هذا الدرس جولة مع النصارى من أهل الكتاب ، كما كان الدرس الماضي جولة مع اليهود منهم وهؤلاء وهؤلاء من أهل الكتاب ، الموجه إليهم هذا الخطاب .
وفي الدرس الماضي أنصف القرآن عيسى بن مريم وأمه الطاهرة من افتراءات اليهود ، وأنصف العقيدة الصحيحة في حكاية صلب المسيح - عليه السلام - وأنصف الحق نفسه من يهود ، وأفاعيل يهود ، وعنت يهود !
وفي هذا الدرس يتجه السياق إلى إنصاف الحق والعقيدة ، وإنصاف عيسى بن مريم كذلك من غلو النصارى في شأن المسيح - عليه السلام - ومن الأساطير الوثنية التي تسربت إلى النصرانية السمحة من شتى الأقوام ، وشتى الملل ، التي احتكت بها النصرانية ؛ سواء في ذلك أساطير الإغريق والرومان ، وأساطير قدماء المصريين ، وأساطير الهنود !
ولقد تولى القرآن الكريم تصحيح عقائد أهل الكتاب التي جاء فوجدها مليئة بالتحريفات مشحونة بالأساطير ؛ كما تولى تصحيح عقائد المشركين ، المتخلفة من بقايا الحنيفية دين إبراهيم - عليه السلام - في الجزيرة العربية ومن ركام فوقها من أساطير البشر وترهات الجاهلية !
لا بل جاء الإسلام ليتولى تصحيح العقيدة في الله للبشر أجمعين ؛ وينقذها من كل انحراف وكل اختلال ، وكل غلو ، وكل تفريط ، في تفكير البشر أجمعين . . فصحح - فيما صحح - اختلالات تصور التوحيد في أراء أرسطو في أثينا قبل الميلاد ، وأفلوطين في الإسكندرية بعد الميلاد ؛ وما بينهما وما تلاهما من شتى التصورات في شتى الفلسفات التي كانت تخبط في التيه ، معتمدة على ذبالة العقل البشري ، الذي لا بد أن تعينه الرسالة ، ليهتدي في هذا التيه !
والقضية التي يعرض لها السياق في هذه الآيات ، هي قضية " التثليث " وما تتضمنه من أسطورة " بنوة المسيح " لتقرير وحدانية الله سبحانه على الوجه المستقيم الصحيح .
ولقد جاء الإسلام والعقيدة التي يعتنقها النصارى - على اختلاف المذاهب - هي عقيدة أن الإله واحد في أقانيم ثلاثة : الآب ، والابن ، والروح القدس . والمسيح هو " الابن " . . ثم تختلف المذاهب بعد ذلك في المسيح . هل هو ذو طبيعة لاهوتية وطبيعة ناسوتية ؟ أم هل هو ذو طبيعة واحدة لاهوتية فقط . وهل هو ذو مشيئة واحدة مع اختلاف الطبيعتين ؟ وهل هو قديم كالآب أو مخلوق . . إلى آخر ما تفرقت به المذاهب ، وقامت عليه الاضطهادات بين الفرق المختلفة . . ( وسيأتي شيء من تفصيل هذا الإجمال في مناسبته في سياق سورة المائدة ) .
والثابت من التتبع التاريخي لأطوار العقيدة النصرانية ، أن عقيدة التثليث ، وكذلك عقيدة بنوة المسيح لله - سبحانه - ( ومثلها عقيدة ألوهية أمه مريم ، ودخولها في التثليثات المتعددة الأشكال ) كلها لم تصاحب النصرانية الأولى . إنما دخلت إليها على فترات متفاوتة التاريخ ، مع الوثنيين الذين دخلوا في النصرانية ، وهم لم يبرأوا بعد من التصورات الوثنية والآلهة المتعددة . والتثليث بالذات يغلب أن يكون مقتبساً من الديانات المصرية القديمة ، من تثليث " أوزوريس وإيزيس ، وحوريس " والتثليثات المتعددة في هذه الديانة . .
وقد ظل النصارى الموحدون يقاومون الاضطهادات التي أنزلها بهم الأباطرة الرومان ، والمجامع المقدسة الموالية للدولة ( الملوكانيون ) إلى ما بعد القرن السادس الميلادي على الرغم من كل ما لاقوه من اضطهاد وتغرب وتشرد بعيدا عن أيدي السلطات الرومانية !
وما تزال فكرة " التثليث " تصدم عقول المثقفين من النصارى ، فيحاول رجال الكنيسة أن يجعلوها مقبولة لهم بشتى الطرق ، ومن بينها الإحالة إلى مجهولات لا ينكشف سرها للبشر إلا يوم ينكشف الحجاب عن كل ما في السماوات وما في الأرض !
يقول القس بوطر صاحب رسالة : " الأصول والفروع " أحد شراح العقيدة النصرانية ، في هذه القضية :
" قد فهمنا ذلك على قدر طاقة عقولنا . ونرجو أن نفهمه فهما أكثر جلاء في المستقبل ، حين ينكشف لنا الحجاب عن كل ما في السماوات والأرض " .
ولا نريد هنا أن ندخل في سرد تاريخي للأطوار وللطريقة التي تسللت بها هذه الفكرة إلى النصرانية . وهي إحدى ديانات التوحيد الأساسية . فنكتفي باستعراض الآيات القرآنية الورادة في سياق هذه السورة ، لتصحيح هذه الفكرة الدخيلة على ديانة التوحيد !
( يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ، ولا تقولوا على الله إلا الحق . إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله ، وكلمته ألقاها إلى مريم ، وروح منه . فآمنوا بالله ورسله ، ولا تقولوا ثلاثة . انتهوا خيرا لكم . إنما الله إله واحد . سبحانه أن يكون له ولد . له ما في السماوات وما في الأرض ، وكفى بالله وكيلاً ) . .
فهو الغلو إذن وتجاوز الحد والحق ، هو ما يدعو أهل الكتاب هؤلاء إلى أن يقولوا على الله غير الحق ؛ فيزعموا له ولدا - سبحانه - كما يزعمون أن الله الواحد ثلاثة . .
وقد تطورت عندهم فكرة البنوة ، وفكرة التثليث ، حسب رقي التفكير وانحطاطه . ولكنهم قد اضطروا أمام الاشمئزاز الفطري من نسبة الولد لله ، والذي تزيده الثقافة العقلية ، أن يفسروا البنوة بأنها ليست عن ولادة كولادة البشر . ولكن عن " المحبة " بين الآب والابن . وأن يفسروا الإله الواحد في ثلاثة . . بأنها " صفات " لله سبحانه في " حالات " مختلفة . . وإن كانوا ما يزالون غير قادرين على إدخال هذه التصورات المتناقضة إلى الإدراك البشري . فهم يحيلونها إلى معميات غيبية لا تنكشف إلا بانكشاف حجاب السماوات والأرض .
والله - سبحانه - تعالى عن الشركة ؛ وتعالى عن المشابهة . ومقتضى كونه خالقا يستتبع . . بذاته . . أن يكون غير الخلق . . وما يملك إدراك أن يتصور إلا هذا التغاير بين الخالق والخلق . والمالك والملك . . وإلى هذا يشير النصر القرآني :
( إنما الله إله واحد . سبحانه ! أن يكون له ولد ؟ له ما في السماوات وما في الأرض )
وإذا كان مولد عيسى - عليه السلام - من غير أب عجيبا في عرف البشر ، خارقا لما ألفوه ، فهذا العجب إنما تنششه مخالفة المألوف . والمألوف للبشر ليس هو كل الموجود . والقوانين الكونية التي يعرفونها ليست هي كل سنة الله . والله يخلق السنة ويجريها ، ويصرفها حسب مشيئته . ولا حد لمشيئته .
والله - سبحانه - يقول - وقوله الحق - في المسيح :
( إنما المسيح عيسى ابن مريم ، رسول الله ، وكلمته ألقاها إلى مريم ، وروح منه ) . .
فهو على وجه القصد والتحديد : ( رسول الله ) . .
شأنه في هذا شأن بقية الرسل . شأن نوح وإبراهيم وموسى ومحمد ، وبقية الرهط الكريم من عباد الله المختارين للرسالة على مدار الزمان . .
وأقرب تفسير لهذه العبارة ، أنه سبحانه ، خلق عيسى بالأمر الكوني المباشر ، الذي يقول عنه في مواضع شتى من القرآن : إنه ( كن . . فيكون ) . . فلقد ألقى هذه الكلمة إلى مريم فخلق عيسى في بطنها من غير نطفة أب - كما هو المألوف في حياة البشر غير آدم - والكلمة التي تخلق كل شيء من العدم ، لا عجب في أن تخلق عيسى - عليه السلام - في بطن مريم من النفخة التي يعبر عنها بقوله :
وقد نفخ الله في طينة آدم من قبل من روحه . فكان " إنسانًا " . . كما يقول الله تعالى : ( إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من طين . فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين ) . . وكذلك قال في قصة عيسى : ( والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا ) فالأمر له سابقة . . والروح هنا هو الروح هناك . . ولم يقل أحد من أهل الكتاب - وهم يؤمنون بقصة آدم والنفخة فيه من روح الله - إن آدم إله ، ولا أقنوم من أقانيم الإله . كما قالوا عن عيسى ؛ مع تشابه الحال - من حيث قضية الروح والنفخة ومن حيث الخلقة كذلك . بل إن آدم خلق من غير أب وأم : وعيسى خلق مع وجود أم . . وكذلك قال الله : ( إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ، ثم قال له كن فيكون ) . .
ويعجب الإنسان - وهو يرى وضوح القضية وبساطتها - من فعل الهوى ورواسب الوثنية التي عقدت قضية عيسى عليه السلام هذا التعقيد كله ، في أذهان أجيال وأجيال وهي - كما يصورها القرآن - بسيطة بسيطة ، وواضحة مكشوفة .
إن الذي وهب لآدم . . من غير أبوين . . حياة إنسانية متميزة عن حياة سائر الخلائق بنفخة من روحه ، لهو الذي وهب عيسى . . من غير أب . . هذه الحياة الإنسانية كذلك . . وهذاالكلام البسيط الواضح أولى من تلك الأساطير التي لا تنتهي عن ألوهية المسيح ، لمجرد أنه جاء من غير أب . وعن ألوهية الأقانيم الثلاثة كذلك ! . . تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا :
( فآمنوا بالله ورسله . ولا تقولوا : ثلاثة . انتهوا خيرا لكم ) . .
وهذه الدعوة للإيمان بالله ورسله - ومن بينهم عيسى بوصفه رسولا ، ومحمد بوصفه خاتم النبيين - والانتهاء عن تلك الدعاوى والأساطير ، تجيء في وقتها المناسب بعد هذا البيان الكاشف والتقرير المريح . . ( إنما الله إله واحد ) . . تشهد بهذا وحده الناموس . . ووحدة الخلق . ووحدة الطريقة : كن . . فيكون . . ويشهد بذلك العقل البشري ذاته . فالقضية في حدود إدراكه . فالعقل لا يتصور خالقا يشبه مخلوقاته ، ولا ثلاثة في واحد . ولا واحدا في ثلاثة :
والولادة امتداد للفاني ومحاولة للبقاء في صورة النسل . . والله الباقي غني عن الامتداد في صورة الفانين ؛ وكل ما في السماوات وما في الأرض ملك له سبحانه على استواء :
( له ما في السماوات وما في الأرض ) . .
ويكفي البشر أن يرتبطوا كلهم بالله ارتباط العبودية للمعبود ؛ وهو يرعاهم أجمعين ، ولا حاجة لافتراض قرابة بينهم وبينه عن طريق ابن له منهم ! فالصلة قائمة بالرعاية والكلاءة : ( وكفى بالله وكيلا ) . .
وهكذا لا يكتفي القرآن ببيان الحقية وتقريرها في شأن العقيدة . إنما يضيف إليها أراحة شعور الناس من ناحية رعاية الله لهم ؛ وقيامه - سبحانه - عليهم وعلى حوائجهم ومصالحهم ؛ ليكلوا إليه أمرهم كله في طمأنينة . .
{ إنما } في هذه الآية حاصرة ، اقتضى ذلك العقل في المعنى المتكلم فيه ، وليست صيغة { إنما } تقتضي الحصر ، ولكنها تصلح للحصر وللمبالغة في الصفة وإن لم يكن حصر ، نحو : إنما الشجاع عنترة وغير ذلك . و { سبحانه } : معناه تنزيهاً له وتعظيماً عن أن يكون له ولد كما تزعمون أنتم أيها النصارى في أمر عيسى ، إذ نقلتم أبوة الحنان والرأفة إلى أبوة النسل ، وقرأ الحسن بن أبي الحسن «أن يكون له ولداً » بكسر الألف من «أن » وهي نافية بمعنى ما يكون له ولد ، وقوله تعالى : { له ما في السماوات وما في الأرض } الآية : إخبار يستغرق عبودية عيسى وغير ذلك من الأمور .