سورة الصف مدنية وآياتها أربع عشرة
هذه السورة تستهدف أمرين أساسيين واضحين في سياقها كل الوضوح ، إلى جانب الإشارات والتلميحات الفرعية التي يمكن إرجاعها إلى ذينك الأمرين الأساسيين :
تستهدف أولا أن تقرر في ضمير المسلم أن دينه هو المنهج الإلهي للبشرية في صورته الأخيرة ، سبقته صور منه تناسب أطوارا معينة في تاريخ البشرية ، وسبقته تجارب في حياة الرسل وحياة الجماعات ، تمهد كلها لهذه الصورة الأخيرة من الدين الواحد ، الذي أراد الله أن يكون خاتمة الرسالات . وأن يظهره على الدين كله في الأرض . .
ومن ثم يذكر رسالة موسى ليقرر أن قومه الذين أرسل إليهم آذوه وانحرفوا عن رسالته فضلوا ، ولم يعودوا أمناء على دين الله في الأرض : ( وإذ قال موسى لقومه : يا قوم لم تؤذونني وقد تعلمون أني رسول الله إليكم . فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم ، والله لا يهدي القوم الفاسقين ) . . وإذن فقد انتهت قوامة قوم موسى على دين الله ؛ فلم يعودوا أمناء عليه ، مذ زاغوا فأزاغ الله قلوبهم ، ومذ ضلوا فأضلهم الله والله لا يهدي القوم الفاسقين .
ويذكر رسالة عيسى ليقرر أنه جاء امتدادا لرسالة موسى ، ومصدقا لما بين يديه من التوراة ، وممهدا للرسالة الأخيرة ومبشرا برسولها ؛ ووصلة بين الدين الكتابي الأول والدين الكتابي الأخير : وإذ قال عيسى ابن مريم : يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم ، مصدقا لما بين يدي من التوراة ، ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد . . وإذن فقد جاء ليسلم أمانة الدين الإلهي التي حملها بعد موسى إلى الرسول الذي يبشر به .
وكان مقررا في علم الله وتقديره أن تنتهي هذه الخطوات إلى قرار ثابت دائم ، وأن يستقر دين الله في الأرض في صورته الأخيرة على يدي رسوله الأخير : ( هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون ) .
هذا الهدف الأول الواضح في السورة يقوم عليه الهدف الثاني . فإن شعور المسلم بهذه الحقيقة ، وإدراكه لقصة العقيدة ، ولنصيبه هو من أمانتها في الأرض . . يستتبع شعوره بتكاليف هذه الأمانة شعورا يدفعه إلى صدق النية في الجهاد لإظهار دينه على الدين كله - كما أراد الله - وعدم التردد بين القول والفعل ؛ ويقبح أن يعلن المؤمن الرغبة في الجهاد ثم ينكص عنه ، كما يبدو أنه حدث من فريق من المسلمين كما تذكر الروايات . . ومن ثم يجيء في مطلع السورة بعد إعلان تسبيح الكون وما فيه لله . . ( يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون ? كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون . إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص ) .
ثم يدعوهم في وسط السورة إلى أربح تجارة في الدنيا والآخرة : ( يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم ? تؤمنون بالله ورسوله ، وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم . ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون . يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار ، ومساكن طيبة في جنات عدن ، ذلك الفوز العظيم . وأخرى تحبونها : نصر من الله وفتح قريب ، وبشر المؤمنين ) .
ثم يختم السورة بنداء أخير للذين آمنوا ، ليكونوا أنصار الله كما كان الحواريون أصحاب عيسى أنصاره إلى الله ، على الرغم من تكذيب بني إسرائيل به وعدائهم لله : ( يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله كما قال عيسى ابن مريم للحواريين : من أنصاري إلى الله ? قال الحواريون : نحن أنصار الله . فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة ، فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين ) . .
هذان الخطان واضحان في السورة كل الوضوح ، يستغرقان كل نصوصها تقريبا . فلا يبقى إلا التنديد بالمكذبين بالرسالة الأخيرة - وهذه قصتها وهذه غايتها - وهذا التنديد متصل دائما بالخطين الأساسيين فيها . وذلك قول الله تعالى ، عن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] بعد ذكر تبشير عيسى - عليه السلام - به : ( فلما جاءهم بالبينات قالوا : هذا سحر مبين . ومن أظلم ممن افترى على الله الكذب وهو يدعى إلى الإسلام ? والله لا يهدي القوم الظالمين . يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم ، والله متم نوره ، ولو كره الكافرون ) . .
وفيه يتضح في ضمير المسلم أن دينه هو دين الله في صورته الأخيرة في الأرض ؛ وأن أمانة العقيدة في البشرية كلها موكولة إليه ؛ يعلم أنه مكلف أن يجاهد في سبيل الله ، كما يحب الله ؛ ويتضح طريقه ، فلا يبقى في تصوره غبش ، ولا يبقى في حياته مجال للتمتمة والغمغمة في هذه القضية ، أو للتردد والتلفت عن الهدف المرسوم والنصيب المقسوم في علم الله وتقديره منذ بعيد .
وفي أثناء توجيهه إلى هذا الهدف الواضح يوجه كذلك إلى خلق المسلم وطبيعة ضميره . وهو أن لا يقول ما لا يفعل ، وألا يختلف له قول وفعل ، ولا ظاهر وباطن ، ولا سريرة وعلانية . وأن يكون هو نفسه في كل حال . متجردا لله . خالصا لدعوته . صريحا في قوله وفعله . ثابت الخطو في طريقه . متضامنا مع إخوانه . كالبنيان المرصوص . .
( سبح لله ما في السماوات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم ) . .
تجيء هذه التسبيحة من الوجود كله لله العزيز الحكيم ، في مطلع السورة التي تعلن للمسلمين أن دينهم هو الحلقة الأخيرة في دين الله ؛ وأنهم هم الأمناء على هذا الدين الذي يوحد الله ، وينكر على الكافرين المشركين كفرهم وشركهم ، والذي يدعوهم للجهاد لنصرته ، وقد قدر الله أن يظهره على الدين كله ولو كره المشركون . فيوحي هذا المطلع أن الأمانة التي يقوم عليها المسلمون هي أمانة الوجود كله ؛ وأن العقيدة التي يطلب إليهم الجهاد فيها هي عقيدة كل ما في السماوات وما في الأرض ؛ وأن ظهور هذا الدين على الدين كله ، هو ظاهرة كونية تتسق مع اتجاه الكون كله إلى الله العزيز الحكيم .
سورة الصف{[1]} وتسمى الحواريين .
مقصودها الحث{[2]} على الاجتهاد التام في{[3]} الاجتماع على قلب{[4]} واحد في جهاد من دعت الممتحنة إلى البراءة منهم ، بحملهم على الدين الحق ، أو محقهم عن جديد الأرض أقصى المحق ، تنزيها للملك{[5]} الأعلى عن الشرك ، وصيانة لجنابه الأقدس عن الإفك ، ودلالة على الصدق في البراءة منهم والعداوة لهم ، فهي{[6]} نتيجة سورة التوبة ، وأدل ما فيها على هذا المقصد الصف بتأمل آيته ، وتدبر ما له{[7]} من جليل النفع في أوله وأثنائه [ وغايته-{[8]} ] ، وكذا الحواريون ( بسم الله ) الملك الأعظم الذي له الأمر كله لأنه لا كفوء له ( الرحمان ) الذي عم بنعمة{[9]} البيان عما يرضيه ممن شاقه ، فقد شرك لكل أحد أن يرده أو يقبله ( الرحيم ) الذي خص{[10]} بإتمام الإنعام الموصل إلى دار السلام من شاء من عباده فهيأه لذلك وأهله .
لما ختمت الممتحنة بالأمر بتنزيهه سبحانه عن{[64786]} تولي من يخالف أمره بالتولي عنهم والبراءة منهم اتباعاً لأهل الصافات المتجردين عن كل ما سوى الله لا سيما عمن{[64787]} كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون ، افتتحت الصف بما هو كالعلة لذلك فقال :{ سبح لله } أي أوقع التنزيه الأعظم للملك الأعظم الذي له{ ما في السموات } من جميع الأشياء التي لا يغفل من أفلاكها ونجومها وغير ذلك من{[64788]} جواهرها وأعراضها{[64789]} في طلوعها وأفولها وسيرها في ذهابها ورجوعها وإنشاء السحاب وإنزال المياه وغير ذلك . ولما كان الخطاب مع غير الخلص أكده فقال :{ وما في الأرض } أي بامتثال جميع ما يراد منه مما هو كالمأمور بالنسبة إلى أفعال العقلاء من نزول المياه وإخراج النبات من النجم والشجر وإنضاج الحبوب والثمار - وغير ذلك من الأمور الصغار والكبار .
ولما كان امتثال غير العاقل وعصيان العاقل ربما{[64790]} أوهم نقصاً قال :{ وهو } أي وحده لا شريك له { العزيز } أي العظيم النفع الذي يغلب كل شيء ولا يغلبه شيء ، ويعسر الوصول إليه{[64791]} { الحكيم * } أي الذي يضع الأشياء في أتقن مواضعها ، فما مكّن العاقل من المعصية إلا لإظهار صفات الكمال من العلم والقدرة والحلم{[64792]} والكرم والرحمة والغضب وغير ذلك ، وقد علم بهذا التنزيه وختم آيته بهاتين الصفتين أنه تعالى منزه عما تضمنه يأس الكفار المذكور من{[64793]} أنه لا بعث وعن {[64794]}أن يجعل سبحانه لهم{[64795]} حظاً في الآخرة لأن كلاًّ من عدم البعث والتسوية بين المسيء والمحسن نقص{[64796]} .
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير : افتتحت بالتسبيح لما ختمت به سورة الممتحنة من قوله
{ لا تتولوا قوماً غضب الله عليهم }[ الممتحنة : 13 ] وهم اليهود ، {[64797]}وقد تقدم{[64798]} الإيماء إلى ما استوجبوا به هذا فأتبع بالتنزيه لما تقدم بيانه فإنه مما تعقب به ذكر جرائم المرتكبات ولا يرد في غير ذلك ، ثم أتبع ذلك بأمر العباد بالوفاء وهو الذي حد لهم{[64799]} في الممتحنة ليتنزهوا عن حال مستوجبي الغضب بنقيض الوفاء والمخالفة بالقلوب والألسنة{[64800]}{ يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم }[ آل عمران : 167 ] .
{ لياً بألسنتهم وطعناً في الدين }[ النساء : 46 ] .
{ من الذين قالوا آمنا{[64801]} بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم }[ المائدة : 41 ] .
{ ويقولون آمنا بالله والرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم }[ النور : 47 ] وبمجموع هذا استجمعوا {[64802]}اللعنة والغضب فقيل للمؤمنين :{ يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون }[ الصف : 2 ] احذروا أن تشبه أحوالكم حال من استحق المقت واللعنة والغضب ، ثم أتبع بحسن الجزاء لمن{[64803]} وفى قولاً وعقداً ولساناً وضميراً ، وثبت على ما{[64804]} أمر به فقال :{ إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً }[ الصف : 4 ] الآية ثم تناسج ما بعد . ولما كان الوارد من هذا الغرض في سورة الممتحنة قد جاء على طريق{[64805]} الوصية وسبيل النصح والإشفاق ، أتبع في سورة الصف بصريح العتب في ذلك والإنكار ليكون بعد ما{[64806]} تمهد في السورة قبل أوقع في الزجر ، وتأمل كم بين قوله سبحانه :{ يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء }{[64807]}[ الممتحنة : 1 ] وما تضمنته من اللطف{[64808]} وبين قوله : { لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون }[ الصف : 2 ] انتهى .
هذه السورة مدنية وآياتها أربع عشرة آية . وهي مبدوءة بالإيذان من الله بأن كل شيء في الوجود مسبح لله فهو مقدّسه ومنزّهه عن كل نقيصة أو عيب .
وفي السورة ينهى الله عن القول الذي لا يتبعه فعل . أو الوعد الذي لا يعقبه وفاء . ثم يندد الله تنديدا شديدا بالذين يتحدثون عن الخير أو المعروف ولا يأتونه أو يأتون خلافه من المعاصي .
وفي السورة تأنيس لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، إذ يبين الله له ما لقيه موسى كليمه من أذى قومه وسوء فعالهم وكذلك ما لقيه عيسى ابن مريم من المكاره والأذى وسوء القول فتحمل واصطبر ولم يتزعزع .
ثم يبين الله لعباده أفضل تجارة فيها التنجية والاستنقاذ من سوء العذاب ، وهي الإيمان بالله ورسوله والجهاد في سبيله بالمال والنفس .
{ سبح لله ما في السماوات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم 1 ياأيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون 2 كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون 3 إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص } .
كل شيء في هذا الكون ذاكر لله بتسبيحه وتنزيهه والإذعان له بالإلهية والربوبية ، { وهو العزيز الحكيم } الله القوي الغالب الذي لا يغالب . وهو سبحانه الحكيم في أقواله وأفعاله وتدبيره أمور خلقه .