ثم تتوالى الحركات النفسية ، تجاه لمسات الكون وإيحاءاته .
( فقنا عذاب النار . ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته . وما للظالمين من أنصار ) .
فما العلاقة الوجدانية ، بين إدراك ما في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار من حق ، وبين هذه الارتعاشة المنطلقة بالدعاء الخائف الواجف من النار ؟
إن إدراك الحق الذي في تصميم هذا الكون وفي ظواهره ، معناه - عند أولي الألباب - أن هناك تقديرا وتدبيرا ، وأن هناك حكمة وغاية ، وأن هناك حقا وعدلا وراء حياة الناس في هذا الكوكب . ولا بد إذن من حساب ومن جزاء على ما يقدم الناس من أعمال . ولا بد إذن من دار غير هذه الدار يتحقق فيها الحق والعدل في الجزاء .
فهي سلسلة من منطق الفطرة والبداهة ، تتداعى حلقاتها في حسهم على هذا النحو السريع . لذلك تقفز إلى خيالهم صورة النار ، فيكون الدعاء إلى الله أن يقيهم منها ، هو الخاطر الأول ، المصاحب لإدراك الحق الكامن في هذا الوجود . . وهي لفتة عجيبة إلى تداعي المشاعر عند ذوي البصائر . . ثم تنطلق ألسنتهم بذلك الدعاء الطويل ، الخاشع الواجف الراجف المنيب ، ذي النغم العذب ، والإيقاع المنساب ، والحرارة البادية في المقاطع والأنغام !
ولا بد من وقفة أمام الرجفة الأولى وهم يتجهون إلى ربهم ليقيهم عذاب النار . . لا بد من وقفة أمام قولهم :
( ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته ) . . ( وما للظالمين من أنصار ) . .
إنها تشي بأن خوفهم من النار ، إنما هو خوف - قبل كل شيء - من الخزي الذي يصيب أهل النار . وهذه الرجفة التي تصيبهم هي أولا رجفة الحياء من الخزي الذي ينال أهل النار . فهي ارتجافة باعثها الأكبر الحياء من الله ، فهم أشد حساسية به من لذع النار ! كما أنها تشي بشعور القوي بأنه لا ناصر من الله ، وأن الظالمين ما لهم من أنصار . .
{ ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته } غاية الإخزاء ، وهو نظير قولهم : من أدرك مرعى الصمان فقد أدرك ، والمراد به تهويل المستعاذ منه تنبيها على شدة خوفهم وطلبهم الوقاية منه ، وفيه إشعار بأن العذاب الروحاني أفظع . { وما للظالمين من أنصار } أراد بهم المدخلين ، ووضع المظهر موضع المضمر للدلالة على أن ظلمهم سبب لإدخالهم النار وانقطاع النصرة عنهم في الخلاص منها ، ولا يلزم من نفي النصرة نفي الشفاعة لأن النصر دفع بقهر .
وقوله تعالى : { ربنا } معناه يقولون ربنا على النداء ، ما خلقت هذا باطلاً ، يريد لغير غاية منصوبة بل خلقته وخلقت البشر لينظر فيه فتوحد وتعبد ، فمن فعل ذلك نعمته ومن ضل عن ذلك عذبته لكفره وقوله عليك ما لا يليق بك ، ولهذا المعنى الذي تعطيه قوة اللفظ حسن قولهم : { سبحانك } : أي تنزيهاً لك عما يقول المبطلون وحسن قولهم : { فقنا عذاب النار } إذ نحن المسبحون المنزهون لك الموحدون .
وقولهم : { ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته } ، استجارة واستعاذة ، أي فلا تفعل بنا ذلك ولا تجعلنا ممن يعمل عملها ، والخزي : الفضيحة المخجلة الهادمة لقدر المرء ، خزي الرجل يخزى خزياً إذا افتضح ، وخزاية إذا استحيى ، الفعل واحد والمصدر مختلف ، وقال أنس بن مالك والحسن بن أبي الحسن وابن جريج وغيرهم : هذه إشارة إلى من يخلد في النار{[3795]} ، ومن يخرج منها بالشفاعة والإيمان فليس بمخزي ، وقال جابر بن عبد الله وغيره : كل من دخل النار فهو مخزي وإن خرج منها ، وإن في دون ذلك لخزياً{[3796]} .
قال القاضي أبو محمد رحمه الله :
أما إنه خزي دون خزي وليس خزي من يخرج منها بفضيحة هادمة لقدره ، وإنما الخزي التام للكفار وقوله تعالى : { وما للظالمين من أنصار } هو من قول الداعين ، وبذلك يتسق وصف الآية .
قوله : { ربنا ما خلقت هذا باطلاً } وما بعده جملة واقعة موقع الحال على تقدير قَوْلٍ : أي يتفكّرون قائلين : ربّنا إلخ لأنّ هذا الكلام أريد به حكاية قولهم بدليل ما بعده من الدعاء .
فإن قلت : كيف تواطأ الجمع من أولي الألباب على قول هذا التنزيه والدعاء عند التفكّر مع اختلاف تفكيرهم وتأثّرهم ومقاصدهم . قلت : يحتمل أنّهم تلقَّوه من رسول الله صلى الله عليه وسلم فكانوا يلازمونه عند التفكّر وعقبَه ، ويحتمل أنّ الله ألهمهم إيّاه فصار هجيراهم مثلَ قوله تعالى : { وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا } [ البقرة : 285 ] الآيات . ويدلّ لذلك حديث ابن عباس في « الصحيح » قال : " بتّ عند خالتي ميمونة فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فمسح النوم عن وجهه ثم قرأ العشر الآيات من سورة آل عمران " إلى آخر الحديث .
ويجوز عندي أن يكون قوله : { ربنا ما خلقت هذا باطلاً } حكاية لتفكّرهم في نفوسهم ، فهو كلام النفس يشترك فيه جميع المتفكّرين لاستوائهم في صحّة التفكّر لأنّه تنقل من معنى إلى متفرّع عنه ، وقد استوى أولو الألباب المتحدّث عنهم هنا في إدراك هذه المعاني ، فأوّل التفكّر أنتج لهم أنّ المخلوقات لم تخلق باطلاً ، ثم تفرّع عنه تنزيه الله وسؤاله أن يقيهم عذاب النار ، لأنّهم رأوا في المخلوقات طائعاً وعاصياً ، فعلموا أنّ وراء هذا العالم ثَواباً وعقاباً ، فاستعاذوا أن يكونوا ممّن حقّت عليه كلمة العذاب . وتوسّلوا إلى ذلك بأنّهم بذَلوا غاية مقدورهم في طلب النجاة إذ استجابوا لمنادي الإيمان وهو الرسول عليه الصلاة والسلام ، وسألوا غفران الذنوب ، وتكفير السيئات ، والموتَ على البر إلى آخره . . . فلا يكاد أحد من أولي الألباب يخلو من هذه التفكّرات وربّما زاد عليها ، ولمّا نزلت هذه الآية وشاعت بينهم ، اهتدى لهذا التفكير من لم يكن انتبه له من قبل فصار شائعاً بين المسلمين بمعانيه وألفاظه .
ومعنى { ما خلقتَ هذا باطلاً } أي خلقاً باطلاً ، أو ما خلقت هذا في حال أنّه باطل ، فهي حال لازمة الذكر في النفي وإن كانت فضلة في الإثبات ، كقوله : { وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما لاعبين } [ الدخان : 38 ] فالمقصود نفي عقائد من يفضي اعتقادهم إلى أنّ هذا الخلق باطل أو خلي عن الحكمة ، والعرب تبني صيغة النفي على اعتبار سبق الإثبات كثيراً .
وجيء بفاء التعقيب في حكاية قولهم : { فقنا عذاب النار } لأنّه ترتّبَ على العلم بأنّ هذا الخلق حقّ ، ومن جملة الحقّ أن لا يستوي الصالح والطالح ، والمطيع والعاصي ، فعلموا أنّ لكلّ مستقرّاً مناسباً فسألوا أن يكونوا من أهل الخير المجنّبين عذاب النار .
وقولهم : { ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته } مسوق مساق التعليل لسؤال الوقاية من النار ، كما توذن به ( إنّ ) المستعملة لإرادة الاهتمام إذ لا مقام للتأكيد هنا . والخزي مصدر خزِيَ يَخْزَى بمعنى ذلّ وهان بمرأى من الناس ، وأخزاه أذلّه على رؤوس الأشهاد ، ووجه تعليل طلب الوقاية من النار بأنّ دخولها خزي بعد الإشارة إلى موجب ذلك الطلب بقولهم : { عذاب النار } أنّ النار مع ما فيها من العذاب الأليم فيها قهر للمعذَّب وإهانة علنية ، وذلك معنى مستقرّ في نفوس الناس ، ومنه قول إبراهيم عليه السلام : { ولا تخزني يومَ يبعثون } [ بالشعراء : 87 ] وذلك لظهور وجه الربط بين الشرط والجزاء ، أي من يدخل النار فقد أخزيته .
والخزي لا تطيقه الأنفس ، فلا حاجة إلى تأويل تأوّلوه على معنى فقَد أخزيته خزياً عظيماً . ونظّره صاحب « الكشاف » بقول رُعاة العرب : « من أدْرَكَ مَرْعَى الصَّمَّان فقد أدرك » أي فقد أدرك مرعى مخصباً لئلاّ يكون معنى الجزاء ضروري الحصول من الشرط فلا تظهر فائدة للتعليق بالشرط ، لأنّه يخلي الكلام عن الفائدة حينئذ . وقد تقدّم شيء من هذا عند قوله تعالى : { فمن زحزح عن النار وأُدخل الجنة فقد فاز } [ آل عمران : 185 ] .
ولأجل هذا أعقبوه بما في الطباع التفادي به عن الخزي والمذلّة بالهرع إلى أحلافهم وأنصارهم ، فعلموا أن لا نصير في الآخرة للظالم فزادوا بذلك تأكيداً للحرص على الاستعاذة من عذاب النار إذ قالوا : { وما للظالمين من أنصار } أي لأهل النار من أنصار تدفع عنهم الخزي .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته}، يعني من خلدته في النار فقد أهنته، {وما للظالمين من أنصار}، يعني وما للمشركين من مانع يمنعهم من النار.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
فقال بعضهم: معنى ذلك: ربنا إنك من تدخل النار من عبادك فتخلده فيها فقد أخزيته، قال: ولا يخزى مؤمن مصيره إلى الجنة وإن عذّب بالنار بعض العذاب...
وقال آخرون: معنى ذلك: ربنا إنك من تدخل النار من مخلد فيها وغير مخلد فيها، فقد أخزي بالعذاب... عن يحيى بن عمرو بن دينار، قال: قدم علينا جابر بن عبد الله في عمرة، فانتهيت إليه أنا وعطاء، فقلت: {رَبّنا إنّكَ مَنْ تُدْخِلِ النّارَ فَقَدْ أخْزَيْتَهُ}؟ قال: وما إخزاؤه حين أحرقه بالنار! وإن دون ذلك لخزيا.
وأولى القولين بالصواب عندي قول جابر: إن من أدخل النار فقد أخزي بدخوله إياها، وإن أخرج منها. وذلك أن الخزي إنما هو هتك ستر المخزي وفضيحته، ومن عاقبه ربه في الاَخرة على ذنوبه، فقد فضحه بعقابه إياه، وذلك هو الخزي.
وأما قوله: {وَمَا للظّالِمِينَ مِنْ أنْصَارٍ} يقول: وما لمن خالف أمر الله فعصاه من ذي نصرة له ينصره من الله فيدفع عنه عقابه أو ينقذه من عذابه.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{ربنا إنك من يدخل النار فقد أخزيته} قيل: أذللته وفضحته وأهنته. {وما للظالمين من أنصار} أي مانع يمنع عنهم العذاب ويدفع، ويحتمل الأعوان أي ليس لهم أعوان يعينونهم في الآخرة.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ} فقد أبلغت في إخزائه.
المسألة الأولى: اعلم أنهم لما سألوا ربهم أن يقيهم عذاب النار أتبعوا ذلك بما يدل على عظم ذلك العقاب وشدته وهو الخزي، ليكون موقع السؤال أعظم، لأن من سأل ربه أن يفعل شيئا أو أن لا يفعله، إذا شرح عظم ذلك المطلوب وقوته كانت داعيته في ذلك الدعاء أكمل وإخلاصه في طلبه أشد، والدعاء لا يتصل بالإجابة إلا إذا كان مقرونا بالإخلاص، فهذا تعليم من الله عباده في كيفية إيراد الدعاء.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
(ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته) أي إنهم ينظرون إلى هيبة ذلك الرب العلي العظيم الذي خلق تلك الأكوان المملوءة بالأسرار والحكم والدلائل على قدرته وعزته، فيعلمون أنه لا يمكن لأحد أن ينتصر عليه، وأن من عاداه فلا ملجأ ولا منجى له منه إلا إليه، فيقرون بأن من أدخله ناره فقد أخزاه أي أذله وأهانه. (وما للظالمين من أنصار) وصف من يدخلون النار بالظالمين تشنيعا لأعمالهم وبيانا لعلة دخولهم فيها، وهو جورهم وميلهم عن طريق الحق، فالظالم هنا هو الذي يتنكب الطريق المستقيم لا الكافر خاصة، كما قال بعض المفسرين فإن هذا التخصيص لا حاجة إليه، ولا دليل عليه، وإنما سببه ولوع الناس بإخراج أنفسهم من كل وعيد يذكر في كتابهم، وحمله بالتأويل والتحريف على غيرهم، كذلك فعل السباقون، واتبع سننهم اللاحقون، فكل ظالم يؤخذ بظلمه، ويعاقب على قدره، ولا يجد له نصيرا يحميه من أثر ذنبه.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
ويتضمن ذلك سؤال الجنة، لأنهم إذا وقاهم الله عذاب النار حصلت لهم الجنة، ولكن لما قام الخوف بقلوبهم، دعوا الله بأهم الأمور عندهم، {ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته} أي: لحصوله على السخط من الله، ومن ملائكته، وأوليائه، ووقوع الفضيحة التي لا نجاة منها، ولا منقذ منها، ولهذا قال: {وما للظالمين من أنصار} ينقذونهم من عذابه، وفيه دلالة على أنهم دخلوها بظلمهم.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ثم تتوالى الحركات النفسية، تجاه لمسات الكون وإيحاءاته.
(فقنا عذاب النار. ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته. وما للظالمين من أنصار).
فما العلاقة الوجدانية، بين إدراك ما في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار من حق، وبين هذه الارتعاشة المنطلقة بالدعاء الخائف الواجف من النار؟
إن إدراك الحق الذي في تصميم هذا الكون وفي ظواهره، معناه -عند أولي الألباب- أن هناك تقديرا وتدبيرا، وأن هناك حكمة وغاية، وأن هناك حقا وعدلا وراء حياة الناس في هذا الكوكب. ولا بد إذن من حساب ومن جزاء على ما يقدم الناس من أعمال. ولا بد إذن من دار غير هذه الدار يتحقق فيها الحق والعدل في الجزاء.
فهي سلسلة من منطق الفطرة والبداهة، تتداعى حلقاتها في حسهم على هذا النحو السريع. لذلك تقفز إلى خيالهم صورة النار، فيكون الدعاء إلى الله أن يقيهم منها، هو الخاطر الأول، المصاحب لإدراك الحق الكامن في هذا الوجود.. وهي لفتة عجيبة إلى تداعي المشاعر عند ذوي البصائر.. ثم تنطلق ألسنتهم بذلك الدعاء الطويل، الخاشع الواجف الراجف المنيب، ذي النغم العذب، والإيقاع المنساب، والحرارة البادية في المقاطع والأنغام!
ولا بد من وقفة أمام الرجفة الأولى وهم يتجهون إلى ربهم ليقيهم عذاب النار.. لا بد من وقفة أمام قولهم:
(ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته).. (وما للظالمين من أنصار)..
إنها تشي بأن خوفهم من النار، إنما هو خوف -قبل كل شيء- من الخزي الذي يصيب أهل النار. وهذه الرجفة التي تصيبهم هي أولا رجفة الحياء من الخزي الذي ينال أهل النار. فهي ارتجافة باعثها الأكبر الحياء من الله، فهم أشد حساسية به من لذع النار! كما أنها تشي بشعور القوي بأنه لا ناصر من الله، وأن الظالمين ما لهم من أنصار..
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
قوله: {ربنا ما خلقت هذا باطلاً} وما بعده جملة واقعة موقع الحال على تقدير قَوْلٍ: أي يتفكّرون قائلين: ربّنا إلخ لأنّ هذا الكلام أريد به حكاية قولهم بدليل ما بعده من الدعاء.
فإن قلت: كيف تواطأ الجمع من أولي الألباب على قول هذا التنزيه والدعاء عند التفكّر مع اختلاف تفكيرهم وتأثّرهم ومقاصدهم. قلت: يحتمل أنّهم تلقَّوه من رسول الله صلى الله عليه وسلم فكانوا يلازمونه عند التفكّر وعقبَه، ويحتمل أنّ الله ألهمهم إيّاه فصار هجيراهم مثلَ قوله تعالى: {وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا} [البقرة: 285] الآيات. ويدلّ لذلك حديث ابن عباس في « الصحيح» قال:"بتّ عند خالتي ميمونة فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فمسح النوم عن وجهه ثم قرأ العشر الآيات من سورة آل عمران" إلى آخر الحديث.
ويجوز عندي أن يكون قوله: {ربنا ما خلقت هذا باطلاً} حكاية لتفكّرهم في نفوسهم، فهو كلام النفس يشترك فيه جميع المتفكّرين لاستوائهم في صحّة التفكّر لأنّه تنقل من معنى إلى متفرّع عنه، وقد استوى أولو الألباب المتحدّث عنهم هنا في إدراك هذه المعاني، فأوّل التفكّر أنتج لهم أنّ المخلوقات لم تخلق باطلاً، ثم تفرّع عنه تنزيه الله وسؤاله أن يقيهم عذاب النار، لأنّهم رأوا في المخلوقات طائعاً وعاصياً، فعلموا أنّ وراء هذا العالم ثَواباً وعقاباً، فاستعاذوا أن يكونوا ممّن حقّت عليه كلمة العذاب. وتوسّلوا إلى ذلك بأنّهم بذَلوا غاية مقدورهم في طلب النجاة إذ استجابوا لمنادي الإيمان وهو الرسول عليه الصلاة والسلام، وسألوا غفران الذنوب، وتكفير السيئات، والموتَ على البر إلى آخره... فلا يكاد أحد من أولي الألباب يخلو من هذه التفكّرات وربّما زاد عليها، ولمّا نزلت هذه الآية وشاعت بينهم، اهتدى لهذا التفكير من لم يكن انتبه له من قبل فصار شائعاً بين المسلمين بمعانيه وألفاظه.
ومعنى {ما خلقتَ هذا باطلاً} أي خلقاً باطلاً، أو ما خلقت هذا في حال أنّه باطل، فهي حال لازمة الذكر في النفي وإن كانت فضلة في الإثبات، كقوله: {وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما لاعبين} [الدخان: 38] فالمقصود نفي عقائد من يفضي اعتقادهم إلى أنّ هذا الخلق باطل أو خلي عن الحكمة، والعرب تبني صيغة النفي على اعتبار سبق الإثبات كثيراً.
وجيء بفاء التعقيب في حكاية قولهم: {فقنا عذاب النار} لأنّه ترتّبَ على العلم بأنّ هذا الخلق حقّ، ومن جملة الحقّ أن لا يستوي الصالح والطالح، والمطيع والعاصي، فعلموا أنّ لكلّ مستقرّاً مناسباً فسألوا أن يكونوا من أهل الخير المجنّبين عذاب النار.
وقولهم: {ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته} مسوق مساق التعليل لسؤال الوقاية من النار، كما توذن به (إنّ) المستعملة لإرادة الاهتمام إذ لا مقام للتأكيد هنا. والخزي مصدر خزِيَ يَخْزَى بمعنى ذلّ وهان بمرأى من الناس، وأخزاه أذلّه على رؤوس الأشهاد، ووجه تعليل طلب الوقاية من النار بأنّ دخولها خزي بعد الإشارة إلى موجب ذلك الطلب بقولهم: {عذاب النار} أنّ النار مع ما فيها من العذاب الأليم فيها قهر للمعذَّب وإهانة علنية، وذلك معنى مستقرّ في نفوس الناس، ومنه قول إبراهيم عليه السلام: {ولا تخزني يومَ يبعثون} [بالشعراء: 87] وذلك لظهور وجه الربط بين الشرط والجزاء، أي من يدخل النار فقد أخزيته.
والخزي لا تطيقه الأنفس... ولأجل هذا أعقبوه بما في الطباع التفادي به عن الخزي والمذلّة بالهرع إلى أحلافهم وأنصارهم، فعلموا أن لا نصير في الآخرة للظالم فزادوا بذلك تأكيداً للحرص على الاستعاذة من عذاب النار إذ قالوا: {وما للظالمين من أنصار} أي لأهل النار من أنصار تدفع عنهم الخزي.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
{ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته وما للظالمين من أنصار} هذا في مقام التعليل لضراعتهم بالوقاية من النار، وهو تعظيم لأمر العقاب يوم القيامة، وفيه فوق ذلك شعور بالعدالة إذا وقع العقاب، إذ إنه يكون من ظلم المرتكب، وفيه أيضا بيان أن العقاب إن أراده الله فلا مناص منه، ولا منجاة بنصر ناصر، أو شفاعة شفيع، وأعظم ما فيه من الخزي أمام الله واهب الوجود، ومولى النعم وذي الجلال والإكرام، والخزي في أصل معناه الوقوع في بلية، وقد يطلق على الوقوع في البلايا المعنوية بان يكون قد ارتكب أمرا يتعير به أمام الناس ولا مناص لرد اعتباره، وقوله تعالى: {فقد أخزيته} يتضمن هذه المعاني، فقد أوقعهم سبحانه في بلية لا يستطيعون التخلص منها، وهم في عار معنوي لنهم نالوا سخط الله تعالى، وذلك بظلمهم، وقد أكدوا استحقاق المجرمين، وعدم خلاصهم منه بقولهم {وما للظالمين من أنصار} أي ان المذنبين ظالمون فهم معقبون بحق ولا ناصر لهم، و (من) دالة على استغراق النفي، أي لا ناصر لهم أيا كان، وفي ذلك إشارة إلى انفراد الله تعالى بالسلطان.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
ولهذا لا يمكن أن يكون للظالمين أي أنصار، لأنّهم فقدوا النصير الأصلي وهو العمل الصالح، والتركيز على لفظة «الظلم» إمّا لأجل خطورة هذه المعصية من بين المعاصي الأخرى، وإمّا لأن جميع الذنوب ترجع إلى ظلم الإِنسان لنفسه.