في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِۦٓ أَنجَيۡنَا ٱلَّذِينَ يَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلسُّوٓءِ وَأَخَذۡنَا ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابِۭ بَـِٔيسِۭ بِمَا كَانُواْ يَفۡسُقُونَ} (165)

138

فلما لم يجد النصح ، ولم تنفع العظة ، وسدر السادرون في غيهم ، حقت كلمة الله ، وتحققت نذره . فإذا الذين كانوا ينهون عن السوء في نجوة من السوء . وإذا الأمة العاصية يحل بها العذاب الشديد الذي سيأتي بيانه . فأما الفرقة الثالثة - أوالأمة الثالثة - فقد سكت النص عنها . . ربما تهوينا لشأنها - وإن كانت لم تؤخذ بالعذاب - إذ أنها قعدت عن الإنكار الإيجابي ، ووقفت عند حدود الإنكار السلبي . فاستحقت الإهمال وإن لم تستحق العذاب :

( فلما نسوا ما ذكروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء ، وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون . فلما عتوا عما نهوا عنه قلنا لهم : كونوا قردة خاسئين ) . .

لقد كان العذاب البئيس - أي الشديد - الذي حل بالعصاة المحتالين ، جزاء إمعانهم في المعصية - التي يعتبرها النص هي الكفر ، الذي يعبر عنه بالظلم مرة وبالفسق مرة كما هو الغالب في التعبير القرآني عن الكفر والشرك بالظلم والفسق ؛ وهو تعبير يختلف عن المصطلح الفقهي المتأخر عن هذه الألفاظ إذ أن مدلولها القرآني ليس هو المدلول الذي جعل يشيع في التعبير الفقهي المتأخر –

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِۦٓ أَنجَيۡنَا ٱلَّذِينَ يَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلسُّوٓءِ وَأَخَذۡنَا ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابِۭ بَـِٔيسِۭ بِمَا كَانُواْ يَفۡسُقُونَ} (165)

والضمير في قوله : { نسوا } للمهنيين وهو ترك سمي نسياناً مبالغة إذ أقوى منازل الترك أن ينسى المتروك . و { ما } في قوله : { ما ذكروا به } معنى الذي ، ويحتمل أن يراد به الذكر نفسه ، ويحتمل أن يراد به ما كان فيه الذكر ، و { السوء } لفظ عام في جميع المعاصي إلا أن الذي يختص هنا بحسب قصص الآية صيد الحوت ، و { الذين ظلموا } هم العاصون ، وقوله : { بعذاب بئيس } معناه مؤلم موجع شديد ، وقرأ نافع وأهل المدينة أبو جعفر وشيبة وغيرهما «بَيْسٍ » بكسر الباء وسكون الياء وكسر السين وتنوينها ، وهذا على أنه فعل سمي به كقوله صلى الله عليه وسلم «أنهاكم عن قيل وقال » وقرأ الحسن بن أبي الحسن «بيس » كما تقول بيس الرجل وضعّفها أبو حاتم ، قال أبو عمرو : وروي عن الحسن «بئس » بهمزة بين الباء والسين ، وقرأ نافع فيما يروي عنه خارجه «بَيْسٍ » بفتح الباء وسكون الياء وكسر السين منونة ، وروى مالك بن دينار عن نصر بن عاصم «بَيَس » بفتح الباء والياء منونة على مثل جمل وجيل ، وقرأ أبو عبد الرحمن المقري «بَئِس » بفتح الباء وهمزة مكسورة وسين منونة على وزن فعل ، ومنه قول عبد الله بن قيس الرقيات : [ المديد ]

ليتني ألقى رقية في*** خلوة من غير ما بئس

قال أبو عمرو الداني هي قراءة نصر بن عاصم وطلحة بن مصرف ، وروي عن نصر «بِيس » بباء مكسورة من غيرهم ، قال الزهراوي وروي عن الأعمش «بئِّسٍ » الباء مفتوحة والهمزة مكسورة مشددة والسين مكسورة منونة ، وقرأت فرقة «بئس » كالتي قبل إلا فتح السين ، ذكرها أبو عمرو الداني عما حكى يعقوب ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة والكسائي ونافع في رواية أبي قرة عنه وعاصم في رواية حفص عنه «بئيسٍ » بباء بعد الهمزة المكسورة والسين المنونة على وزن فعيل ، وهذا وصف بالمصدر كقولهم عذير الحي والنذير والنكير ، ونحو ذلك ، وهي قراءة الأعرج ومجاهد وأهل الحجاز وأبي عبد الرحمن ونصر بن عاصم والأعمش وهي التي رجح أبو حاتم ، ومنه قول ذي الأصبع العدواني : [ مجزوء الكامل ]

حنقاً عليّ ولا أرى*** لي منهما نشراً بئيسا

وقرى أهل مكة «بئيس » كالأول إلا كسر الباء على وزن فعيل قال أبو حاتم : هما لغتان ، وقرأ عاصم في رواية أبي بكر عنه «بَيْئسَ » بفتح الباء وسكون الياء وفتح الهمزة على وزن فيعَل ومعناه شديد ، ومنه قول امرىء القيس بن عابس الكندي : [ الرجز ]

كلاهما كان رييساً بَيْئَسا*** يضرب في يوم الهياج القونسا

فهي صفة كضيغم وحيدر ، وهي قراءة الأعمش ، وقرأ عيسى بن عمر والأعمش بخلاف عنه «بَيْئِس » كالتي قبل إلا كسر الهمزة على وزن فيعِل ، وهذا شاذ لأنه لا يوجد فعِل في الصحيح وإنما يوجد في المعتل مثل سيد وميت ، وقال الزهراوي : روى نصر عن عاصم «بيْس » على مثال ميت وهذا على أنه من البوس لا أصل له في الهمز ، قال أبو حاتم زعم عصمة أن الحسن والأعمش قرءا «بِئْيَس » الباء مكسورة والهمزة ساكنة والياء مفتوحة على مثال خِدْيَم ، وضعفها أبو حاتم ، وقرأ ابن عامر من السبعة «بِئْسٍ » بكسر الباء وسكون الهمزة وتنوين السين المكسورة وقرأت فرقة «بَأْس » بفتح الباء وسكون الألف ، وقرأ أبو رجاء «بائِس » على وزن فاعِل ، وقرأ فرقة «بَيَسَ » بفتح الباء والياء والسين على وزن فَعَلَ ، وقرأ مالك بن دينار «بَأْسَ » بفتح الباء والسين وسكون الهمزة على وزن فَعْلَ غير مصروف ، وقرأت فرقة «بأس » مصروفاً ، وحكى أبو حاتم «بيس » قال أبو الفتح هي قراءة نصر بن عاصم ، وحكى الزهراوي عن ابن كثير وأهل مكة «بِيِس » بكسر الباء وبهمز همزاً خفيفاً .

قال القاضي أبو محمد : ولم يبين هل الهمزة مكسورة أو ساكنة .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِۦٓ أَنجَيۡنَا ٱلَّذِينَ يَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلسُّوٓءِ وَأَخَذۡنَا ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابِۭ بَـِٔيسِۭ بِمَا كَانُواْ يَفۡسُقُونَ} (165)

ضمير { نسوا } عائد إلى { قوماً } والنسيان مستعمل في الإعراض المفضي إلى النسيان كما تقدم عند قوله تعالى : { فلما نسوا ما ذُكروا به } في سورة الأنعام ( 44 ) .

والذين ينهون عن السوء } هم الفريقان المذكوران في قوله آنفاً { وإذ قالت أمة منهم لم تعظون قوماً } إلى قوله { ولعلهم يتقون } ، و { الذين ظلموا } هم القوم المذكورون في قوله : { قوماً الله مُهلكهم } إلخ .

والظلم هنا بمعنى العصيان ، وهو ظلم النفس ، حق الله تعالى في عدم الامتثال لأمره .

و { بِيسٍ } قرأه نافع وأبو جعفر بكسر الباء الموحدة مشبعة بياء تحتية ساكنة وبتنوين السين على أن أصله بئْس بسكون الهمزة فخففت الهمزة ياء مثل قولهم : ذِيب في ذِئْب .

وقرأه ابن عامر { بئْس } بالهمزة الساكنة وإبقاء التنوين على أن أصله بَئيس .

وقرأه الجمهور { بَئيس } بفتح الموحدة وهمزة مكسورة بعدها تحتية ساكنة وتنوين السين على أنه مثالُ مبالغة من فعل بَؤُس بفتح الموحدة وضم الهمزة إذا أصابه البؤس ، وهو الشدة من الضر .

أو على أنه مصدر مثل عَذير ونَكير .

وقرأه أبو بكر عن عاصم { بَيْئسَ } بوزنَ صَيْقل ، على أنه اسم للموصوف بفعل البؤس مبالغة ، والمعنى ، على جميع القراءات : أنه عذاب شديد الضر .

وقوله : { بما كانوا يفسقون } تقدم القول في نظيره قريباً .

وقد أجمل هذا العذاب هنا ، فقيل هو عذاب غير المسخ المذكور بعده ، وهو عذاب أصيب به الذين نَسوا ما ذُكروا به ، فيكون المسخ عذاباً ثانياً أصيب به فريق شاهدوا العذاب الذي حل بإخوانهم ، وهو عذاب أشد ، وقع بعد العذاب البيس ، أي أن الله أعذر إليهم فابتدأهم بعذاب الشدة ، فلما لم ينتهوا وعتوا ، سلّط عليهم عذاب المسخ .

وقيل : العذاب البِئس هو المسخ ، فيكون قوله : { فلما عتوا عما نهوا عنه } بياناً »جمال العذاب البئس ، ويكون قوله : { فلما عتوا } بمنزلة التأكيد لقوله : { فلما نسوا } صيغ بهذا الأسلوب لتهويل النسيان والعتو ، ويكون المعنى : أن النسيان ، وهو الإعراض ، وقع مقارناً للعتو .

و { ما ذكّروا به } و { ما نُهوا عنه } ما صْدَقُهما شيء واحد ، فكان مقتضى الظاهر أن يقال : فلما نسوا وَعتوا عما نهوا عنه وذُكروا به قلنا لهم الخ ، فعدل عن مقتضى الظاهر إلى هذا الأسلوب من الإطناب لتهويل أمر العذاب ، وتكثير أشكاله ، ومقام التهويل من مقتضيات الأطناب ، وهذا كإعادة التشبيه في قول لبيد :

فتنازعا سبطاً يطير ظلاله *** كدخان مُشعَلة يشبّ ضرامها

مشمولـةٍ غُلِثت بنابت عَرفج *** كدُخان نار ساطع أسنامها

ولكن أسلوب الآية أبلغ وأوفر فائدة ، وأبعد عن التكرير اللفظي ، فما في بيت لبيد كلامٌ بليغ ، وما في الآية كلام معجز .