلَ ٱلۡبَيۡتِ وَيُطَهِّرَكُمۡ تَطۡهِيرٗا} (33)

قوله تعالى : " وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى " فيه أربع مسائل :

الأولى- قوله تعالى : " وقرن " قرأ الجمهور " وقرن " بكسر القاف . وقرأ عاصم ونافع بفتحها . فأما القراءة الأولى فتحتمل وجهين : أحدهما : أن يكون من الوقار ، تقول : وقر يقر وقارا أي سكن ، والأمر قر ، وللنساء قرن ، مثل عدن وزن . والوجه الثاني : وهو قول المبرد{[12809]} ، أن يكون من القرار ، تقول : قررت بالمكان ( بفتح الراء ) أقر ، والأصل أقررن ، بكسر الراء ، فحذفت الراء الأولى تخفيفا ، كما قالوا في ظللت : ظلت ، ومسست : مست ، ونقلوا حركتها إلى القاف ، واستغنى عن ألف الوصل لتحرك القاف . قال أبو علي : بل على إن أبدلت الراء ياء كراهة التضعيف ، كما أبدلت في قيراط ودينار ، ويصير للياء حركة الحرف المبدل منه ، فالتقدير : اقيرن ، ثم تلقى حركة الياء على القاف كراهة تحرك الياء بالكسر ، فتسقط الياء لاجتماع الساكنين ، وتسقط همزة الوصل لتحرك ما بعدها فيصير " قرن " . وأما قراءة أهل المدينة وعاصم ، فعلى لغة العرب : قررت في المكان إذا أقمت فيه ( بكسر الراء ) أقر ( بفتح القاف ) ، من باب حمد يحمد ، وهي لغة أهل الحجاز ذكرها أبو عبيد في " الغريب المصنف " عن الكسائي ، وهو من أجل مشايخه ، وذكرها الزجاج وغيره ، والأصل " اقررن " حذفت الراء الأولى لثقل التضعيف ، وألقيت حركتها على القاف فتقول : قرن . قال الفراء : هو كنا تقول : أحست صاحبك ، أي هل أحسست . وقال أبو عثمان المازني : قررت به عينا ( بالكسر لا غير ) ، من قرة العين . ولا يجوز قررت في المكان ( بالكسر ) وإنما هو قررت ( بفتح الراء ) ، وما أنكره من هذا لا يقدح في القراءة إذا ثبتت عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فيستدل بما ثبت عنه من القراءة على صحة اللغة . وذهب{[12810]} أبو حاتم أيضا أن " قرن " لا مذهب له في كلام العرب . قال النحاس : وأما قول أبي حاتم : " لا مذهب له " فقد خولف فيه ، وفيه مذهبان : أحدهما ما حكاه الكسائي ، والآخر ما سمعت علي بن سليمان يقول ، قال : وهو من قررت به عينا أقر ، والمعنى : وأقررن به عينا في بيوتكن . وهو وجه حسن ، إلا أن الحديث يدل على أنه من الأول . كما روي أن عمارا قال لعائشة رضي الله عنها : إن الله قد أمرك أن تقري في منزلك ، فقالت : يا أبا اليقظان ، ما زلت قوالا بالحق ! فقال : الحمد لله الذي جعلني كذلك على لسانك . وقرأ ابن أبي عبلة " وأقررن " بألف وصل وراءين ، الأولى مكسورة .

الثانية- معنى هذه الآية الأمر بلزوم البيت ، وإن كان الخطاب لنساء النبي صلى الله عليه وسلم فقد دخل غيرهن فيه بالمعنى . هذا لو لم يرد دليل يخص جميع النساء ، كيف والشريعة طافحة بلزوم النساء بيوتهن ، والانكفاف عن الخروج منها إلا لضرورة ، على ما تقدم في غير موضع . فأمر الله تعالى نساء النبي صلى الله عليه وسلم بملازمة بيوتهن ، وخاطبهن بذلك تشريفا لهن ، ونهاهن عن التبرج ، وأعلم أنه فعل الجاهلية الأولى فقال : " ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى " . وقد تقدم معنى التبرج في " النور " {[12811]} . وحقيقته إظهار ما ستره أحسن ، وهو مأخوذ من السعة ، يقال : في أسنانه برج إذا كانت متفرقة . قاله المبرد . واختلف الناس في " الجاهلية الأولى ، فقيل : هي الزمن الذي ولد فيه إبراهيم عليه السلام ، كانت المرأة تلبس الدرع من اللؤلؤ ، فتمشي وسط الطريق تعرض نفسها على الرجال . وقال الحكم بن عيينة : ما بين آدم ونوح ، وهي ثمانمائة سنة ، وحكيت لهم سير ذميمة . وقال ابن عباس : ما بين نوح وإدريس . الكلبي : ما بين نوج وإبراهيم . قيل : إن المرأة كانت تلبس الدرع من اللؤلؤ غير مخيط الجانبين ، وتلبس الثياب الرقاق ولا تواري بدنها . وقالت فرقة : ما بين موسى وعيسى . الشعبي : ما بين عيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم . أبو العالية : هي زمان داود وسليمان ، كان فيه للمرأة قميص من الدر غير مخيط الجانبين . وقال أبو العباس المبرد : والجاهلية الأولى كما تقول الجاهلية الجهلاء . قال : وكان النساء في الجاهلية الجهلاء يظهرن ما يقبح إظهاره ، حتى كانت المرأة تجلس مع زوجها وخلها{[12812]} ، فينفرد خلها بما فوق الإزار إلى الأعلى ، وينفرد زوجها بما دون الإزار إلى الأسفل ، وربما سأل أحدهما صاحبه البدل . وقال مجاهد : كان النساء يتمشين بين الرجال ، فذلك التبرج . قال ابن عطية : والذي يظهر عندي أنه أشار للجاهلية التي لحقنها ، فأمرن بالنقلة عن سيرتهن فيها ، وهي ما كان قبل الشرع من سيرة الكفرة ؛ لأنهم كانوا لا غيرة ، كان أمر النساء دون حجاب{[12813]} ، وجعلها أولى بالنسبة إلى ما كان عليه ، وليس المعنى أن ثم جاهلية أخرى ، وقد أوقع اسم الجاهلية على تلك المدة التي قبل الإسلام ، فقالوا : جاهلي في الشعراء . وقال ابن عباس في البخاري : سمعت أبي في الجاهلية يقول ، إلى غير هذا .

قلت : وهذا قول حسن . ويعترض بأن العرب كانت أهل قشف وضنك في الغالب ، وأن التنعم وإظهار الزينة إنما جرى في الأزمان السابقة ، وهي المراد بالجاهلية الأولى ، وأن المقصود من الآية مخالفة من قبلهن من المشية على تغنيج وتكسير وإظهار المحاسن للرجال ، إلى غير ذلك مما لا يجوز شرعا . وذلك يشمل الأقوال كلها ويعمها فيلزمن البيوت ، فإن مست الحاجة إلى الخروج فليكن على تبذل{[12814]} وتستر تام . والله الموفق .

الثالثة- ذكر الثعلبي وغيره : أن عائشة رضي الله عنها كانت إذا قرأت هذه الآية تبكي حتى تبل خمارها . وذكر أن سودة قيل لها : لم لا تحجين ولا تعتمرين كما يفعل أخواتك ؟ فقالت : قد حججت واعتمرت ، وأمرني الله أن أقر في بيتي . قال الراوي : فوالله ما خرجت من باب حجرتها حتى أخرجت جنازتها . رضوان الله عليها .

قال ابن العربي : لقد دخلت نيفا على ألف قرية فما رأيت نساء أصون عيالا ولا أعف نساء من نساء نابلس ، التي رمي بها الخليل صلى الله عليه وسلم بالنار ، فإني أقمت فيها فما رأيت امرأة في طريق نهارا إلا يوم الجمعة ، فإنهن يخرجن إليها حتى يمتلئ المسجد منهن ، فإذا قضيت الصلاة وانقلبن إلى منازلهن لم تقع عيني على واحدة منهن إلى الجمعة الأخرى . وقد رأيت بالمسجد الأقصى عفائف ما خرجن معتكفهن حتى استشهدن فيه .

الرابعة- قال ابن عطية : بكاء عائشة رضي الله عنها إنما كان بسبب سفرها أيام الجمل ، وحينئذ قال لها عمار : إن الله قد أمرك أن تقري في بيتك . قال ابن العربي : تعلق الرافضة لعنهم الله - بهذه الآية على أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها إذ قالوا : إنها خالفت أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خرجت تقود الجيوش ، وتباشر الحروب ، وتقتحم مأزق الطعن والضرب فيما لم يفرض عليها ولا يجوز لها . قالوا : ولقد حصر عثمان ، فلما رأت ذلك أمرت برواحلها فقربت لتخرج إلى مكة ، فقال لها مروان : أقيمي هنا يا أم المؤمنين ، وردي هؤلاء الرعاع ، فإن الإصلاح بين الناس خير من حجك . قال ابن العربي : قال علماؤنا رحمة الله عليهم : إن عائشة رضي الله عنها نذرت الحج قبل الفتنة ، فلم تر التخلف عن نذرها ، ولو خرجت في تلك الثائرة لكان ذلك صوابا لها . وأما خروجها إلى حرب الجمل فما خرجت لحرب ، ولكن تعلق الناس بها ، وشكوا إليها ما صاروا إليه من عظيم الفتنة وتهارج الناس ، ورجوا بركتها ، وطمعوا في الاستحياء منها إذا وقفت إلى الخلق ، وظنت هي ذلك فخرجت{[12815]} مقتدية بالله في قوله : " لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس " {[12816]} [ النساء : 114 ] ، وقوله : " وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما " {[12817]} [ الحجرات : 9 ] والأمر بالإصلاح مخاطب به جميع الناس من ذكر وأنثى ، حر أو عبد ، فلم يرد الله تعالى بسابق قضائه ونافذ حكمه أن يقع إصلاح ، ولكن جرت مطاعنات وجراحات ، حتى كاد يفني الفريقان ، فعمد بعضهم إلى الجمل فعرقبه ، فلما سقط الجمل لجنبه أدرك محمد بن أبي بكر عائشة رضي الله تعالى عنها ، فاحتملها إلى البصرة ، وخرجت في ثلاثين امرأة ، قرنهن علي بها حتى أوصلوها إلى المدينة برة تقية مجتهدة ، مصيبة مثابة فيما تأولت ، مأجورة فيما فعلت ، إذ كل مجتهد في الأحكام مصيب . وقد تقدم في " النحل " {[12818]} اسم هذا الجمل ، وبه يعرف ذلك اليوم .

قوله تعالى : " وأقمن الصلاة وآتين الزكاة وأطعن الله ورسوله " أي فيما أمر ونهى " إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا " قال الزجاج : قيل يراد به نساء النبي صلى الله عليه وسلم وقيل : يراد به نساؤه وأهله الذين هم أهل بيته ، على ما يأتي بيانه بعد و " أهل البيت " نصب على المدح قال : وإن شئت على البدل . قال : ويجوز الرفع والخفض . قال النحاس : إن خفض على أنه بدل من الكاف والميم لم يجز عند أبي العباس محمد بن يزيد ، قال لا يبدل من المخاطبة ولا من المخاطب ، لأنهما لا يحتاجان إلى تبيين . " ويطهركم تطهيرا " مصدر فيه معنى التوكيد .


[12809]:في نسخة:" الفراء".
[12810]:في ج، و ش، و ك:" زعم".
[12811]:راجع ج 12، ص 309.
[12812]:في ش:" خلمها" والخلم (بالكسر): الصديق الخالص.
[12813]:في الأصول: "حجبة".
[12814]:التبذل: ترك التزين والتهيؤ بالهيئة الحسنة على جهة التواضع.
[12815]:زيادة عن ابن العربي.
[12816]:راجع ج 5 ص 382.
[12817]:راجع ج 16 ص 315.
[12818]:راجع ج 10 ص 73 فما بعد.