في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{قَالَتۡ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي وَلَدٞ وَلَمۡ يَمۡسَسۡنِي بَشَرٞۖ قَالَ كَذَٰلِكِ ٱللَّهُ يَخۡلُقُ مَا يَشَآءُۚ إِذَا قَضَىٰٓ أَمۡرٗا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُۥ كُن فَيَكُونُ} (47)

33

فأما مريم الفتاة الطاهرة العذراء المقيدة بمألوف البشر في الحياة ، فقد تلقت البشارة كما يمكن أن تتلقاها فتاة . واتجهت إلى ربها تناجيه وتتطلع إلى كشف هذا اللغز الذي يحير عقل الإنسان :

( قالت : رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر ؟ ) . .

وجاءها الجواب ، يردها إلى الحقيقة البسيطة التي يغفل عنها البشر لطول الفتهم للأسباب والمسببات الظاهرة لعلمهم القليل ، ومألوفهم المحدود :

( قال : كذلك الله يخلق ما يشاء . إذا قضى أمرا فإنما يقول له : كن فيكون ) . .

وحين يرد الأمر إلى هذه الحقيقة الأولية يذهب العجب ، وتزول الحيرة ، ويطمئن القلب ؛ ويعود الإنسان على نفسه يسألها في عجب : كيف عجبت من هذا الأمر الفطري الواضح القريب ! !

وهكذا كان القرآن ينشىء التصور الإسلامي لهذه الحقائق الكبيرة بمثل هذا اليسر الفطري القريب . وهكذا كان يجلو الشبهات التي تعقدها الفلسفات المعقدة ، ويقر الأمر في القلوب وفي العقول سواء . .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{قَالَتۡ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي وَلَدٞ وَلَمۡ يَمۡسَسۡنِي بَشَرٞۖ قَالَ كَذَٰلِكِ ٱللَّهُ يَخۡلُقُ مَا يَشَآءُۚ إِذَا قَضَىٰٓ أَمۡرٗا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُۥ كُن فَيَكُونُ} (47)

{ قالت رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر } تعجب ، أو استبعاد عادي ، أو استفهام عن أنه يكون بتزوج أو غيره . { قال كذلك الله يخلق ما يشاء } القائل جبريل ، أو الله تعالى وجبريل حكى لها قول الله تعالى . { إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون } إشارة إلى أنه تعالى كما يقدر أن يخلق الأشياء مدرجا بأسباب ومواد يقدر أن يخلقها دفعة من غير ذلك .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{قَالَتۡ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي وَلَدٞ وَلَمۡ يَمۡسَسۡنِي بَشَرٞۖ قَالَ كَذَٰلِكِ ٱللَّهُ يَخۡلُقُ مَا يَشَآءُۚ إِذَا قَضَىٰٓ أَمۡرٗا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُۥ كُن فَيَكُونُ} (47)

وقول مريم : { ربِّ أنّى يكون لي ولد } استفهام عن جهة حملها واستغراب للحمل على حال بكارتها ، و{ يمسسني } ، معناه يطأ ويجامع ، والمسيس الجماع ، ومريم لم تنف مسيس الأيدي ، والإشارة بقوله : { كذلك } يحتمل أن تكون إلى هذه القدرة التي تتضمنها البشارة بالكلمة ، ويحتمل أن تكون إلى حال مريم وبكارتها ، وقد تقدم شرح هذين التأويلين في أمر زكرياء عليه السلام ، وجاءت العبارة في أمر زكريا يفعل وجاءت هنا ، { يخلق } من حيث أمر زكرياء داخل في الإمكان الذي يتعارف وإن قل وقصة مريم لا تتعارف البتة ، فلفظ الخلق أقرب إلى الاختراع وأدل عليه ، وروي أن عيسى عليه السلام ، ولد لثمانية أشهر فلذلك لا يعيش من يولد من غيره لمثل ذلك ، وقوله تعالى : { إذا قضى } معناه إذا أراد إيجاده ، والأمر واحد الأمور وهو مصدر سمي به ، والضمير في { له } عائد على الأمر والقول على جهة المخاطبة ، قال مكي : وقيل المعنى يقول لأجله ، وهذا ينحو إلى ما نورده عن أبي علي بعد ، وقرأ جمهور السبعة «فيكونُ » بالرفع ، وقرأ ابن عامر وحده «فيكونَ » بالنصب ، فوجه الرفع العطف على { يقول } ، أو تقدير فهو يكون ، وأما قراءة ابن عامر فغير متجهة لأن الأمر المتقدم خطاب للمقضي وقوله : { فيكون } ، خطاب للمخبر ، فليس كقوله قم فأحسن إليك ، لكن وجهها أنه راعى الشبه اللفظي في أن تقدم في الكلام لفظ أمر كما قال أبو الحسن الأخفش في نحو قوله تعالى :

{ قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة }{[3177]} إنه مجرى جواب الأمر ، وإن لم يكن جواباً في الحقيقة ، فكذلك على قراءة ابن عامر يكون قوله ، فيكون بمنزلة جواب الأمر وإن لم يكن جواباً ، وذهب أبو علي في هذه المسألة إلى أن القول فيها ليس بالمخاطبة المحضة ، وإنما هو قول مجازي كما قال :

امتلأ الحوض وقال قطني{[3178]} *** . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وغير ذلك ، قال : لأن المنتفي ليس بكائن فلا يخاطب كما لا يؤمر ، وإنما المعنى فإنما يكونه فهو يكون ، فهذه نزعة اعتزالية{[3179]} غفر الله له .


[3177]:- من الآية (31) من سورة إبراهيم.
[3178]:- هذا صدر بيت من الرجز، وعجزه: ......................... مهلا رويدا قد ملأت بطني. وهو من كلام بعض الماتحين، رأى حوضه قد امتلأ، فقال: حسبي-امتلأ حوضي، ويكفيني، يريد بذلك أن ينصرف إلى دلو غيره، وهذا مما يسمى عندهم بلسان الحال، فإن الحوض لا يتكلم. وقطني بمعنى: حسبي-والبيت في اللسان ولم ينسبه لأحد.
[3179]:- لأن المعتزلة يقولون: المعدوم منتف فلا يخاطب ولا يؤمر، والأمر عندهم هو عين الإرادة.