في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَيَوۡمَ نَحۡشُرُهُمۡ جَمِيعٗا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشۡرَكُوٓاْ أَيۡنَ شُرَكَآؤُكُمُ ٱلَّذِينَ كُنتُمۡ تَزۡعُمُونَ} (22)

20

وهنا يصور من عدم فلاحهم موقفهم يوم الحشر والحساب ، في هذا المشهد الحي الشاخص الموحي :

( ويوم نحشرهم جميعا ، ثم نقول للذين أشركوا : أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون ؟ ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا : والله ربنا ما كنا مشركين . انظر كيف كذبوا على أنفسهم ، وضل عنهم ما كانوا يفترون ) . .

إن الشرك ألوان ، والشركاء ألوان ، والمشركين ألوان . . وليست الصورة الساذجة التي تتراءى للناس اليوم حين يسمعون كلمة الشرك وكلمة الشركاء وكلمة المشركين : من أن هناك ناسا كانوا يعبدون أصناما أو أحجارا ، أو أشجارا ، أو نجوما ، أو نارا . . الخ . . هي الصورة الوحيدة للشرك !

إن الشرك في صميمه هو الاعتراف لغير الله - سبحانه - بإحدى خصائص الألوهية . . سواء كانت هي الاعتقاد بتسيير إرادته للأحداث ومقادير الكائنات . أو كانت هي التقدم لغير الله بالشعائر التعبدية والنذور وما إليها . أو كانت هي تلقي الشرائع من غير الله لتنظيم أوضاع الحياة . . كلها ألوان من الشرك ، يزاولها ألوان من المشركين ، يتخذون ألوانا من الشركاء !

والقرآن الكريم يعبر عن هذا كله بالشرك ؛ ويعرض مشاهد يوم القيامة تمثل هذه الألوان من الشرك والمشركين والشركاء ؛ ولا يقتصر على لون منها ، ولا يقصر وصف الشرك على واحد منها ؛ ولا يفرق في المصير والجزاء بين ألوان المشركين في الدنيا وفي الآخرة سواء . .

ولقد كان العرب يزاولون هذه الألوان من الشرك جميعا :

كانوا يعتقدون أن هناك كائنات من خلق الله ، لها مشاركة - عن طريق الشفاعة الملزمة عندالله - في تسيير الأحداث والأقدار . كالملائكة . أو عن طريق قدرتها على الأذى - كالجن بذواتهم أو باستخدام الكهان والسحرة لهم - أو عن طريق هذه وتلك - كأرواح الآباء والأجداد - وكل أولئك كانوا يرمزون له بالأصنام التي تعمرها أرواح هذه الكائنات ؛ ويستنطقها الكهان ؛ فتحل لهم ما تحل ، وتحرم عليهم ما تحرم . . وإنما هم الكهان في الحقيقة . . هم الشركاء !

وكانوا يزاولون الشرك في تقديم الشعائر لهذه الأصنام ؛ وتقديم القربان لها والنذور - وفي الحقيقة للكهان - كما أن بعضهم - نقلا عن الفرس - كانوا يعتقدون في الكواكب ومشاركتها في تسيير الأحداث - عن طريق المشاركة لله - ويتقدمون لها كذلك بالشعائر [ ومن هنا علاقة الحلقة المذكورة في هذه السورة من قصة إبراهيم عليه السلام بموضوع السورة كما سيأتي ] .

وكذلك كانوا يزاولون اللون الثالث من الشرك بإقامتهم لأنفسهم - عن طريق الكهان والشيوخ - شرائع وقيما وتقاليد ، لم يأذن بها الله . . وكانوا يدعون ما يدعيه بعض الناس اليوم من أن هذا هو شريعة الله ! وفي هذا المشهد - مشهد الحشر والمواجهة - يواجه المشركين - كل أنواع المشركين بكل ألوان الشرك - بسؤالهم عن الشركاء - كل أصناف الشركاء - أين هم ؟ فإنه لا يبدو لهم أثر ؛ ولا يكفون عن أتباعهم الهول والعذاب :

( ويوم نحشرهم جميعا ، ثم نقول للذين أشركوا : أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون ؟ ) . .

والمشهد شاخص ، والحشر واقع ، والمشركون مسؤولون ذلك السؤال العظيم . . الأليم : ( أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون ؟ ) . .

وهنا يفعل الهول فعله . . هنا تتعرى الفطرة من الركام الذي ران عليها في الدنيا . . هنا ينعدم من الفطرة ومن الذاكرة - كما هو منعدم في الواقع والحقيقة - وجود الشركاء ؛ فيشعرون أنه لم يكن شرك ، ولم يكن شركاء . . لم يكن لهذا كله من وجود لا في حقيقة ولا واقع . .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَيَوۡمَ نَحۡشُرُهُمۡ جَمِيعٗا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشۡرَكُوٓاْ أَيۡنَ شُرَكَآؤُكُمُ ٱلَّذِينَ كُنتُمۡ تَزۡعُمُونَ} (22)

{ ويوم نحشرهم جميعا } منصوب بمضمر تهويلا للأمر . { ثم نقول للذين أشركوا أين شركاؤكم } أي آلهتكم التي جعلتموها شركاء ، لله وقرأ يعقوب " يحشرهم " ويقول بالياء . { الذين كنتم تزعمون } أي تزعمونهم شركاء ، فحذف المفعولان والمراد من الاستفهام التوبيخ ، ولعله يحال بينهم وبين آلهتهم حينئذ ليفقدوها في الساعة التي علقوا بها الرجاء فيها ، ويحتمل أن يشاهدوهم ولكن لما لم ينفعوهم فكأنهم غيب عنهم .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَيَوۡمَ نَحۡشُرُهُمۡ جَمِيعٗا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشۡرَكُوٓاْ أَيۡنَ شُرَكَآؤُكُمُ ٱلَّذِينَ كُنتُمۡ تَزۡعُمُونَ} (22)

قالت فرقة : { لا يفلح الظالمون } [ الأنعام : 21 ] كلام تام معناه لا يفلحون جملة ، ثم استأنف فقال : واذكر يوم نحشرهم ، وقال الطبري المعنى لا يفلح الظالمون اليوم في الدنيا { ويوم نحشرهم } عطفاً على الظرف المقدر والكلام متصل ، وقرأت طائفة «نحشرهم » و «نقول » بالنون ، وقرأ حميد ويعقوب فيهما بالياء ، وقرأ عاصم هنا وفي يونس قبل الثلاثين{[4862]} «نحشرهم ونقول » بالنون ، وقرأ في باقي القرآن بالياء ، وقرأ أبو هريرة «نحشِرهم » بكسر الشين فيجيء الفعل على هذا حشر يحشر ويحشر ، واضاف الشركاء إليهم لأنه لا شركة لهم في الحقيقة بين الأصنام وبين شيء ، وإنما وقع عليها اسم الشريك بمجرد تسمية الكفرة فأضيفت إليهم لهذه النسبة و { تزعمون } معناه تدعون أنهم لله ، والزعم القول الأميل إلى الباطل والكذب في أكثر كلامهم ، وقد يقال زعم بمعنى ذكر دون ميل إلى الكذب ، وعلى هذا الحد يقول سيبويه زعم الخليل ، ولكن ذلك إنما يستعمل في الشيء الغريب الذي تبقى عهدته على قائله .


[4862]:- أي في الآية (28) من سورة (يونس) وهي قوله تعالى: {ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا مكانكم أنتم وشركاؤكم فزيلنا بينهم وقال شركاؤهم ما كنتم إيانا تعبدون}.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَيَوۡمَ نَحۡشُرُهُمۡ جَمِيعٗا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشۡرَكُوٓاْ أَيۡنَ شُرَكَآؤُكُمُ ٱلَّذِينَ كُنتُمۡ تَزۡعُمُونَ} (22)

عطف على جملة : { ومن أظلم ممّن افترى على الله كذباً } [ الأنعام : 21 ] ، أو على جملة { إنّه لا يفلح الظالمون } [ الأنعام : 21 ] ، فإنّ مضمون هذه الجمل المعطوفة له مناسبة بمضمون جملة { ومن أظلم } ومضمون جملة { إنّه لا يفلح الظالمون } ، لأنّ مضمون هذه من آثار الظلم وآثار عدم الفلاح ، ولأنّ مضمون الآية جامع للتهديد على الشرك والتكذيب ولإثبات الحشر ولإبطال الشرك .

وانتصب { يومَ } على الظرفية ، وعامله محذوف ، والأظهر أنّه يقدّر ممَّا تدلّ عليه المعطوفات وهي : نقول ، أو قالوا ، أو كذّبوا ، أو ضلّ ، وكلّها صالحة للدلالة على تقدير المحذوف ، وليست تلك الأفعال متعلّقاً بها الظرف بل هي دلالة على المتعلّق المحذوف ، لأنّ المقصود تهويل ما يحصل لهم يوم الحشر من الفتنة والاضطراب الناشئين عن قول الله تعالى لهم : { أين شركاؤكم } ، وتصوير تلك الحالة المهولة .

وقدّر في « الكشاف » الجواب ممَّا دلّ عليه مجموع الحكاية . وتقديره : كان ما كان ، وأنَّ حذفه مقصود به الإبهام الذي هو داخل في التخويف . وقد سلك في هذا ما اعتاده أئمَّة البلاغة في تقدير المحذوفات من الأجوبة والمتعلّقات . والأحسن عندي أنّه إنَّما يصار إلى ذلك عند عدم الدليل في الكلام على تعيين المحذوف وإلاّ فقد يكون التخويف والتهويل بالتفصيل أشدّ منه بالإبهام إذا كان كلّ جزء من التفصيل حاصلاً به تخويف . وقدّر بعض المفسّرين : اذكر يوم نحشرهم . ولا نكتة فيه . وهنالك تقديرات أخرى لبعضهم لا ينبغي أن يعرّج عليها .

والضمير المنصوب في { نحشرهم } يعود إلى { من افترى على الله كذباً } [ الأنعام : 21 ] أو إلى { الظالمون } [ الأنعام : 21 ] إذ المقصود بذلك المشركون ، فيؤذن بمشركين ومشرَك بهم . وللتنبيه على أنّ الضمير عائد إلى المشركين وأصنامهم جيء بقوله : { جميعاً } ليدلَّ على قصد الشمول ، فإنَّ شمول الضمير لجميع المشركين لا يتردّد فيه السامع حتى يحتاج إلى تأكيده باسم الإحاطة والشمول ، فتعيّن أنّ ذكر { جميعاً } قصد منه التنبيه . على أنّ الضمير عائد إلى المشركين وأصنامهم ، فيكون نظير قوله : { ويوم نحشرهم جميعاً ثم نقول للذين أشركوا مكانكم أنتم وشركاؤكم } [ يونس : 28 ] وقوله : { ويوم نحشرهم وما يعبدون من دون الله } [ الفرقان : 17 ] وانتصب { جميعاً } هنا على الحال من الضمير .

والمقصود من حشر أصنامهم معهم أن تظهر مذلّة الأصنام وعدم جدواها كما يحشر الغالب أسرى قبيلة ومعهم من كانوا ينتصرون به ، لأنّهم لو كانوا غائبين لظنّوا أنّهم لو حصروا لشفعوا ، أو أنّهم شغلوا عنهم بما هم فيه من الجلالة والنعيم ، فإنّ الأسرى كانوا قد يأملون حضور شفائعهم أو من يفاديهم . قال النابغة :

يأملْن رحلة نصر وابن سيّار

وعطف { نقولُ } بِ { ثم } لأنّ القول متأخّر عن زمن حشرهم بمهلة لأنّ حصّة انتظار المجرم ما سيحلّ به أشدّ عليه ، ولأنّ في إهمال الاشتغال بهم تحقيراً لهم .

وتفيد { ثم } مع ذلك الترتيب الرتبي .

وصرّح بِ { الذين أشركوا } لأنّهم بعض ما شمله الضمير ، أي ثم نقول للذين أشركوا من بين ذلك الجمع .

وأصل السؤال ب { أين } أنَّه استفهام عن المكان الذي يحلّ فيه المسند إليه ، نحو : أين بيتك ، وأين تذهبون . وقد يسأل بها عن الشيء الذي لا مكان له ، فيراد الاستفهام عن سبب عدمه ، كقول أبي سعيد الخدري لمروان بن الحكم حين خرج يوم العيد فقصد المنبر قبل الصلاة { أين تقديم الصلاة } . وقد يسأل ب { أين } عن عمل أحد كان مرجوّاً منه ، فإذا حضر وقته ولم يحصل منه يسأل عنه بِ { أين } ، كأنّ السائل يبحث عن مكانه تنزيلاً له منزلة الغائب المجهول مكانه ؛ فالسؤال ب { أين } هنا عن الشركاء المزعومين وهم حاضرون كما دلّت عليه آيات أخرى . قال تعالى : { احشروا الذين ظلموا وأزواجهم وما كانوا يعبدون من دون الله } [ الصافات : 22 ] .

والاستفهام توبيخي عمّا كان المشركون يزعمونه من أنّها تشفع لهم عند الله ، أو أنّها تنصرهم عند الحاجة ، فلمّا رأوها لا غناء لها قيل لهم : أين شركاؤكم ، أي أين عملهم فكأنّهم غُيّب عنهم .

وأضيف الشركاء إلى ضمير المخاطبين إضافة اختصاص لأنّهم الذين زعموا لهم الشركة مع الله في الإلهية فلم يكونوا شركاء إلاّ في اعتقاد المشركين ، فلذلك قيل { شركاؤكم } . وهذا كقول أحد أبطال العرب لعَمرو بن معد يكرب لمّا حدّث عمرو في جمع أنّه قتله ، وكان هو حاضراً في ذلك الجمع ، فقال له : « مَهْلاً أبا ثور قتيلك يسمع » ، أي المزعوم أنّه قتيلك .

ووصفوا ب { الذين كنتم تزعمون } تكذيباً لهم ؛ وحذف المفعول الثاني ل { تزعمون } ليعمّ كلّ ما كانوا يزعمونه لهم من الإلهية والنصر والشفاعة ؛ أمّا المفعول الأول فحذف على طريقة حذف عائد الصلة المنصوب .

والزعم : ظنّ يميل إلى الكذب أو الخطأ أو لغرابته يتّهم صاحبه ، فيقال : زعم ، بمعنى أنّ عهدة الخبر عليه لا على الناقل ، وتقدّم عند قوله تعالى : { ألم تر إلى الذين يزعمون } الآية في سورة [ النساء : 60 ] . وتأتي زيادة بيان لمعنى الزعم عند قوله تعالى : { زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا } في سورة [ التغابن : 7 ] .