ثم يستعرض آية من آيات الله في أنفسهم بعدما استعرض آياته في الآفاق . هي آية الحياة الإنسانية وأطوارها العجيبة ؛ وليتخذ من هذه الحياة مقدمة لتقرير حقيقة الحياة كلها بين يدي الله :
هو الذي خلقكم من تراب ، ثم من نطفة ، ثم من علقة ، ثم يخرجكم طفلاً ، ثم لتبلغوا أشدكم ، ثم لتكونوا شيوخاً ، ومنكم من يتوفى من قبل ، ولتبلغوا أجلاً مسمى ، ولعلكم تعقلون . هو الذي يحيي ويميت ، فإذا قضى أمراً فإنما يقول له : كن . فيكون . .
وهذه النشأة الإنسانية فيها ما لم يدركه علم الإنسان ، لأنه كان قبل وجود الإنسان . وفيها ما يشاهده ويراقبه . ولكن هذا إنما تم حديثاً بعد نزول هذا القرآن بقرون !
فخلق الإنسان من تراب حقيقة سابقة على وجود الإنسان . والتراب أصل الحياة كلها على وجه هذه الأرض . ومنها الحياة الإنسانية . ولا يعلم إلا الله كيف تمت هذه الخارقة ، ولا كيف تم هذا الحادث الضخم في تاريخ الأرض وتاريخ الحياة . وأما تكاثر الإنسان بعد ذلك عن طريق التزاوج فيتم عن طريق التقاء خلية التذكير وهي النطفة بالبويضة ، واتحادهما ، واستقرارهما في الرحم في صورة علقة . . وفي نهاية المرحلة الجنينية يخرج الطفل بعد عدة تطورات كبرى في طبيعة الخلية الأولى ، تعد إذا نحن نظرنا إليها بتدبر أطول وأكبر من الأطوار التي يمر بها الطفل من ولادته إلى أن ينتهي أجله ، والتي يقف السياق عند بعض مراحلها البارزة : مرحلة الطفولة . ثم بلوغ الأشد حوالي الثلاثين . ثم الشيخوخة . وهي المراحل التي تمثل أقصى القوة بين طرفين من الضعف . ( ومنكم من يتوفى من قبل )أن يبلغ هذه المراحل جميعاً أو بعضها . ( ولتبلغوا أجلاً مسمى )مقدراً معلوماً لا تستأخرون عنه ساعة ولا تستقدمون . ( ولعلكم تعقلون ) . . فمتابعة رحلة الجنين . ورحلة الوليد . وتدبر ما تشيران إليه من حسن الخلق والتقدير ، مما للعقل فيه دور كبير . .
ورحلة الجنين رحلة عجيبة ممتعة حقاً . وقد عرفنا الكثير عنها بعد تقدم الطب وعلم الأجنة بشكل خاص . ولكن إشارة القرآن إليها بهذه الدقة منذ حوالي أربعة عشر قرناً أمر يستوقف النظر . ولا يمكن أن يمر عليه عاقل دون أن يقف أمامه يتدبره ويفكر فيه .
ورحلة الجنين ورحلة الطفل كلتاهما توقع على الحس البشري وتلمس القلب الإنساني في أي بيئة وفي أي
مرحلة من مراحل الرشد العقلي . وكل جيل يحس لهذه اللمسة وقعها على طريقته وحسب معلوماته . فيخاطب القرآن بها جميع أجيال البشر . . فيحسون . . ثم يستجيبون أو لا يستجيبون !
{ هو الذي خلقكم من تراب } : أي خلق أبانا آدم من تراب وخلقنا نحن ذريته مما ذكر من نطفة ثم من علقة .
{ ثم لتبتغوا أشدكم } : أي كمال أجسامكم وعقولكم في سن ما فوق الثلاثين .
{ ومنكم من يتوفى من قبل } : أي ومنكم من يتوفاه ربه قبل سن الشيخوخة والهرم .
{ ولتبلغوا أجلاً مسمى } : أي فعل ذلكم بكم لتعيشوا ولتبلغوا أجلا مسمى وهو نهاية العمر المحددة لكل إنسان .
{ ولعلكم تعقلون } : أي طوركم هذه الأطوار من نطفة إلى علقة إلى طفل إلى شاب إلى كهل إلى شيخ رجاء أن تعقلوا دلائل قدرة الله وعلمه وحكمته فتؤمنوا به وتعبدوه موحدين له فتكملوا وتسعدوا .
وقوله : { هو الذي خلقكم من تراب } نظراً إلى أصلهم وهو آدم ، ثم من نطفة مني ثم من علقة دم متجمد ، ثم يخرجكم من بطون أمهاتكم أطفالاً ، ثم لتبلغوا أشدكم أي اكتمال أبدانكم وعقولكم بتخطيكم الثلاثين من أعماركم ، ثم لتكونوا شيوخاً بتجاوزكم الستين .
ومنكم من يتوفى أي يتوفاه الله قبل بلوغه سن الشيخوخة والهرم وما أكثرهم ، وفعل بكم ذلك لتعيشوا ولتبلغوا أجلاً مسمى ولعلكم تعقلون إذا تفكرتم في خلق الله لكم على هذه الأطوار فتعرفوا أن ربكم واحد وأنه إلهكم الحق الذي لا إله لكم سواه .
- بيان خلق الإِنسان وأطوار حياته وهي من الآيات الكونية الموجبة للإِيمان بالله وتوحيده في عبادته إذ هو الخالق الرازق المحيي المميت لا إله غيره ولا رب سواه .
ولما قامت الأدلة وسطعت الحجج على أنه سبحانه رب العالمين الذين من جملتهم المخاطبون ، ولا حكم للطبيعة ولا غيرها ، أتبع ذلك آية أخرى في أنفسهم هي أظهر مما مضى ، فوصل به على طريق العلة لمشاركتهم له صلى الله عليه وسلم في الأمر والنهي في التي قبلها قوله تعالى : { هو } لا غيره { الذي } ولما كان الوصف بالتربية ماضياً ، عبر عنه به فقال : { خلقكم من تراب } أي أصلكم وأكلكم التي تربى به أجسادكم { ثم من نطفة } من مني يمنى { ثم من علقة } مباعداً حالها لحال النطفة كما كان النطفة مباعداً لحال التراب ، { ثم } بعد أن جرت شؤون أخرى { يخرجكم } أي يجدد إخراجكم شيئاً بعد شيء { طفلاً } لا تملكون شيئاً ولا تعلمون شيئاً ، ثم يدرجكم في مدارج التربية صاعدين بالقوة في أوج الكمال طوراً بعد طور وحالاً بعد حال { لتبلغوا أشدكم ثم } يهبطكم بالضعف والوهن في مهاوي السفول { لتكونوا شيوخاً } ضعفاء غرباء ، قد مات أقرانكم ، ووهت أركانكم ، فصرتم تخشون كل أحد .
ولما كان هذا مفهماً لأنه حال الكل ، بين أنه ما أريد به إلا البعض لأن المخاطب الجنس ، وهو يتناول البعض كما يتناول الكل فقال : { ومنكم من يتوفى } بقبض روحه وجميع معانيه . ولما كان الموت ليس مستغرقاً للزمن الذي بين السنين ، وإنما هو في لحظة يسيرة مما بينهما ، أدخل الجار على الظرف فقال : { من قبل } أي قبل حال الشيخوخة أو قبل حال الأشدية .
ولما كان المعنى : لتتفاوت أعماركم وأحوالكم وأعمالكم ، عطف عليه قوله : { ولتبلغوا } أي كل واحد منكم { أجلاً مسمى } أي له سماه الملك الذي وكل به في بطن أمه عن إذننا وبأمرنا الذي قدرناه في الأزل ، فلا يتعداه مرة ، ولا بمقدار ذرة ، فيتجدد للملائكة إيمان في كل زمان .
ولما كانت هذه الأمور مقطوعاً بها عند من يعلمها ، وغير مترجاة عند من يجهلها ، فإنه لا وصول للآدمي بحيلة ولا فكر إلى شيء منها ، فعبر فيها باللام ، وكان التوصل بالتفكر فيها والتدبر إلى معرفة أن الإله واحد في موضع الرجاء للعاقل قال : { ولعلكم تعقلون * } أي فتعلموا بالمفاوتة بين الناس فيها ببراهين المشاهدة بالتقليب في أطوار الخلقة وأدوار الأسنان ، وإرجاع أواخر الأحكام على أوائلها أن فاعل ذلك قادر مختار حكيم قهار ، لا يشبه شيئاً ولا يشبهه شيء .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.