اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{إِنَّمَا ٱلۡمُؤۡمِنُونَ إِخۡوَةٞ فَأَصۡلِحُواْ بَيۡنَ أَخَوَيۡكُمۡۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمۡ تُرۡحَمُونَ} (10)

قوله : { إِنَّمَا المؤمنون إِخْوَةٌ } أي في الدين ، والولاية . وقال بعض أهل اللغة : الإخوة جمع الأَخ ، من النَّسب والإخْوَانُ جمع الأخ من الصَّداقة ، والله تعالى قال : { إِنَّمَا المؤمنون إِخْوَةٌ } تأكيداً للأمْر وإشارة إلى أن ما بين الإخوة من الإسلام والنسب لهم كالأب . قال قائلهم ( رحمةُ الله عليه ){[52066]} :

4502 أَبي الإسْلاَمُ لاَ أَبَ لِي سِوَاهُ *** إذَا افْتَخَرُوا بِقَيْسٍ أَو تَمِيمِ{[52067]}

قوله : «بَيْنَ أَخَويكُمْ » العامة على التثنية . وزيد بن ثابت وعبدُ الله وحمَّادُ بنُ سلمة وابنُ سيرين : إخْوَانِكُمْ جمعاً على فِعْلاَن{[52068]} . وقد تقدم أن الإخْوان تغلب في الصداقة والإخوة في النسب ، وقد تعكس كهذه الآية . وروي عن أبي عمرو وجماعة : إخْوَتِكُمْ بالتاء من فَوْقِ{[52069]} . وقد رُوِيَ عن ابن عمرو أيضاً القراءات الثَلاَثُ{[52070]} .

فصل

المعنى : فاتقوا الله ولا تَعْصُوا ولا تُخَالفوا أمره «لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ » قال عليه الصلاة والسلام «المُسْلِمُ أَخُوا الْمُسْلِم لاَ يَظْلِمُهُ وَلاَ يَشْتُمُه مَنْ كَانَ فِي حَاجَة أَخِيهِ كَانَ اللهُ فِي حَاجَتِهِ ، وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً فَرَّجَ اللهُ عَنْهُ بَها كُرْبَةً مِنْ كُرَب يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِماً سَتَرَهُ اللهُ يَوْمَ القِيَامَةِ »{[52071]} .

فإن قيل : عند إصلاح الفريقين والطائفتين لم يقل : اتَّقُوا وقال هَهُنَا اتَّقوا مع أنَّ ذلك أهم ؟

فالجواب : أنّ الاقتتال بين طائفتين يُفضي إلى أنْ تَعُمَّ المفسدة ويلحق كل من مؤمن منها شيء وكل يسعى في الإصلاح لأمر نفسه فلم يؤكد بالأمر بالتقوى وأما عند تخاصم رَجُلَيْن لا يخاف الناس ذلك وربما يريد بعضهم تأكيد الخِصَام بين الخصوم لغرض فاسد ، فقال : { فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله } أو يقال : قوله : وأصْلِحُوا إشارة الإصلاح ، وقوله : «وَاتَّقُوا اللهَ » إشارة ما يصيبهم عن المُشَاجَرَة ، وإيذاء قلب الأخ ؛ لأن من اتقى الله شغله تقواه عن الاشتغال بغيره ، قال عليه الصلاة والسلام : «الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهٍ » فالمسلم يكون مقبلاً على عبادة الله مشتغلاً بعَيْبِه عن عيوب الناس{[52072]} .

فصل

في هاتين الآيتين دليل على أن البغي لا يزيل اسم الإيمان ، لأن الله تعالى سماهم إخوةً مؤمنين مع كونهم باغين ، ويدل عليه ما روى الحارثُ الأعور أن عليَّ بْنَ أبي طالب سُئِلَ وهو القدوةُ في قتال أهل البغي عن أهل الجمل وصِفِّين أمشركون هُمْ ؟ فقال : لا ؛ من الشرك فروا فقيل : أمُنَافِقُونَ ؟ فقال : ( لا ){[52073]} إن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلاً .

قيل : فما حالهم ؟ قال : إخواننا بَغَوْا علينا والباغِي في الشرع هو الخارج على إمام العدل ، فإذا اجتمعت طائفةٌ لهم قوة وَمَنَعَةٌ فامتنعوا عن طاعة إمام العدل بتأويل محتمل ونصِّبُوا إماماً بالحكم فيهم أن يبعث الإمام إليهم ويدعوهم إلى طاعته فإن أظهروا مظلمةً أزالها عنهم وإن لم يذكروا مظلمةً وأصروا على بغيهم قاتلهم الإمام حتى يَفِيئُوا إلى طاعته{[52074]} . وحكم قتالهم مذكور في كتب الفقه{[52075]} .

فصل

«إنَّمَا » للحصر أي الأخوة الآتين من المؤمنين{[52076]} . فلا أُخُوَّةَ بين المؤمن والكافر ولهذا إذَا مات المسلم وله أخ كافر يكون مالُه للمسلمين ، ولا يكون لأخيه الكافر ، وكذلك الكافر ، لأن في النسب المعتبر الأب الشرعي حتى إنَّ وَلَدَي الزّنا من ولدِ رجلٍ واحد لا يتوارثان ، فكذلك الكفر لأن الجَامع الفاسد لا يفيد الأخُوّة ولهذا من مات من الكفار وله أخٌ مسلم ولا وارثَ له من النسب لا يجعل ماله للكفار ، ولو كان الدّين يجمعهم يرثه الكفار وما المسلم للمسلمين عند عدم الوارث .

فإن قيل : إذا ثبت أن أُخوَة الإسْلاَم أقوى منْ أُخُوّة النسب بدليل أنَّ المسلم يَرِثُه المسلمون إذا لم يكن له أخوة نسبيّة ولا يرث الأَخُ الكافر من النسب فِلمَ لا يقدمون الأخوة الإسلامية على الأخوة النَّسَبِيَّة مطلقاً حتى يكون مال المسلم للمسلمين لا لأخوة النسب ؟

فالجواب : أن الأخ المسلم إذا كان أخاً من النسب فقد اجتمع فيه أُخُوَّتان فصار أَقْوَى{[52077]} .

فصل

قال النحاة ههنا : إنَّ «مَا » كافَّة تكف إنَّ عن العمل ، ولولا ذلك لقيل : إنَّمَا الْمُؤْمِنِينَ إخوَةٌ وفي قوله تعالى : { فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ الله لِنتَ لَهُمْ } [ آل عمران : 159 ] وقوله : { عَمَّا قَلِيلٍ } [ المؤمنين : 40 ] ليست كافة . قال ابن الخطيب والسؤال الأقوى : هو أن رُبَّ من حروف الجر و«الباء » و«عن » كذلك . و«ما » في «رُبَّ » كافّة ، في «عما » و«بما » ليست كافة . والتحقيق فيه هو أن الكلام بعد «رُبَّمَا » و «إِنَّما » يكون تاماً ويمكن جعله مستقلاً ، ولو حذفت «ربّما وإنَّما » لم يضرَّ تقول : ربَّمَا قَامَ الأَمِيرُ ، ورُبَّمَا زَيْدٌ في الدَّارِ . ولو حذفت «رُبَّمَا » وقلت : زَيْدٌ فِي الدَّار وقام الأمير لصحَّ ، وكذلك في «إنَّما » و«لَكِنَّما » وأما «عَمَّا » و«بما » فليس كذلك ، لأن قوله تعالى : { فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ الله لِنتَ لَهُمْ } [ آل عمران : 159 ] لو حذفت «بما » وقلت : رَحْمةٌ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ ، لما كان كلاماً ، فالباء تُعَدّ متعلقة{[52078]} بما يحتاج إليها فهي باقية حقيقه وكذلك «عَمَّا » ، وأما «رٌبَّمَا » لما استغنى عنها ، فكأنها لم تبق حكماً ، ولا عَمَلَ للمعدوم .

فإن قيل : إنَّ «إذَا » لم تُكَفَّ بِمَا فما بعده كلام تام فوجب أن لا يكون له عمل . تقول : إنَّ زَيْداً قَائِمٌ ولو قلت : زيدٌ قائمٌ لَكَفَى وَتمَّ !

نقول : ليس كذلك لأن ما بعد إنَّ يجوز أَنْ يكون نكرة تقول : إنَّ رَجُلاً جَاءَنِي وأَخْبَرَنِي بكذا . وتقول جَاءَنِي رَجٌلٌ وأَخْبَرَنِي . ولا يحسن : إنَّما رَجٌلٌ جَاءني كما لو لم يكن هناك إنما . وكذلك القول في لَيْتَمَا لو حذفتهما واقتصرْت على ما بعدهما لا يكون تاماً فلم يكف . وتقدم الكلام في «لعلّ » مِرَاراً{[52079]} .


[52066]:زيادة من أ.
[52067]:من بحر الطويل وهو لنهار بن توسعة. وأنشده المؤلف حملا على ما أنشده الرازي من أن الإسلام هو السيد، وهو كل شيء. وانظر البيت في الكتاب 2/282 والهمع 1/145 وشرح مفصل الزمخشري لابن يعيش 2/104 والرازي 28/129 وفيه الشاهد النحوي المشهور في لا النافية للجنس وهو ما نحن لسنا بصدده.
[52068]:ذكر هذه القراءة صاحب الإتحاف 397 وما ذكره المؤلف أعلى موافق لما في البحر 8/112. وهي شاذة. وقد ذكر القرطبي في الجامع 16/323 أن ابن سيرين قرأ: إخوتكم القراءة الآتية.
[52069]:أورد أبو حيان في البحر وابن مجاهد في السبعة 606 أنها لابن عامر وحده بينما قال أبو حيان: والحسن أيضا وابن عامر في رواية وزيد بن علي ويعقوب.
[52070]:البحر المحيط 8/112.
[52071]:أخرجه البغوي في معالم التنزيل 6/225، عن سالم عن أبيه.
[52072]:الرازي 28/129، 130.
[52073]:سقط من ب حرف "لا".
[52074]:انظر البغوي 6/225.
[52075]:فهو لا يتبع مدبرهم ولا يقتل أسيرهم ولا يذفف على جريحهم. وانظر المرجع السابق. وفيه كلام آخر.
[52076]:أي لا أخوة إلا بين المؤمنين هكذا ذكر الرازي.
[52077]:المرجع السابق.
[52078]:في تفسير الرازي: يعد متعلقها انظر الرازي 28/130. وانظر المغني 137.
[52079]:تتصل بلعل "ما" الحرفية فتكفها عن العمل لزوال اختصاصها حينئذ بدليل قوله: ...................لعلما *** أضاءت لك النار الحمار المقيدا وجوز قوم إعمالها حينئذ حملا على "ليت" لاشتراكهما في أنهما يغيران معنى الابتداء. انظر المغني 286.