في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَهُوَ ٱلَّذِي يَقۡبَلُ ٱلتَّوۡبَةَ عَنۡ عِبَادِهِۦ وَيَعۡفُواْ عَنِ ٱلسَّيِّـَٔاتِ وَيَعۡلَمُ مَا تَفۡعَلُونَ} (25)

هذا القسم الثاني من السورة يمضي في الحديث عن دلائل الإيمان في الأنفس والآفاق وعن آثار القدرة فيما يحيط بالناس ، وفيما يتعلق مباشرة بحياتهم ومعاشهم ، وفي صفة المؤمنين التي تميز جماعتهم . . وذلك بعد الحديث في القسم الأول عن الوحي والرسالة من جوانبها المتعددة . . ثم يعود في نهاية السورة إلى الحديث عن طبيعة الوحي وطريقته . وبين القسمين اتصال ظاهر ، فهما طريقان إلى القلب البشري ، يصلانه بالوحي والإيمان .

( وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ، ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون . ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله ، والكافرون لهم عذاب شديد . ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض . ولكن ينزل بقدر ما يشاء ، إنه بعباده خبير بصير ) . .

تجيء هذه اللمسة بعد ما سبق من مشهد الظالمين مشفقين مما كسبوا وهو واقع بهم ، ومشهد الذين آمنوا في روضات الجنات . ونفي كل شبهة عن صدق رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فيما بلغهم به عن الله . وتقرير علم الله بذوات الصدور .

تجيء لترغيب من يريد التوبة والرجوع عما هو فيه من ضلالة ، قبل أن يقضى في الأمر القضاء الأخير . ويفتح لهم الباب على مصراعيه : فالله يقبل عنهم التوبة ، ويعفو عن السيئات ؛ فلا داعي للقنوط واللجاج في المعصية ، والخوف مما أسلفوا من ذنوب . والله يعلم ما يفعلون . فهو يعلم التوبة الصادقة ويقبلها . كما يعلم ما اسلفوا من السيئات ويغفرها .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَهُوَ ٱلَّذِي يَقۡبَلُ ٱلتَّوۡبَةَ عَنۡ عِبَادِهِۦ وَيَعۡفُواْ عَنِ ٱلسَّيِّـَٔاتِ وَيَعۡلَمُ مَا تَفۡعَلُونَ} (25)

ثم ذكر النعمة في تفضله بقبول التوبة عن عباده ، وقبول التوبة فيما يستأنف العبد من زمنه وأعماله مقطوع به بهذه الآية ، وأما ما سلف من أعماله فينقسم : فأما التوبة من الكفر فماحية كل ما تقدمها من مظالم العباد الفانية ، وأما التوبة من المعاصي فلأهل السنة قولان ، هل تذهب المعاصي السالفة للعبد بينه وبين خالقه ؟ فقالت فرقة : هي مذهبة لها ، وقالت فرقة : هي في مشيئة الله تعالى ، وأجمعوا على أنها لا تذهب مظالم العباد .

وحقيقة التوبة : الإقلاع عن المعاصي والإقبال والرجوع إلى الطاعات ، ويلزمها الندم على ما فات ، والعزم على ملازمة الخيرات . وقال سري السقطي : والتوبة : العزم على ترك الذنوب ، والإقبال بالقلب إلى علام الغيوب . وقال يحيى بن معاذ : التائب من كسر شبابه على رأسه وكسر الدنيا على رأس الشيطان ولزم الفطام حتى أتاه الحمام .

وقوله تعالى : { عن عباده } بمعنى : من عباده ، وكأنه قال : التوبة الصادرة عن عباده .

وقرأ جمهور القراء والأعرج وأبو جعفر والجحدري وقتادة : «يفعلون » بالياء على الكناية عن غائب . وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم وابن مسعود وعلقمة : «تفعلون » بالتاء على المخاطبة ، وفي الآية توعد .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَهُوَ ٱلَّذِي يَقۡبَلُ ٱلتَّوۡبَةَ عَنۡ عِبَادِهِۦ وَيَعۡفُواْ عَنِ ٱلسَّيِّـَٔاتِ وَيَعۡلَمُ مَا تَفۡعَلُونَ} (25)

لما جرى وعيد الذين يحاجُّون في الله لتأييد باطلهم من قوله تعالى : { والذين يحاجّون في الله من بعدما استجيب له حجتهم داحضة عند ربهم وعليهم غضب ولهم عذاب شديد } [ الشورى : 16 ] . ثم أتبع بوصف سوء حالهم يوم الجزاء بقوله : { ترى الظالمين مشفقين مما كسبوا } [ الشورى : 22 ] ، وقوبل بوصف نعيم الذين آمنوا بقوله : { والذين آمنوا وعملوا الصالحات في روضات الجنات } [ الشورى : 22 ] ، وكان ذلك مَظنة أن يكسر نفوس أهل العناد والضلالة ، أعقب بإعلامهم أن الله من شأنه قبول توبة من يتوب من عباده ، وعفوُه بذلك عما سلف من سيئاتهم .

وهذا الإخبار تعريض بالتحريض على مبادرة التوبة ولذلك جيء فيه بالفعل المضارع الصالح للاستقبال . وهو أيضا بشارة للمؤمنين بأنه قبل توبتهم مما كانوا فيه من الشرك والجاهلية فإن الذي من شأنه أن يقبل التوبة في المستقبل يكون قد قبل توبة التائبين من قبلُ ، بدلالة لحن الخطاب أو فَحواه ، وأن من شأنه الاستجابة للذين آمنوا وعملوا الصالحات من عباده . وكل ذلك جرْي على عادة القرآن في تعقيب الترهيب بالترغيب وعكسه . وهذا كله يتضمن وعداً للمؤمنين بقبول إيمانهم وللعصاة بقبول توبتهم .

فجملة : { وهو الذي يقبل التوبة عن عباده } معطوفة على جملة { وإن الظالمين لهم عذاب أليم } [ الشورى : 21 ] وما اتصل بها ممّا تقدم ذكره وخاصة جملة : { ويمح الله الباطل } [ الشورى : 24 ] .

وابتِناءُ الإخبار بهذه الجملة على أسلوب الجملة الاسمية لإفادتها ثباتَ حكمها ودوامه . ومَجيءُ المسند اسم موصول لإفادة اتصاف الله تعالى بمضمون صلته وأنها شأن من شؤون الله تعالى عرف به ثابت له لا يتخلف لأنه المناسب لحكمته وعظَمة شأنه وغناه عن خلقه . وإيثار جملة الصلة بصيغة المضارع لإفادة تجدد مضمونه وتكرره ليعلموا أن ذلك وعد لا يتخلف ولا يختلف .

وفعل ( قَبِلَ ) يتعدى ب ( من ) الابتدائية تارة كما في قوله : { وما مَنَعَهم أن تقبل منهم نفقاتهم } [ التوبة : 54 ] وقوله : { فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهباً } [ آل عمران : 91 ] ، فيفيد معنى الأخذ للشيء المقبول صادراً من المأخوذ منه ، ويعدَّى ب { عن } فيفيد معنى مجاوزة الشيء المقبول أو انفصالِه عن معطيه وباذِلِه ، وهو أشد مبالغةً في معنى الفعل من تعديته بحرف ( من ) لأن فيه كناية عن احتباس الشيء المبذول عند المبذول إليه بحيث لا يُردّ على باذلِه .

فحصلت في جملة { وهو الذي يقبل التوبة عن عباده } أربعُ مبالغات : بناء الجملة على الاسمية وعلى الموصولية وعلى المضارعية ، وعلى تعدية فعل الصلة ب { عن } دون ( من ) .

و { التوبة } : الإقلاع عن فعل المعصية امتثالاً لطاعة الله ، وتقدم الكلام عليها عند قوله تعالى : { فتلقّى آدم من ربه كلمات فتاب عليه } في سورة البقرة ( 37 ) . وقبول التوبة منّة من الله تعالى لأنه لو شاء لَمَا رضِي عن الذي اقترف الجريمة ولكنه جعلها مقبولة لحكمته وفضله .

وفي ذكر اسم العباد دون نحو : الناس أو التائبين أو غير ذلك إيماء إلى أن الله رفيق بعباده لمقام العبودية فإن الخالق والصانع يحب صلاح مصنوعه .

والعفو : عدم مؤاخذة الجاني بجنايَته . والسيئات : الجرائم لأنها سيئة عند الشرع . والعفو عن السيئات يكون بسبب التوبة بأن يعفو عن السيئات التي اقترفها العاصي قبل توبته ، ويكون بدون ذلك مثل العفو عن السيئات عقب الحج المبرور ، ومثل العفو عن السيئات لأجل الشهادة في سبيل الله ، ومثل العفو عن السيئات لكثرة الحسنات بأن يُمحَى عن العاصي من سيئاته ما يقابل مقداراً من حسناته على وجه يعلمه الله تعالى ، ومثل العفو عن الصغائر باجتناب الكبائر .

والتعريف في { السيئات } تعريف الجنس المراد به الاستغراق وهو عام مخصوص بغير الشرك قال تعالى : { إن الله لا يغفر أن يُشْرَك به } [ النساء : 48 ] ولك أن تجعله عوضاً عن المضاف إليه ، أي عن سيئات عباده فيعم جميع العباد عموماً مخصوصاً بالأدلة لهذا الحكم كما في الوجه الأول .

وجملة { ويعلم ما تفعلون } معترضة بين المتعاطفات أو في موضع الحال ، والمقصود : أنه لا يخفى عليه شيء من أعمال عباده خيرها وشرها . وقرأ الجمهور { ما يفعلون } بياء الغيبة ، أي ما يفعل عبادُه . وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم وخلف بتاء الخطاب على طريقة الالتفات .