ويعقب على هذه الدعوة وهذا الحكم باستجاشة قلوب الذين آمنوا واستحياء الرابطة الوثيقة بينهم ، والتي جمعتهم بعد تفرق ، وألفت بينهم بعد خصام ؛ وتذكيرهم بتقوى الله ، والتلويح لهم برحمته التي تنال بتقواه :
( إنما المؤمنون إخوة ، فأصلحوا بين أخويكم ، واتقوا الله لعلكم ترحمون ) . .
ومما يترتب على هذه الأخوة أن يكون الحب والسلام والتعاون والوحدة هي الأصل في الجماعة المسلمة ، وأن يكون الخلاف أو القتال هو الاستثناء الذي يجب أن يرد إلى الأصل فور وقوعه ؛ وأن يستباح في سبيل تقريره قتال المؤمنين الآخرين للبغاة من إخوانهم ليردوهم إلى الصف ، وليزيلوا هذا الخروج على الأصل والقاعدة . وهو إجراء صارم وحازم كذلك .
ومن مقتضيات هذه القاعدة كذلك ألا يجهز على جريح في معارك التحكيم هذه ، وألا يقتل أسير ، وألا يتعقب مدبر ترك المعركة ، وألقى السلاح ، ولا تؤخذ أموال البغاة غنيمة . لأن الغرض من قتالهم ليس هو القضاء عليهم ، وإنما هو ردهم إلى الصف ، وضمهم إلى لواء الأخوة الإسلامية .
والأصل في نظام الأمة المسلمة أن يكون للمسلمين في أنحاء الأرض إمامة واحدة ، وأنه إذا بويع لإمام ، وجب قتل الثاني ، واعتباره ومن معه فئة باغية يقاتلها المؤمنون مع الإمام . وعلى هذا الأصل قام الإمام علي - رضي الله عنه - بقتال البغاة في وقعة الجمل وفي وقعة صفين ؛ وقام معه بقتالهم أجلاء الصحابة رضوان الله عليهم . وقد تخلف بعضهم عن المعركة منهم سعد ومحمد بن مسلمة وأسامة بن زيد وابن عمر - رضي الله عنهم - إما لأنهم لم يتبينوا وجه الحق في الموقف في حينه فاعتبروها فتنة . وإما لأنهم كما يقول الإمام الجصاص : " ربما رأوا الإمام مكتفيا بمن معه مستغنيا عنهم بأصحابه فاستجازوا القعود عنه لذلك " . . والاحتمال الأول أرجح ، تدل عليه بعض أقوالهم المروية . كما يدل عليه ما روي عن ابن عمر - رضي الله عنه - في ندمه فيما بعد على أنه لم يقاتل مع الإمام .
ومع قيام هذا الأصل فإن النص القرآني يمكن إعماله في جميع الحالات - بما في ذلك الحالات الاستثنائية التي يقوم فيها إمامان أو أكثر في أقطار متفرقة متباعدة من بلاد المسلمين ، وهي حالة ضرورة واستثناء من القاعدة - فواجب المسلمين أن يحاربوا البغاة مع الإمام الواحد ، إذا خرج هؤلاء البغاة عليه . أو إذا بغت طائفة على طائفة في إمامته دون خروج عليه . وواجب المسلمين كذلك أن يقاتلوا البغاة إذا تمثلوا في إحدى الإمامات المتعددة في حالات التعدد الاستثنائية ، بتجمعهم ضد الفئة الباغية حتى تفيء إلى أمر الله . وهكذا يعمل النص القرآني في جميع الظروف والأحوال .
وواضح أن هذا النظام ، نظام التحكيم وقتال الفئة الباغية حتى تفيء إلى أمر الله ، نظام له السبق من حيث الزمن على كل محاولات البشرية في هذا الطريق . وله الكمال والبراءة من العيب والنقص الواضحين في كل محاولات البشرية البائسة القاصرة التي حاولتها في كل تجاربها الكسيحة ! وله بعد هذا وذاك صفة النظافة والأمانة والعدل المطلق ، لأن الاحتكام فيه إلى أمر الله الذي لا يشوبه غرض ولا هوى ، ولا يتعلق به نقص أو قصور . . ولكن البشرية البائسة تطلع وتعرج ، وتكبو وتتعثر . وأمامها الطريق الواضح الممهد المستقيم !
{ إنما المؤمنون إخوة } من حيث إنهم منتسبون إلى أصل واحد وهو الإيمان الموجب للحياة الأبدية ، وهو تعليل وتقرير للأمر بالإصلاح ولذلك كرره مرتبا عليه بالفاء فقال : { فأصلحوا بين أخويكم } ووضع الظاهر موضع الضمير مضافا إلى المأمورين للمبالغة في التقرير والتخصيص ، وخص الاثنين بالذكر لأنهما أقل من يقع بينهم الشقاق . وقيل المراد بالأخوين الأوس والخزرج . وقرئ " بين إخوتكم " و " إخوانكم " . { واتقوا الله } في مخالفة حكمه والإهمال فيه . { لعلكم ترحمون } على تقواكم .
وقوله تعالى : { إنما المؤمنون إخوة } يريد إخوة الدين . وقرأ الجمهور من القراء : «بين أخويكم » وذلك رعاية لحال أقل عدد يقع فيه القتال والتشاجر والجماعة متى فصل الإصلاح فإنما هو بين رجلين رجلين . وقرأ ابن عامر والحسن بخلاف عنه : «بين إخوتكم » .
وقرأ ابن سيرين وزيد بن ثابت وابن مسعود والحسن وعاصم الجحدري وحماد بن سلمة : «بين إخوانكم » . وهي حسنة . لأن الأكثر من جمع الأخ في الدين ونحوه من النسب إخوان . والأكثر في جمعه من النسب إخوة وإخاء . قال الشاعر : [ الطويل ]
وجدتم أخاكم دوننا إذ نسيتم . . . وأي بني الإخاء تنبو مناسبه ؟{[10462]}
وقد تتداخل هذه الجموع في كتاب الله . فمنه : { إنما المؤمنون إخوة }ومنه { أو بيوت إخوانكم }{[10463]} فهذا جاء على الأقل من الاستعمال .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.