{ لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلإ الأعْلَى }أي : لئلا يصلوا{[24917]} إلى الملأ الأعلى ، وهي السماوات ومن فيها من الملائكة ، إذا تكلموا بما يوحيه الله مما يقوله من شرعه وقدره ، كما تقدم بيان ذلك في الأحاديث التي أوردناها عند قوله تعالى : { حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ } [ سبأ : 23 ] ولهذا قال { وَيُقْذَفُون } أي : يرمون { مِنْ كُلِّ جَانِبٍ } أي : من كل جهة يقصدون السماء منها ،
اعتراض بين جملة { إنَّا زيَّنا السماء الدُّنيا } [ الصافات : 6 ] وجملة { فاستفتِهِم أهُم أشدُّ خلقاً } [ الصافات : 11 ] قصد منه وصف قصة طرد الشياطين .
وعلى تقدير قوله : { وَحِفْظاً } [ الصافات : 7 ] مصدراً نائباً مناب فعله يجوز جعل جملة { لاَ يَسمعُونَ } بياناً لكيفية الحفظ فتكون الجملة في موقع عطف البيان من جملة { وحِفْظَاً } على حد قوله تعالى : { فوسوس إليه الشيطان قال يا آدم هل أدلك } [ طه : 120 ] الآية ، أي انتفى بذلك الحفظ سَمع الشياطين للملأ الأعلى .
وحرف { إلى } يشير إلى تضمين فعل { يَسَّمَّعُونَ } معنى ينتهون فيسمعون ، أي لا يتركهم الرمي بالشهب منتهين إلى الملأ الأعلى انتهاء الطالب المكان المطلوب بل تدحرهم قبل وصولهم فلا يتلقفون من عِلم ما يجري في الملأ الأعلى الأشياء مخطوفة غير متبينة ، وذلك أبعد لهم من أن يسمعوا لأنهم لا ينتهون فلا يسمعون . وفي « الكشاف » : أن سمعت المعدّى بنفسه يفيد الإِدراك ، وسمعت المعدّى ب { إلى } يفيد الإصغاء مع الإدراك .
وقرأ الجمهور : { لاَ يَسْمَعُونَ } بسكون السين وتخفيف الميم . وقرأه حمزة والكسائي وحفص عن عاصم وخلف { لا يسَّمَّعون } بتشديد السين وتشديد الميم مفتوحتين على أن أصله : لا يَتسمعون فقلبت التاء سيناً توصلاً إلى الإِدغام ، والتسمع : تطلب السمع وتكلفه ، فالمراد التسمع المباشر ، وهو الذي يتهيأ له إذا بلغ المكان الذي تصل إليه أصوات الملأ الأعلى ، أي أنهم يدحرون قبل وصولهم المكان المطلوب ، والقراءتان في معنى واحد . وما نقل عن أبي عبيد من التفرقة بينهما في المعنى والاستعمال لا يصح .
وحاصل معنى القراءتين أن الشهب تحول بين الشياطين وبين أن يسمعوا شيئاً من الملأ الأعلى وقد كانوا قبل البعثة المحمدية ربما اختطفوا الخطفة فألقوها إلى الكهان فلما بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم قدر زيادة حراسة السماء بإرداف الكواكب بعضها ببعض حتى لا يرجع من خطف الخطفة سالماً كما دلّ عليه قوله : { إلاَّ مَنْ خَطِفَ الخَطْفَةَ } ، فالشهب كانت موجودة من قبل وكانت لا تحول بين الشياطين وبين تلقف أخبار مقطعة من الملأ الأعلى فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم حرمت الشياطين من ذلك .
و { الملأ } : الجماعة أهل الشأن والقدر . والمراد بهم هنا الملائكة . ووصف { المَلإِ } ب { الأعلى } لتشريف الموصوف .
والقذف : الرجم ، والجانب : الجهة ، والدُّحور : الطرد . وانتصب على أنه مفعول مطلق ل { يقذفون } . وإسناد فعل { يُقذفون } للمجهول لأن القاذف معلوم وهم الملائكة الموكّلون بالحفظ المشار إليه في قوله تعالى : { وإنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرساً شديداً وشُهُباً } [ الجن : 8 ] .
والعذاب الواصب : الدائم يقال : وصب يصب وصوباً ، إذا دام . والمعنى : أنهم يطردون في الدنيا ويحقرون ولهم عذاب دائم في الآخرة فإن الشياطين للنار { فوربك لنحشرنهم والشياطين ثم لنحضرنهم حول جهنم جثياً } في سورة [ مريم : 68 ] ، ويجوز أن يكون المراد عذاب القذف وأنه واصب ، أي لا ينفكّ عنهم كلما حاولوا الاستراق لأنهم مجبولون على محاولته .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{لا يسمعون إلى الملإ الأعلى} يعني الملائكة وكانوا قبل النبي صلى الله عليه وسلم يسمعون كلام الملائكة.
{ويقذفون} ويرمون {من كل جانب} آية من كل ناحية.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله:"لا يَسّمّعُونَ إلى المَلإِ الأعْلَى" اختلفت القرّاء في قراءة قوله: لا يَسّمّعُونَ، فقرأ ذلك عامة قرّاء المدينة والبصرة، وبعض الكوفيين: «لا يَسْمَعُونَ» بتخفيف السين من يسمعون، بمعنى أنهم يتسمّعون ولا يسمعون. وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفيين بعد "لا يسّمّعون "بمعنى: لا يتسمعون، ثم أدغموا التاء في السين فشدّدوها.
وأولى القراءتين في ذلك عندي بالصواب قراءة من قرأه بالتخفيف، لأن الأخبار الواردة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه، أن الشياطين قد تتسمع الوحي، ولكنها تُرمَى بالشهب لئلا تسمع...
حدثنا أبو كُرَيب، قال: حدثنا يونس بن بكير، قال: حدثنا محمد بن إسحاق، قال: ثني الزهريّ، عن عليّ بن الحسين، عن أبي إسحاق، عن ابن عباس، قال: حدثني رهط من الأنصار، قالوا: بينا نحن جلوس ذات ليلة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ رأى كوكبا رُمي به، فقال: «ما تقولون في هذا الكوكب الذي يُرمَى به؟» فقلنا: يُولد مولود، أو يهلك هالك، ويموت ملك ويملك ملك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَيْسَ كَذَلكَ، ولكِنّ اللّهَ كانَ إذَا قَضَى أمْرا فِي السّماءِ سَبّحَ لِذَلِكَ حَمَلَةُ العَرْشِ، فَيُسَبّحُ لِتَسْبِيحِهِمْ مَنْ يَلِيهِمْ مِنْ تَحْتِهِمْ مِنَ المَلائِكَةِ، فَمَا يَزَالُونَ كذلكَ حتى يَنْتَهِيَ التّسْبِيحُ إلى السّماءِ الدّنيْا، فَيَقُولُ أهْلُ السّماءِ الدّنيْا لِمَنْ يَلِيهِمْ مِنَ المَلائِكَةِ مِمّ سَبّحْتُمْ؟ فَيَقُولُونَ: ما نَدْرِي: سَمِعْنا مَنْ فَوْقَنا مِنَ المَلائِكَةِ سَبّحُوا فَسَبّحْنا اللّهَ لتَسْبِيحِهِمْ ولكِنّا سَنَسأَلُ، فَيَسأَلُونَ مَنْ فَوْقَهُمْ، فَمَا يَزَالُونَ كَذلكَ حتى يَنْتَهِيَ إلى حَمَلَةٍ العَرْشِ، فَيَقُولُونَ: قَضَى اللّهُ كَذَا وكَذَا، فَيُخْبِرُونَ بِهِ مَنْ يَلِيهِمْ حتى يَنْتَهُوا إلى السّماءِ الدّنيْا، فَتَسْتَرِقُ الجِنّ ما يَقُولُونَ، فَيَنْزِلُونَ إلى أَوْلِيائِهِمْ مِنَ الإنْسِ فَيَلْقُونَهُ على ألْسِنَتِهِمْ بِتَوَهّمِ مِنْهُمْ، فَيُخْبِرُونَهُمْ بِهِ، فَيَكُونَ بَعْضُهُ حَقّا وَبَعْضُهُ كَذِبا، فَلَمْ تَزَلِ الجِنّ كذلك حتى رُمُوا بِهِذِهِ الشّهُبِ»...
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني ابن لهيعة، عن محمد بن عبد الرحمن، عن عُروة، عن عائشة أنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنّ المَلائِكَةَ تَنْزِلُ فِي العَنان وَهُوَ السّحابُ فَتَذْكُرُ ما قُضِيَ فِي السّماءِ، فَتَسْتَرِقُ الشّياطِينُ السّمْعَ، فَتَسْمَعُهُ فَتُوحِيهِ إلى الكُهّانِ، فَيَكْذِبُونَ مَعَها مِئَةَ كِذْبَةٍ مِنْ عِنْدِ أنْفُسهِمْ».
فهذه الأخبار تُنبئ عن أن الشياطين تسمع، ولكنها تُرْمى بالشهب لئلا تسمع...
وتأويل الكلام: إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب. وحفظا من كلّ شيطان مارد أن لا يسّمّع إلى الملإ الأعلى...
وقوله: "وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلّ جانِبٍ دُحُورا": ويُرْمَوْن من كلّ جانب من جوانب السماء "دُحُورا" والدحور: مصدر من قولك: دَحَرْته أدحَرُه دَحْرا ودُحورا، والدّحْر: الدفع والإبعاد، يقال منه: ادْحَرْ عنك الشيطان: أي ادفعه عنك وأبعده... عن مجاهد، قوله: "وَيُقْذَفُونَ" يُرمَوْن "مِنْ كُلّ جانِبٍ" قال: من كلّ مكان. وقوله: "دُحُورا" قال: مطرودين...
وقوله: "ولَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ" يقول تعالى ذكره: ولهذه الشياطين المسترِقة السمع عذاب من الله واصب.
واختلف أهل التأويل في معنى الواصب؛ فقال بعضهم: معناه: الموجع...
وقال آخرون: بل معناه: الدائم... قال ابن زيد، في قوله: "وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ" قال: الواصب: الدائب.
وأولى التأويلين في ذلك بالصواب تأويل من قال: معناه: دائم خالص، وذلك أن الله قال "وَلَهُ الدّين وَاصِبا" فمعلوم أنه لم يصفه بالإيلام والإيجاع، وإنما وصفه بالثبات والخلوص...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
ظاهر الأحاديث أنهم يستمعون حتى الآن، لكنهم لا يسمعون، وإن سمع منهم أحد شيئاً لم يفلت الشهاب قبل أن يلقي ذلك السمع إلى الذي تحته، لأن من وقت محمد صلى الله عليه وسلم ملئت السماء حرساً شديداً وشهباً.
زاد المسير في علم التفسير لابن الجوزي 597 هـ :
{وَيُقْذَفُونَ مِن كُلّ جَانِبٍ} بالشهب.
روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي 1270 هـ :
الملأ في الأصل جماعة يجتمعون على رأي، فيملؤون العيون رواء والنفوس جلالة وبهاء، ويطلق على مطلق الجماعة، وعلى الأشراف مطلقاً، وليس المراد أن كل واحد يرمي من كل جانب بل هو على التوزيع أي كل من صعد من جانب رمى منه.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
اعتراض بين جملة {إنَّا زيَّنا السماء الدُّنيا} [الصافات: 6] وجملة {فاستفتِهِم أهُم أشدُّ خلقاً} [الصافات: 11] قصد منه وصف قصة طرد الشياطين.
وعلى تقدير قوله: {وَحِفْظاً} [الصافات: 7] مصدراً نائباً مناب فعله يجوز جعل جملة {لاَ يَسمعُونَ} بياناً لكيفية الحفظ فتكون الجملة في موقع عطف البيان من جملة {وحِفْظَاً} على حد قوله تعالى: {فوسوس إليه الشيطان قال يا آدم هل أدلك} [طه: 120] الآية، أي انتفى بذلك الحفظ سَمع الشياطين للملأ الأعلى.
وحرف {إلى} يشير إلى تضمين فعل {يَسَّمَّعُونَ} معنى ينتهون فيسمعون، أي لا يتركهم الرمي بالشهب منتهين إلى الملأ الأعلى انتهاء الطالب المكان المطلوب بل تدحرهم قبل وصولهم فلا يتلقفون من عِلم ما يجري في الملأ الأعلى الأشياء مخطوفة غير متبينة، وذلك أبعد لهم من أن يسمعوا لأنهم لا ينتهون فلا يسمعون...
وقرأ الجمهور: {لاَ يَسْمَعُونَ} بسكون السين وتخفيف الميم. وقرأه حمزة والكسائي وحفص عن عاصم وخلف {لا يسَّمَّعون} بتشديد السين وتشديد الميم مفتوحتين على أن أصله: لا يَتسمعون فقلبت التاء سيناً توصلاً إلى الإِدغام، والتسمع: تطلب السمع وتكلفه، فالمراد التسمع المباشر، وهو الذي يتهيأ له إذا بلغ المكان الذي تصل إليه أصوات الملأ الأعلى، أي أنهم يدحرون قبل وصولهم المكان المطلوب، والقراءتان في معنى واحد. وما نقل عن أبي عبيد من التفرقة بينهما في المعنى والاستعمال لا يصح.
وحاصل معنى القراءتين أن الشهب تحول بين الشياطين وبين أن يسمعوا شيئاً من الملأ الأعلى وقد كانوا قبل البعثة المحمدية ربما اختطفوا الخطفة فألقوها إلى الكهان فلما بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم قدر زيادة حراسة السماء بإرداف الكواكب بعضها ببعض حتى لا يرجع من خطف الخطفة سالماً كما دلّ عليه قوله: {إلاَّ مَنْ خَطِفَ الخَطْفَةَ}، فالشهب كانت موجودة من قبل وكانت لا تحول بين الشياطين وبين تلقف أخبار مقطعة من الملأ الأعلى فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم حرمت الشياطين من ذلك.
و {الملأ}: الجماعة أهل الشأن والقدر. والمراد بهم هنا الملائكة. ووصف {المَلإِ} ب {الأعلى} لتشريف الموصوف.
والقذف: الرجم، والجانب: الجهة، والدُّحور: الطرد. وانتصب على أنه مفعول مطلق ل {يقذفون}. وإسناد فعل {يُقذفون} للمجهول لأن القاذف معلوم وهم الملائكة الموكّلون بالحفظ المشار إليه في قوله تعالى: {وإنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرساً شديداً وشُهُباً} [الجن: 8].
والعذاب الواصب: الدائم يقال: وصب يصب وصوباً، إذا دام. والمعنى: أنهم يطردون في الدنيا ويحقرون ولهم عذاب دائم في الآخرة فإن الشياطين للنار {فوربك لنحشرنهم والشياطين ثم لنحضرنهم حول جهنم جثياً} في سورة [مريم: 68]، ويجوز أن يكون المراد عذاب القذف وأنه واصب، أي لا ينفكّ عنهم كلما حاولوا الاستراق لأنهم مجبولون على محاولته.
والمعنى: أن هؤلاء الشياطين مُنِعُوا بعد بعثته صلى الله عليه وسلم من تسمُّع الأخبار في الملأ الأعلى، وهم يحاولون، لكن تزجرهم الملائكة وتنقضُّ عليهم الشُّهُب.
{وَيُقْذَفُونَ مِن كُلِّ جَانِبٍ} والقذف: الرَّجْم بحيث تكون الضربة نافذة