في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ قَدۡ جَآءَكُمُ ٱلرَّسُولُ بِٱلۡحَقِّ مِن رَّبِّكُمۡ فَـَٔامِنُواْ خَيۡرٗا لَّكُمۡۚ وَإِن تَكۡفُرُواْ فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمٗا} (170)

148

ومن ثم دعوة شاملة إلى الناس كافة - بعد هذه البيانات كلها - أن هذا الرسول إنما جاءهم بالحق من ربهم .

فمن أمن به فهو الخير . ومن كفر فإن الله غني عنهم جميعا ، وقادر عليهم جميعا ، وله ما في السماوات والأرض .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ قَدۡ جَآءَكُمُ ٱلرَّسُولُ بِٱلۡحَقِّ مِن رَّبِّكُمۡ فَـَٔامِنُواْ خَيۡرٗا لَّكُمۡۚ وَإِن تَكۡفُرُواْ فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمٗا} (170)

المخاطبة بقوله { يا أيها الناس } مخاطبة لجميع الناس ، والسورة مدنية ، فهذا مما خوطب به جميع الناس بعد الهجرة ، لأن الآية دعاء إلى الشرع ، ولو كانت في أمر من أوامر الأحكام ونحوها لكانت «يا أيها الذين آمنوا » و { الرسول } في هذه الآية محمد صلى الله عليه وسلم ، و { الحق } في شرعه ، وقوله تعالى : { خيراً لكم } منصوب بفعل مضمر تقديره ، إيتوا خيراً لكم ، أو حوزوا خيراً لكم ، وقوله { آمنوا } وقوله{ انتهوا } بعد ذالك ، أمر بترك الشيء والدخول في غيره ، فلذلك حسنت صفة التفضيل التي هي ( خير ) هذا مذهب سيبويه في نصب خير ، ونظيره من الشعر قول عمر بن أبي ربيعة :

فواعديه سَرْحَتَيْ مالك *** أو الربى بينهما أسهلا{[4386]}

أي يأت أسهل ، وقال أبو عبيدة التقدير يكن الإيمان خيراً والانتهاء خيراً ، فنصبه على خبر كان ، وقال الفراء : التقدير فآمنوا إيماناً خيراً لكم ، فنصبه على النعت لمصدر محذوف ثم قال تعالى { وإن تكفروا فإن لله ما في السماوات والأرض } وهذا خبر بالاستغناء ، وأن ضرر الكفر إنما هو نازل بهم ، ولله تعالى العلم والحكمة .

ثم خاطب تعالى أهل الكتاب من النصارى بأن يدعوا «الغلو » ، وهو تجاوز الحد ، ومنه غلاء السعر ، ومنه غلوة السهم ، وقوله تعالى : { في دينكم } إنما معناه ، في الدين الذي أنتم مطلوبون به ، فكأنه اسم جنس ، وأضافه إليهم بياناً أنهم مأخذون به ، وليست الإشارة إلى دينهم المضلل ، ولا أمروا بالثبوت عليه دون غلو ، وإنما أمروا بترك الغلو في دين الله على الإطلاق ، وأن يوحدوا ولا «يقولوا على الله إلا الحق » ، وإذا سلكوا ما أمروا به ، فذلك سائقهم إلى الإسلام ، ثم بين تعالى أمر المسيح وأنه { رسول الله وكلمته } أي مكون عن كلمته التي هي «كن » وقوله { ألقاها } عبارة عن إيجاد هذا الحادث في مريم ، وقال الطبري { وكلمته ألقاها } يريد جملة مخلوقاته ، ف «من » لابتداء الغاية إذا حقق النظر فيها ، وقال البشارة التي بعث الملك بها إليها ، وقوله تعالى : { وروح منه } أي من الله وقال الطبري { وروح منه } أي نفخة منه ، إذ هي من جبريل بأمره ، وأنشد قول ذي الرمة :

فقلت له اضممها إليك وأحيها *** بروحك واقتته لها قيتة قدرا{[4387]}

يصف سقط النار ، وقال أبيّ بن كعب : روح عيسى من أرواح الله التي خلقها واستنطقها بقوله { ألست بربكم قالوا بلى }{[4388]} فبعثه الله إلى مريم فدخل فيها ، ثم أمرهم بالإيمان بالله ورسله ، أي الذين من جملتهم عيسى ومحمد عليهما السلام ، وقوله تعالى : { ولا تقولوا ثلاثة } المعنى : الله ثالث ثلاثة ، فحذف الابتداء والمضاف ، كذا قدر أبو علي ، ويحتمل أن يكون المقدر : المعبود ثلاثة ، أو الإله ثلاثة ، أو الآلهة ثلاثة ، أو الأقانيم ثلاثة{[4389]} ، وكيف ما تشعب اختلاف عبارات النصارى فإنه يختلف بحسب ذلك التقدير ، وقد تقدم القول في معنى { انتهوا خيراً لكم } .


[4386]:- سرحتا مالك: موضع بعينه، وأصل السرحة: الشجرة، وقد اشتهر هذا المكان بشجرتين نسبتا لصاحبهما، والربى: جمع ربوة، وهي المرتفع من الأرض، تقول محبوبته لجاريتها: واعديه الليلة أن نلتقي عند السرحتين أو الربى، والأفضل أن يأتي مكانا سهلا حتى لا يعرف شأنهما، وإن كان بعض الشراح يرى أنه هو الذي أرسل إليها امرأة، و(أسهلا) منصوب بفعل مضمر دلّ عليه ما قبله، أي: ائت أسهل الأمرين عليك.
[4387]:- بروحك: بنفخك، واقتته لها قيتة: يأمره بالرفق والنفخ الخفيف في النار، وأن يطعم النار حطبا قليلا- والرواية في الديوان: "فقلت له ارفعها..." بدلا من "اضممها".
[4388]:- من الآية (182) من سورة (الأعراف).
[4389]:- قال القرطبي: "والنصارى مع فرقهم مجمعون على التثليث، ويقولون: إن الله جوهر واحد، وله ثلاث أقانيم، فيجعلون كل أقنوم إلها، ويعنون بالأقانيم: الوجود، والحياة، والعلم، وربما يعبرون عن الأقانيم بالأب، والابن، وروح القدس، فيعنون بالأب: الوجود، وبالروح: الحياة، وبالابن: المسيح".