( ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر . لا تسجدوا للشمس ولا للقمر . واسجدوا لله الذي خلقهن . إن كنتم إياه تعبدون ) . .
وهذه الآيات معروضة للأنظار ، يراها العالم والجاهل . ولها في القلب البشري روعة مباشرة . ولو لم يعلم الإنسان شيئاً عن حقيقتها العلمية . فبينها وبين الكائن البشري صلة أعمق من المعرفة العلمية . بينها وبينه هذا الاتصال في النشأة ، وفي الفطرة ، وفي التكوين . فهو منها وهي منه . تكوينه تكوينها ، ومادته مادتها ، وفطرته فطرتها ، وناموسه ناموسها ، وإلهه إلهها . . فهو من ثم يستقبلها بحسه العميق في هزة وإدراك مباشر لمنطقها العريق !
لهذا يكتفي القرآن غالبا بتوجيه القلب إليها ، وإيقاظه من غفلته عنها ، هذه الغفلة التي ترد عليه من طول الألفة تارة ، ومن تراكم الحواجز والموانع عليه تارة . فيجلوها القرآن عنه ، لينتفض جديداً حياً يقظاً يعاطف هذا الكون الصديق ، ويتجاوب معه بالمعرفة القديمة العميقة الجذور .
وصورة من صور الإنحراف تلك التي تشير إليها الآية هنا . فقد كان قوم يبالغون في الشعور بالشمس والقمر شعوراً منحرفاً ضالاً فيعبدونهما باسم التقرب إلى الله بعبادة أبهى خلائقه ! فجاء القرآن ليردهم عن هذا الانحراف ؛ ويزيل الغبش عن عقيدتهم المدخولة . ويقول لهم : إن كنتم تعبدون الله حقاً فلا تسجدوا للشمس والقمر . . ( واسجدوا لله الذي خلقهن )فالخالق هو وحده الذي يتوجه إليه المخلوقون أجمعين . والشمس والقمر مثلكم يتوجهون إلى خالقهما فتوجهوا معهم إلى الخالق الواحد الذي يستحق أن تعبدوه . ويعيد الضمير عليهما مؤنثاً مجموعاً : ( خلقهن )باعتبار جنسهما وأخواتهما من الكواكب والنجوم ؛ ويتحدث عنهن بضمير المؤنث العاقل ليخلع عليهن الحياة والعقل ، ويصورهن شخوصاً ذات أعيان !
{ وَمِنْ ءاياته } الدالة على شؤونه الجليلة جل شأنه : { وَسَخَّر لَكُمُ } في حدوثهما وتعاقبهما وإيلاج كل منهما في الآخر { والشمس والقمر } في استنارتهما واختلافهما في قوة النور والعظم والآثار والحركات مثلاً ، وقدم ذكر الليل قيل : تنبيهاً على تقدمه مع كون الظلمة عدماً ، وناسب ذكر الشمس بعد النهار لأنها آيته وسبب تنويره ولأنها أصل لنور القمر بناء على ما قالوا من أنه مستفاد من ضياء الشمس ، وأما ضياؤها فالمشهور أنه غير طارئ عليها من جرم آخر ، وقيل : هو من العرش ، والفلاسفة اليوم يظنون أنه من جرم آخر وادعوا أنهم يرون في طرف من جرم الشمس ظلمة قليلة { لاَ تَسْجُدُواْ لِلشَّمْسِ وَلاَ لِلْقَمَرِ } لأنها من جملة مخلوقاته سبحانه وتعالى المسخرة على وفق إرادته تعالى مثلكم { واسجدوا لِلَّهِ الذي خَلَقَهُنَّ } الضمير قيل للأربعة المذكورة والمقصود تعليق الفعل بالشمس والقمر لكن نظم معهما الليل والنهار إشعاراً بأنهما منم عداد ما لا يعلم ولا يختار ضرورة أن الليل والنهار كذلك ولو ثنى الضمير لم يكن فيه أشعار بذلك .
وحكم جماعة ما لا يعقل على ما قال الزمخشري حكم الأنثى فيقال : الأقلام بريتها وبريتهن فلا يتوهم أن الضمير لما كان لليل والنهار والشمس والقمر كان المناسب تغليب الذكور ، والجواب بأنه لما كن من الآيات عدت كالإناث تكلف عنه غني بالقاعدة المذكورة . نعم قال أبو حيان : ينبغي أن يفرق بين جمع القلة من ذلك وجمع الكثرة فإن الأفصح في الأول أن يكون بضمير الواحدة تقول الأجذاع انكسرت على الأفصح والأفصح في الثاني أن يكون بضمير الأناث تقول الجذوع انكسرن وما في الآية ليس بجمع قلة بلفظ واحد لكنه منزل منزلة المعبر عنه به ، وقيل : الضمير للشمس والقمر والأثنان جمع وجمع ما لا يعقل يؤنث ، ومن حيث يقال شموس وأقمار لاختلافهما بالأيام والليالي ساغ أن يعود الضمير إليهما جمعاً ، وقيل : الضمير للآيات المتقدم ذكرها في قوله تعالى : { وَمِنْ ءاياته } { إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ } فإن السجود أقصى مراتب العبادة فلا بد من تخصيصه به عز وجل ، وكان علي كرم الله تعالى وجهه . وابن مسعود يسجدان عند { تَعْبُدُونَ } ونسب القول بأنه موضع السجدة للشافعي ، وسجد عند { لاَ يَسْئَمُونَ } ابن عباس . وابن عمر . وأبو وائل . وبكر بن عبد الله ، وكذلك روى عن ابن وهب . ومسروق . والسلمي . والنخعي . وأبي صالح . وابن وثاب . والحسن . وابن سيرين . وأبي حنيفة رضي الله تعالى عنهم ، ونقله في التحرير عن الشافعي رضي الله تعالى عنه . وفي «الكشف » أصح الوجهين عند أصحابنا يعني الشافعية أن موضع السجدة { لاَ يَسْئَمُونَ } كما هو مذهب الإمام أبي حنيفة ، ووجهه أنها تمام المعنى على أسلوب اسجد فإن الاستكبار عنه مذموم ، وعلله بعضهم بالاحتياط لأنها إن كانت عند { تَعْبُدُونَ } جاز التأخير لقصر الفصل ، وإن كانت عند { يَسْئَمُونَ } لم يجز تعجيلها .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.