في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَمَا تَفَرَّقَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ إِلَّا مِنۢ بَعۡدِ مَا جَآءَتۡهُمُ ٱلۡبَيِّنَةُ} (4)

ولما قرر هذه الحقيقة في مطلع السورة عاد يقرر أن أهل الكتاب خاصة لم يتفرقوا ويختلفوا في دينهم عن جهل أو عن غموض في الدين أو تعقيد . إنما هم تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم العلم ومن بعد ما جاءتهم البينة من دينهم على أيدي رسلهم :

( وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة ) . .

وكان أول التفرق والاختلاف ما وقع بين طوائف اليهود قبل بعثة عيسى - عليه السلام - فقد انقسموا شعبا وأحزابا . مع أن رسولهم هو موسى - عليه السلام - وكتابهم هو التوراة . فكانوا طوائف خمسة رئيسية هي طوائف الصدوقيين ، والفريسيين ، والآسيين ، والغلاة ، والسامريين . . ولكل طائفة سمة واتجاه . ثم كان التفرق بين اليهود والنصارى ، مع أن المسيح - عليه السلام - هو أحد أنبياء بني إسرائيل وآخرهم ، وقد جاء مصدقا لما بين يديه من التوراة ، ومع هذا فقد بلغ الخلاف والشقاق بين اليهود والمسيحيين حد العداء العنيف والحقد الذميم . وحفظ التاريخ من المجازر بين الفريقين ما تقشعر له الأبدان .

" وقد تجدد في أوائل القرن السابع من الحوادث ما بغضهم [ أي اليهود ] إلى المسيحيين وبغض المسيحيين إليهم ، وشوه سمعتهم . ففي السنة الأخيرة من حكم فوكاس [ 610م ] أوقع اليهود بالمسيحيين في أنطاكية ، فأرسل الأمبراطور قائده [ ابنوسوس ] ليقضي على ثورتهم ، فذهب وأنفذ عمله بقسوة نادرة ، فقتل الناس جميعا قتلا بالسيف ، وشنقا ، وإغراقا ، وإحراقا ، وتعذيبا ، ورميا للوحوش الكاسرة . . . وكان ذلك بين اليهود والنصارى مرة بعد مرة ، قال المقريزي في كتاب الخطط : " وفي أيام [ فوقا ] ملك الروم ، بعث كسرى ملك فارس جيوشه إلى بلاد الشام ومصر فخربوا كنائس القدس ، وفلسطين وعامة بلاد الشام ، وقتلوا النصارى بأجمعهم ، وأتوا إلى مصر في طلبهم ، وقتلوا منهم أمة كبيرة ، وسبوا منهم سبيا لا يدخل تحت حصر . وساعدهم اليهود في محاربة النصارى وتخريب كنائسهم ؛ وأقبلوا نحو الفرس من طبرية ، وجبل الجليل ، وقرية الناصرة ومدينة صور ، وبلاد القدس ؛ فنالوا من النصارى كل منال وأعظموا النكاية فيهم ، وخربوا لهم كنيستين بالقدس ، وأحرقوا أماكنهم ، وأخذوا قطعة من عود الصليب ، وأسروا بطرك القدس وكثيرا من أصحابه . إلى أن قال - بعد أن ذكر فتح القدس :

" فثارت اليهود في أثناء ذلك بمدينة صور ، وأرسلوا بقيتهم في بلادهم ، وتواعدوا على الإيقاع بالنصارى وقتلهم ، فكانت بينهم حرب ، اجتمع فيها من اليهود نحو 20 ألفا وهدموا كنائس النصارى خارج صور . فقوس النصارى عليهم وكاثروهم فانهزم اليهود هزيمة قبيحة ، وقتل منهم كثير . وكان هرقل قد ملك الروم بقسطنطينية ، وغلب الفرس بحيلة دبرها على كسرى حتى رحل عنه ، ثم سار من قسطنطينية ليمهد ممالك الشام ومصر ، ويجدد ما خربه الفرس ، فخرج إليه اليهود من طبرية وغيرها ، وقدموا له الهدايا الجليلة وطلبوا منه أن يؤمنهم منه ويحلف لهم على ذلك ، فأمنهم وحلف لهم . ثم دخل القدس ، وقد تلقاهم النصارى بالأناجيل والصلبان والبخور والشموع المشعلة ، فوجد المدينة وكنائسها خرابا ، فساءه ذلك ، وتوجع لهم ، وأعلمه النصارى بما كان من ثورة اليهود مع الفرس ، وإيقاعهم بالنصارى وتخريبهم الكنائس ، وأنهم كانوا أشد نكاية لهم من الفرس ، وقاموا قياما كبيرا في قتلهم عن آخرهم ، وحثوا هرقل على الوقيعة بهم ، وحسنوا له ذلك . فاحتج عليهم بما كان من تأمينه لهم وحلفه ، فأفتاه رهبانهم وبطارقتهم وقسيسوهم بأنه لا حرج عليه في قتلهم ، فإنهم عملوا عليه حيلة حتى أمنهم من غير أن يعلم بما كان منهم ، وأنهم يقومون عنه بكفارة يمينه بأن يلتزموا ويلزموا النصارى بصوم جمعة في كل سنة عنه على مر الزمان والدهور ! فمال إلى قولهم وأوقع باليهود وقيعة شنعاء أبادهم جميعهم فيها ، حتى لم يبق في ممالك الروم في مصر والشام إلا من فر واختفى . .

" وبهذه الروايات يعلم ما وصل إليه الفريقان : اليهود والنصارى ، من القسوة والضراوة بالدم الإنساني ، وتحين الفرص للنكاية في العدو ، وعدم مراعاة الحدود في ذلك " .

ثم كان التفرق والاختلاف بين النصارى أنفسهم ، مع أن كتابهم واحد ونبيهم واحد . تفرقوا واختلفوا أولا في العقيدة . ثم تفرقوا واختلفوا طوائف متعادية متنافرة متقاتلة . وقد دارت الخلافات حول طبيعة المسيح - عليه السلام - وعما إذا كان لاهوتية أو ناسوتية . وطبيعة أمه مريم . وطبيعة الثالوث الذي يتألف منه " الله " - في زعمهم - وحكى القرآن قولين منها أو ثلاثة في قوله : ( لقد كفر الذين قالوا : إن الله هو المسيح ابن مريم ) . . ( لقد كفر الذين قالوا : إن الله ثالث ثلاثة ) ( وإذ قال الله يا عيسى بن مريم أأنت قلت للناس : اتخذوني وأمي إلهين من دون الله ? ) .

" وكان أشد مظاهر هذا الخلاف الديني ما كان بين نصارى الشام والدولة الرومية ، وبين نصارى مصر . أو بين " الملكانية " ، " المنوفوسية " بلفظ أصح . فكان شعار الملكانية عقيدة ازدواج طبيعة المسيح ، وكان المنوفوسيون يعتقدون أن للسيد المسيح طبيعة واحدة هي الإلاهية . التي تلاشت فيها طبيعة المسيح البشرية كقطرة من الخل تقع في بحر عميق لا قرار له . وقد اشتد هذا الخلاف بين الحزبين في القرنين السادس والسابع ، حتى صار كأنه حرب عوان بين دينين متنافسين ، أو كأنه خلاف بين اليهود والنصارى . . كل طائفة تقول للأخرى : إنها ليست على شيء .

" وحاول الإمبراطور هرقل [ 610 - 641 ] بعد انتصاره على الفرس [ سنة 638 ] جمع مذاهب الدولة المتصارعة وتوحيدها ، وأراد التوفيق ، وتقررت صورة التوفيق أن يمتنع الناس عن الخوض في الكلام عن كنه طبيعة السيد المسيح ، وعما إذا كانت له صفة واحدة أم صفتان ، ولكن عليهم بأن يشهدوا بأن الله له إرادة واحدة أو قضاء واحد . وفي صدر عام 631 حصل وفاق على ذلك ، وصار المذهب المنوثيلي مذهبا رسميا للدولة ، ومن تضمهم من أتباع الكنيسة المسيحية . وصمم هرقل على إظهار المذهب الجديد على ما عداه من المذاهب المخالفة ، متوسلا إلى ذلك بكل الوسائل . ولكن القبط نابذوه العداء ، وتبرأوا من هذه البدعة والتحريف ! وصمدوا له واستماتوا في سبيل عقيدتهم القديمة . وحاول الإمبراطور مرة أخرى توحيد المذاهب وحسم الخلاف فاقتنع بأن يقر الناس بأن الله له إرادة واحدة . وأما المسألة الأخرى وهي نفاذ تلك الإرادة بالفعل فأرجأ القول فيه ، ومنع الناس أن يخوضوا في مناظراته . وجعل ذلك رسالة رسمية ، ذهب بها إلى جميع جهات العالم الشرقي . ولكن الرسالة لم تهدئ العاصفة في مصر ، ووقع اضطهاد فظيع على يد قيصر في مصر استمر عشر سنين ، ووقع في خلالها ما تقشعر منه الجلود ، فرجال كانوا يعذبون ثم يقتلون غرقا ، وتوقد المشاعل وتسلط نارها على الأشقياء حتى يسيل الدهن من الجانبين إلى الأرض ويوضع السجين في كيس مملوء بالرمل ويرمى في البحر . إلى غير ذلك من الفظائع " .

وكان هذا الخلاف كله بين أهل الكتاب جميعا ( من بعد ما جاءتهم البينة ) . . فلم يكن ينقصهم العلم والبيان ؛ إنما كان يجرفهم الهوى والانحراف .

 
روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي - الآلوسي [إخفاء]  
{وَمَا تَفَرَّقَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ إِلَّا مِنۢ بَعۡدِ مَا جَآءَتۡهُمُ ٱلۡبَيِّنَةُ} (4)

{ وَمَا تَفَرَّقَ الذين أَتَوْا الكتاب إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ البينة } فإنه ظاهر في أن كفرهم قد زاد عند ذلك فقال جار الله كان الكفار من الفريقين يقولون قبل المبعث لا ننفك عما نحن فيه من ديننا حتى يبعث الله تعالى النبي الموعود الذي هو مكتوب في التوراة والإنجيل وهو محمد صلى الله عليه وسلم فحكى الله تعالى ما كانوا يقولونه ثم قال سبحانه : { وَمَا تَفَرَّقَ } الخ يعني أنهم كانوا يعدون اجتماع الكلمة والاتفاق على الحق إذا جاءهم الرسول ثم ما فرقهم عن الحق وأقرهم على الكفر إلا مجيئه ونظيره في الكلام أن يقول الفقير الفاسق لمن يعظه لست بمنفك مما أنا فيه حتى يرزقني الله تعالى الغنى فيرزقه الله عز وجل ذلك فيزداد فسقاً فيقول واعظه لم تكن منفكاً عن الفسق حتى توسر وما غمست رأسك في الفسق إلا بعد اليسار يذكره ما كان يقوله توبيخاً وإلزاماً وحاصله أن الأول من باب الحكاية لزعمهم وقوله سبحانه : { وَمَا تَفَرَّقَ } الخ إلزام عليهم حكى الله تعالى كلامهم على سبيل التوبيخ والتعيير فقال هذا هو الثمرة وظاهره أنه أراد بتفرقهم تفرقهم عن الحق وحمل على الثبات على الكفر والباطل لاستلزامه إياه وعدم التعرض للمشركين في قوله تعالى : { وَمَا تَفَرَّقَ } الخ لعلم حالهم من حال الذين أوتوا الكتاب بالأولى روقيل وهو قريب من ذاك من وجه وفيه إيضاح له من وجه أي لم يكونوا منفكين عما كانوا عليه من الوعد باتباع الحق والإيمان بالرسول المبعوث في آخر الزمان إلى أن أتاهم ما جعلوه ميقاتاً للاجتماع والاتفاق فاجعلوه ميقاتاً للانفكاك والافتراق كما قال سبحانه : { وَمَا تَفَرَّقَ } الخ وفي التعبير بمنفكين إشارة إلى وكادة وعدهم وهو من أهل الكتاب مشهور حتى أنهم كانوا يستفتحون ويقولون اللهم افتح علينا وانصرنا بالنبي المبعوث في آخر الزمان ويقولون لأعدائهم من المشركين قد أظل زمان نبي يخرج بتصديق ما قلنا فنقتلكم معه قتل عاد وإرم ومن المشركين لعله وقع من متأخريهم بعد ما شاع من أهل الكتاب واعتقدوا صحته مما شاهدوا مثلاً من بعض من يوثق به بينهم من قومهم كزيد بن عمرو بن نفيل فقد كان يتطلب نبياً من العرب ويقول قد أظل زمانه وأنه من قريش بل من بني هاشم بل من بني عبد المطلب ويشهد لذلك أنهم قبيل بعثته عليه الصلاة والسلام سمي منهم غير واحد ولده بمحمد رجاء أن يكون النبي المبعوث { والله أعلم حيث يجعل رسالته } [ الأنعام : 124 ] والتعبير عن إتيانه بصيغة المضارع باعتبار حال المحكي لا باعتبار حال الحكاية كما في قوله تعالى : { واتبعوا مَا تَتْلُواْ الشياطين } [ الأنعام : 102 ] أي تلت وقوله تعالى : { وَمَا تَفَرَّقَ } الخ كلام مسوق لمزيد التشنيع على أهل الكتاب خاصة ببيان أن ما نسب إليهم من الانفكاك لم يكن لاشتباه في الأمر بل بعد وضوح الحق وتبين الحال وانقطاع الأعذار بالكلية وهو السر في وصفهم بإيتاء الكتاب المنبئ عن كمال تمكنهم من مطالعته والإحاطة بما في تضاعيفه من الأحكام والأخبار التي من جملتها ما يتعلق بالنبي عليه الصلاة والسلام وصحة بعثته بعد ذكرهم فيما سبق بما هو جار مجرى اسم الجنس للطائفتين ولما كان هؤلاء والمشركون باعتبار اتفاقهم على الرأي المذكور في حكم فريق واحد عبر عما صدر منهم عقيب الاتفاق عند الإخبار بوقوعه بالانفكاك وعند بيان كيفية وقوعه بالتفرق اعتبار الاستقلال كل من فريقي أهل الكتاب وإيذاناً بأن انفكاكهم عن الرأي المذكور ليس بطريق الاتفاق على رأي آخر بل بطريق الاختلاف القديم وتعقب التقريران بأنه ليس في الكلام ما يدل على أنه حكاية ولا على إرادة منفكين عن الوعد باتباع الحق وقال القاضي عبد الجبار المعنى لم يكن الذين كفروا منفكين عن كفرهم وإن جاءتهم البينة وتعقبه الإمام بأن فتسير لفظ حتى بما ذكر ليس من اللغة في شيء ولعله أراد أن المراد استمرار النفي وإن في الكلام حذفاً أي لم يكونوا منفكين عن كفرهم في وقت من الأوقات حتى وقت أن تأتيهم البينة إلا أنه عبر بما ذكر لأنه أخصر وفيه أيضاً ما لا يخفى وقيل المعنى لم يكونوا منفكين عن ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم بالمناقب والفضائل إلى أن أتاهم فحينئذٍ تفرقوا فيه وقال كل منهم فيه عليه الصلاة والسلام قولاً زوراً وتعقب بأنه لا دلالة على إرادة ما قدر متعلق الانفكاك وقيل المعنى لم يكونوا منفكين عن كفرهم إلى وقت مجىء الرسول صلى الله عليه وسلم فلما جاءهم تفرقوا فمنهم من آمن ومنهم من أصر على كفره ويكفي ذلك في العمل بموجب حتى وتعقب بأن ظاهر وما تفرق الخ ذم لجميعهم وتشنيع عليهم ويؤيده قوله سبحانه بعد : { إِنَّ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب } [ البينة : 6 ] الخ ويبعد ذلك على حمل التفرق على إيمان بعض وإصرار بعض وقيل المعنى لم يكونوا منفكين عن كفرهم بأن يترددوا فيه بل كانوا جازمين به معتقدين حقيته إلى أن أتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فعند ذلك اضطربت خواطرهم وأفكارهم وتشكك كل في دينه ومقالته وفيه ما لا يخفى وقيل معنى منفكين هالكين من قولهم انفك صلا المرأة عند الولادة وهو أن ينفصل فلا يلتئم والمعنى لم يكونوا معذبين ولا هالكين إلا بعد قيام الحجة عليهم بإرسال الرسل وإنزال الكتب وقريب منه معنى ما قيل لم يكونوا منفكين عن الحياة بأن يموتوا ويهلكوا حتى تأتيهم البينة وهو كما ترى وقيل المراد أنهم لم ينفكوا عن دينهم حقيقة إلى مجىء الرسول التالي للصحف المبينة نسخة وبطلانه ولما جاء وتبين ذلك انفكوا عنه حقيقة وإن بقوا عليه صورة وفيه ما فيه وقال أبو حيان الظاهر أن المعنى لم يكونوا منفكين أي منفصلاً بعضهم عن بعض بل كان كل منهم مقراً الآخر على ما هو عليه مما اختاره لنفسه هذا من اعتقاده بشريعته وهذا من اعتقاده بأصنامه وحاصله أنه اتصلت مودتهم واجتمعت كلمتهم إلى أن أتتهم البينة وما تفرق الذين أوتوا أي من المشركين وانفصل بعضهم من بعض فقال كل ما يدل عنده على صحة قوله إلا من بعد ما جاءتهم البينة وكان يقتضي عند مجيئها أن يجتمعوا على اتباعها ولا يخفى أن قوله : { بَلْ كَانَ كُلٌّ مِنْهُمْ } الخ في حيز المنع وأيضاً حمل وما تفرق على ما حمله عليه غير ظاهر وقال ابن عطية ههنا وجه بارع المعنى وذلك أن يكون المراد لم يكن هؤلاء القوم منفكين من أمر الله تعالى وقدرته ونظره سبحانه حتى يبعث عز وجل إليهم رسولاً منذراً يقيم تعالى عليهم به الحجة ويتم على من آمن به النعمة فكأنه قال ما كانوا ليتركوا سدى ولهذا نظائر في كتاب الله جل جلاله هذا ما ظفرنا به سؤالاً وجواباً وجرحاً وتعديلاً ثم إني أقول ما تقدم في تقرير الإشكال مبني على مذهب القائلين بمفهوم الغاية وهم أكثر الفقهاء وجماعة من المتكلمين كالقاضي أبي بكر والقاضي عبد الجبار وأبي الحسين البصري وغيرهم دون مذهب الغير القائلين به وهم أصحاب الإمام أبي حنيفة وجماعة من الفقهاء والمتكلمين واختاره الآمدي واستدل عليه بما استدل ورد ما يعارضه من أدلة المخالف وعليه يمكن أن يقال إنه سبحانه وتعالى بين أولاً حال الذين كفروا من الفريقين إلى وقت إتيان الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله عز وجل : { لَمْ يَكُنِ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب والمشركين مُنفَكّينَ } [ البينة : 1 ] أي عما هم عليه من الدين حسب اعتقادهم فيه إلى أن يأتيهم الرسول ولما لم يتعرض في ذلك على ذلك المذهب لحالهم بعد إتيان الرسول عليه الصلاة والسلام بينه سبحانه بقوله جل وعلا : { وَمَا تَفَرَّقَ الذين أُوتُواْ الكتاب } الخ أي وما تفرقوا فعرف بعض منهم الحق وآمن وعرفه بعض آخر منهم وعاند فلم يؤمن في وقت من الأوقات إلا من بعد ما جاءتهم البينة وطوى سبحانه ذكر حال المشركين لعلمه بالأولى من حالهم ثم إنه تعالى ذكر بعد حال كل من الفريقين المؤمن والكافر وماله في الآخرة بقوله سبحانه : { إِنَّ الذين كَفَرُواْ } [ البينة : 6 ] الخ وقوله تعالى : { إِنَّ الذين ءامَنُواْ } [ البينة : 7 ] الخ والذي أميل إليه مما تقدم كون الانفكاك عن الوعد باتباع الحق ولعل القرينة على اعتباره حالية ويحتمل نحواً آخر من التوجيه وذلك بأن يجعل الكلام من باب الأعمال فيقال إن منفكين يقتضي متعلقاً هو المنفك عنه وتأتيهم يقتضي فاعلاً وليس في الكلام سوى البينة فكل منهما يقتضيه فاعمل فيه تأتيهم وحذف معمول منفكين لدلالته عليه فكأنه قيل لم يكن الذين كفروا من الفريقين منفكين عن البينة حتى تأتيهم البينة وحيث كان المراد بالبينة الرسول كان الكلام في قوة لم يكونوا منفكين عن الرسول حتى يأتيهم ويراد بعدم الانفكاك عن الرسول حيث لم يكن موجوداً إذ ذاك عدم الانفكاك عن ذكره والوعد باتباعه ويكون باقي الكلام في الآية على نحو ما سبق على تقدير إرادة منفكين عما كانوا عليه من الوعد باتباع الحق وإن شئت قلت في قوله تعالى : { وَمَا تَفَرَّقَ } الخ أنه على معنى وما تفرق الذين أوتوا الكتاب عن الرسول ما انفكوا عنه بالإصرار على الكفر إلا من بعد ما جاءهم فتأمل جميع ما أتيناك به والله تعالى أعلم بأسرار كتابه .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{وَمَا تَفَرَّقَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ إِلَّا مِنۢ بَعۡدِ مَا جَآءَتۡهُمُ ٱلۡبَيِّنَةُ} (4)

وإذا لم يؤمن أهل الكتاب لهذا الرسول وينقادوا له ، فليس ذلك ببدع من ضلالهم وعنادهم ، فإنهم ما تفرقوا واختلفوا وصاروا أحزابًا { إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ } التي توجب لأهلها الاجتماع والاتفاق ، ولكنهم لرداءتهم ونذالتهم ، لم يزدهم الهدى إلا ضلالًا ، ولا البصيرة إلا عمى ، مع أن الكتب كلها جاءت بأصل واحد ، ودين واحد .