في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَيَـٰٓـَٔادَمُ ٱسۡكُنۡ أَنتَ وَزَوۡجُكَ ٱلۡجَنَّةَ فَكُلَا مِنۡ حَيۡثُ شِئۡتُمَا وَلَا تَقۡرَبَا هَٰذِهِ ٱلشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ ٱلظَّـٰلِمِينَ} (19)

وينتهي هذا المشهد ، ليتلوه مشهد آخر في السياق :

ينظر الله - سبحانه - بعد طرد إبليس من الجنة هذه الطردة - إلى آدم وزوجه . . وهنا فقط نعرف أن له زوجا من جنسه ، لاندري كيف جاءت . فالنص الذي معنا وأمثاله في القرآن الكريم لا تتحدث عن هذا الغيب بشيء . وكل الروايات التي جاءت عن خلقها من ضلعه مشوبة بالإسرائيليات لا نملك أن نعتمد عليها ، والذي يمكن الجزم به هو فحسب أن الله خلق له زوجاً من جنسه ، فصارا زوجين اثنين ؛ والسنة التي نعلمها عن كل خلق الله هي الزوجية : ( ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون ) . . فهي سنة جارية وهي قاعدة في كل خلق الله أصيلة . وإذا سرنا مع هذه السنة فإن لنا أن نرجح أن خلق حواء لم يمكث طويلاً بعد خلق آدم ، وأنه تم على نفس الطريقة التي تم بها خلق آدم . .

على أية حال يتجه الخطاب إلى آدم وزوجه ، ليعهد إليهما ربهما بأمره في حياتهما ؛ ولتبدأ تربيته لهما وإعدادهما لدورهما الأساسي ، الذي خلق الله له هذا الكائن . وهو دور الخلافة في الأرض - كما صرح بذلك في آية البقرة : ( وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة ) . .

( ويا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة ، فكلا من حيث شئتما ، ولا تقربا هذه الشجرة ، فتكونا من الظالمين ) . .

ويسكت القرآن عن تحديد ( هذه الشجرة ) . لأن تحديد جنسها لا يريد شيئاً في حكمة حظرها . مما يرجح أن الحظر في ذاته هو المقصود . . لقد أذن الله لهما بالمتاع الحلال ، ووصاهما بالامتناع عن المحظور . ولا بد من محظور يتعلم منه هذا الجنس أن يقف عند حد ؛ وأن يدرب المركوز في طبعه من الإرادة التي يضبط بها رغباته وشهواته ؛ ويستعلي بها على هذه الرغبات والشهوات ، فيظل حاكماً لها لا محكوماً بها كالحيوان ، فهذه هي خاصية " الانسان " التي يفترق بها عن الحيوان ، ويتحقق بها فيه معنى " الإنسان " .

/خ25

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَيَـٰٓـَٔادَمُ ٱسۡكُنۡ أَنتَ وَزَوۡجُكَ ٱلۡجَنَّةَ فَكُلَا مِنۡ حَيۡثُ شِئۡتُمَا وَلَا تَقۡرَبَا هَٰذِهِ ٱلشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ ٱلظَّـٰلِمِينَ} (19)

إذا أمر الإنسان بشيء هو متلبس به فإنما المقصد بذلك أن يستمر على حاله ويتمادى في هيئته وقوله تعالى لآدم { اسكن } هو من هذا الباب ، وأكد الضمير الذي في قوله { اسكن } بقوله { أنت } وحينئذ جاز العطف عليه وهو ضمير لا يجوز إظهاره ولا يترتب ، والعطف على الضمير الملفوظ به لا يجوز إلا بعد تأكيده كقولك قمت أنت وزيد لأن الضمير بمنزلة حرف من الفعل ، وهذا الضمير الذي في { اسكن } أضعف من الملفوظ به فأحرى أن لا يصح العطف عليه إلا بعد التأكيد .

وقوله : { فكلا } هو من أكل فأصله أكلا فحذفت فاء الفعل لاجتماع المثلين ، واستغني عن الأخرى لما تحرك ما بعدها ، وحسن أيضاً حذف فاء الفعل لأنهم استثقلوا الحركة على حرف علة ، وهذا باب كل فعل أوله همزة ووزنه فعل كأخذ وأمر ونحوه ، وكان القياس أن لا يحذف فاء الفعل ولكن ورد استعمالهم هكذا .

ويقال قرب يقرب ، و { هذه الشجرة } الظاهر أنه أشار إلى شخص شجرة واحدة من نوع وأرادها ويحتمل أن يشير إلى شجرة معينة وهو يريد النوع بجملته ، وعبر باسم الواحدة كما تقول أصاب الناس الدينار والدرهم وأنت تريد النوع .

قال القاضي أبو محمد : وعلى الاحتمالين فآدم عليه السلام إنما قصد في وقت معصية فعل ما نهي عنه قاله جمهور المتأولين ، وبذلك أغواه إبليس لعنه الله بقوله : إنك لم ُتنَه إلا لئلا تخلد أو تكون ملكاً ، فيبطل بهذا قول من قال : إن آدم إنما أخطأ متأولاً بأن ظن النهي متعلقاً بشخص شجرة فأكل من النوع فلم يعذر بالخطأ .

قال القاضي أبو محمد : وذلك أن هذا القائل إنما يفرض آدم معتقداً أن النهي إنما تعلق بشجرة معينة فكيف يقال له مع هذا الاعتقاد إنك لم تنه إلا لئلا تخلد ثم يقصد هو طلب الخلود في ارتكاب غير ما نهي عنه ؟ ولا فرق بين أكله ما يعتقد أنه لم ينه عنه وبين أكله سائر المباحات له .

قال القاضي أبو محمد : والهاء الأخيرة في { هذه } بدل من الياء في هذي أبدلت في الوقف ثم ثبتت في الوصل هاء حملاً على الوقف ، وليس في الكلام هاء تأنيث قبلها كسرة إلا «هذه » وقرأ ابن محيصن «هذي الشجرة » على الأصل ، وقوله { فتكونا } نصب في جواب النهي .

قال القاضي أبو محمد : وتعلق الناس بهذه الآية في مسألة الحظر والإباحة ، وذلك أن مسألة الحظر والإباحة تكلم الناس فيها على ضربين فأما الفقهاء فدعاهم إلى الكلام فيها أنه تنزل نوازل لا توجد منصوصة في كتاب الله عز وجل ولا في سنة نبيه ولا في إجماع ، ويعتم وجه استقرائها من أحد هذه الثلاثة وقياسها على ما فيها ، فيرجع الناظر بعد ذلك ينظر على أي جهة يحملها من الإجازة والمنع ، فقال بعضهم إذا نزل مثل هذا فنحمله على الحظر ونأخذ فيه بالشدة ونستبرىء لأنفسنا ، إذ الله عز وجل قد بين لنا في كتابه جميع ما يجب بيانه وأحل ما أراد تحليله ، ولم يترك ذكر هذه النازلة إلا عن قصد فاجترامنا نحن عليها لا تقتضيه الشريعة ، وقال بعضهم بل نحملها على الإباحة لأن الله عز وجل قد أكمل لنا ديننا وحرم علينا ما شاء تحريمه ، ولم يهمل النص على نازلة إلا وقد تركها في جملة المباح ، وبعيد أن يريد في شيء التحريم ولا يذكره لنا ويدعنا في عمى الجهالة به ، فإنما نحملها على الإباحة حتى يطرأ الحظر ، وقال بعضهم بل نحمل ذلك على الوقف أبداً ولا نحكم فيه بحظر ولا إباحة بل نطلب فيه النظر والقياس أبداً ، وذلك أنّا نجد الله عز وجل يقول في كتابه { حرم عليكم } في مواضع ، ويقول { أحل لكم } في مواضع .

فدل ذلك على أن كل نازلة تحتاج إلى شرع وأمر ، إما مخصوصاً بها وإما مشتملاً عليها وعلى غيرها ، ولو كانت الأشياء على الحظر لما قال في شيء حرم عليكم ولو كانت على الإباحة لما قال في شيء أحل لكم .

قال القاضي أبو محمد : وهذا أبين الأقوال ولم يتعرض الفقهاء في هذه المسألة إلى النظر في تحسين العقل وتقبيحه ، وإنما تمسكوا في أقوالهم هذه بأسباب الشريعة وذهبوا إلى انتزاع مذاهبهم منها ، وأما الضرب الثاني من كلام الناس في الحظر والإباحة فإن المعتزلة ومن قال بقولهم إن العقل يحسن ويقبح نظروا في المسألة من هذه الجهة فقالوا نفرض زمناً لا شرع فيه أو رجلاً نشأ في برية ولم يحسن قط بشرع ولا بأمر ولا بنهي أو نقدر آدم عليه السلام وقت إهباطه إلى الأرض قد ترك وعقله قبل أن يؤمر وينهى كيف كانت الأشياء عليه أو كيف يقتضي العقل في الزمن والرجل المفروضين ؟ ، فقال بعضهم الذي يحسن في العقل أن تكون محظورة كلها حتى يرد الإذن باستباحتها ، وذلك أن استباحتها تعد على ملك الغير ، وإذا قبح ذلك في الشاهد فهو في حق الله أعظم حرمة ، وذهب بعض هذه الفرقة إلى استثناء التنفس والحركة من هذا الحظر وقالوا إن هذه لا يمكن غيرها .

قال القاضي أبو محمد : ويمكن أن يقدر الاضطرار إليها إباحة لها ، وقال بعضهم : بل يحسن في العقل أن تكون مباحة إذ التحكم في ملك الغير بوجه لا ضرر عليه فيه كالاستظلال بالجدران ونحوه مباح ، فإذا كان هذا في الشاهد جائزاً فهو في عظم قدر الله تعالى ووجوده أجوز ، إذ لا ضرر في تصرفنا نحن في ملكه ، ويتعلق بحقه شيء من ذلك ، وقال أهل الحق والسنة في هذا النحو من النظر ، بل الأمر في نفسه على الوقف ولا يوجب العقل تحسيناً ولا تقبيحاً بمجرده ُيدان به ، ولا يتجه حكم الحسن والقبيح إلا بالشرع ، وقال بعضهم : والعقل لم يخل قط من شرع ، فلا معنى للخوض في هذه المسألة ولا لفرض ما لا يقع ، وذهبوا إلى الاحتجاج بأن آدم عليه السلام قد توجهت عليه الأوامر والنواهي في الجنة ، بقوله تعالى له حين جرى الروح في جسده فعطس : قل الحمد لله يا آدم ، وبقوله : اسكن وكل ولا تقرب ونحو هذا ، وقال القاضي ابن الباقلاني في التقريب والإرشاد : إن الفقهاء الذين قالوا بالحظر والإباحة لم يقصدوا الكون مع المعتزلة في غوايتهم ، ولكنهم رأوا لهم كلاماً ملفقاً مموهاً فاستحسنوه دون أن يشعروا بما يؤول إليه من الفساد في القول بتحسين العقل وتقبيحه .

قال القاضي أبو محمد : وفي هذا الكلام حمل على فقهاء الشرع واستقصار لهم ، والصواب أن لا يظن بهم هذا الخلل وإنما التمسوا على نوازلهم تعليق حكم الحظر والإباحة من الشرع وهم مع ذلك لا يحمل عليهم أنهم يدفعون الحق في أن العقل لا يحسن ولا يقبح دون الشرع ، وقد تقدم في سورة البقرة ذكر الاختلاف في الشجرة وتعيينها .