في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{رَبَّنَآ إِنَّكَ مَن تُدۡخِلِ ٱلنَّارَ فَقَدۡ أَخۡزَيۡتَهُۥۖ وَمَا لِلظَّـٰلِمِينَ مِنۡ أَنصَارٖ} (192)

180

ثم تتوالى الحركات النفسية ، تجاه لمسات الكون وإيحاءاته .

( فقنا عذاب النار . ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته . وما للظالمين من أنصار ) .

فما العلاقة الوجدانية ، بين إدراك ما في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار من حق ، وبين هذه الارتعاشة المنطلقة بالدعاء الخائف الواجف من النار ؟

إن إدراك الحق الذي في تصميم هذا الكون وفي ظواهره ، معناه - عند أولي الألباب - أن هناك تقديرا وتدبيرا ، وأن هناك حكمة وغاية ، وأن هناك حقا وعدلا وراء حياة الناس في هذا الكوكب . ولا بد إذن من حساب ومن جزاء على ما يقدم الناس من أعمال . ولا بد إذن من دار غير هذه الدار يتحقق فيها الحق والعدل في الجزاء .

فهي سلسلة من منطق الفطرة والبداهة ، تتداعى حلقاتها في حسهم على هذا النحو السريع . لذلك تقفز إلى خيالهم صورة النار ، فيكون الدعاء إلى الله أن يقيهم منها ، هو الخاطر الأول ، المصاحب لإدراك الحق الكامن في هذا الوجود . . وهي لفتة عجيبة إلى تداعي المشاعر عند ذوي البصائر . . ثم تنطلق ألسنتهم بذلك الدعاء الطويل ، الخاشع الواجف الراجف المنيب ، ذي النغم العذب ، والإيقاع المنساب ، والحرارة البادية في المقاطع والأنغام !

ولا بد من وقفة أمام الرجفة الأولى وهم يتجهون إلى ربهم ليقيهم عذاب النار . . لا بد من وقفة أمام قولهم :

( ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته ) . . ( وما للظالمين من أنصار ) . .

إنها تشي بأن خوفهم من النار ، إنما هو خوف - قبل كل شيء - من الخزي الذي يصيب أهل النار . وهذه الرجفة التي تصيبهم هي أولا رجفة الحياء من الخزي الذي ينال أهل النار . فهي ارتجافة باعثها الأكبر الحياء من الله ، فهم أشد حساسية به من لذع النار ! كما أنها تشي بشعور القوي بأنه لا ناصر من الله ، وأن الظالمين ما لهم من أنصار . .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{رَبَّنَآ إِنَّكَ مَن تُدۡخِلِ ٱلنَّارَ فَقَدۡ أَخۡزَيۡتَهُۥۖ وَمَا لِلظَّـٰلِمِينَ مِنۡ أَنصَارٖ} (192)

ثم قالوا : { رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ } أي : أهنته وأظهرت خزيه لأهل الجمع { وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ } أي : يوم القيامة لا مُجِير لهم منك ، ولا مُحِيد لهم عما أردت بهم .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{رَبَّنَآ إِنَّكَ مَن تُدۡخِلِ ٱلنَّارَ فَقَدۡ أَخۡزَيۡتَهُۥۖ وَمَا لِلظَّـٰلِمِينَ مِنۡ أَنصَارٖ} (192)

قوله : { ربنا ما خلقت هذا باطلاً } وما بعده جملة واقعة موقع الحال على تقدير قَوْلٍ : أي يتفكّرون قائلين : ربّنا إلخ لأنّ هذا الكلام أريد به حكاية قولهم بدليل ما بعده من الدعاء .

فإن قلت : كيف تواطأ الجمع من أولي الألباب على قول هذا التنزيه والدعاء عند التفكّر مع اختلاف تفكيرهم وتأثّرهم ومقاصدهم . قلت : يحتمل أنّهم تلقَّوه من رسول الله صلى الله عليه وسلم فكانوا يلازمونه عند التفكّر وعقبَه ، ويحتمل أنّ الله ألهمهم إيّاه فصار هجيراهم مثلَ قوله تعالى : { وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا } [ البقرة : 285 ] الآيات . ويدلّ لذلك حديث ابن عباس في « الصحيح » قال : " بتّ عند خالتي ميمونة فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فمسح النوم عن وجهه ثم قرأ العشر الآيات من سورة آل عمران " إلى آخر الحديث .

ويجوز عندي أن يكون قوله : { ربنا ما خلقت هذا باطلاً } حكاية لتفكّرهم في نفوسهم ، فهو كلام النفس يشترك فيه جميع المتفكّرين لاستوائهم في صحّة التفكّر لأنّه تنقل من معنى إلى متفرّع عنه ، وقد استوى أولو الألباب المتحدّث عنهم هنا في إدراك هذه المعاني ، فأوّل التفكّر أنتج لهم أنّ المخلوقات لم تخلق باطلاً ، ثم تفرّع عنه تنزيه الله وسؤاله أن يقيهم عذاب النار ، لأنّهم رأوا في المخلوقات طائعاً وعاصياً ، فعلموا أنّ وراء هذا العالم ثَواباً وعقاباً ، فاستعاذوا أن يكونوا ممّن حقّت عليه كلمة العذاب . وتوسّلوا إلى ذلك بأنّهم بذَلوا غاية مقدورهم في طلب النجاة إذ استجابوا لمنادي الإيمان وهو الرسول عليه الصلاة والسلام ، وسألوا غفران الذنوب ، وتكفير السيئات ، والموتَ على البر إلى آخره . . . فلا يكاد أحد من أولي الألباب يخلو من هذه التفكّرات وربّما زاد عليها ، ولمّا نزلت هذه الآية وشاعت بينهم ، اهتدى لهذا التفكير من لم يكن انتبه له من قبل فصار شائعاً بين المسلمين بمعانيه وألفاظه .

ومعنى { ما خلقتَ هذا باطلاً } أي خلقاً باطلاً ، أو ما خلقت هذا في حال أنّه باطل ، فهي حال لازمة الذكر في النفي وإن كانت فضلة في الإثبات ، كقوله : { وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما لاعبين } [ الدخان : 38 ] فالمقصود نفي عقائد من يفضي اعتقادهم إلى أنّ هذا الخلق باطل أو خلي عن الحكمة ، والعرب تبني صيغة النفي على اعتبار سبق الإثبات كثيراً .

وجيء بفاء التعقيب في حكاية قولهم : { فقنا عذاب النار } لأنّه ترتّبَ على العلم بأنّ هذا الخلق حقّ ، ومن جملة الحقّ أن لا يستوي الصالح والطالح ، والمطيع والعاصي ، فعلموا أنّ لكلّ مستقرّاً مناسباً فسألوا أن يكونوا من أهل الخير المجنّبين عذاب النار .

وقولهم : { ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته } مسوق مساق التعليل لسؤال الوقاية من النار ، كما توذن به ( إنّ ) المستعملة لإرادة الاهتمام إذ لا مقام للتأكيد هنا . والخزي مصدر خزِيَ يَخْزَى بمعنى ذلّ وهان بمرأى من الناس ، وأخزاه أذلّه على رؤوس الأشهاد ، ووجه تعليل طلب الوقاية من النار بأنّ دخولها خزي بعد الإشارة إلى موجب ذلك الطلب بقولهم : { عذاب النار } أنّ النار مع ما فيها من العذاب الأليم فيها قهر للمعذَّب وإهانة علنية ، وذلك معنى مستقرّ في نفوس الناس ، ومنه قول إبراهيم عليه السلام : { ولا تخزني يومَ يبعثون } [ بالشعراء : 87 ] وذلك لظهور وجه الربط بين الشرط والجزاء ، أي من يدخل النار فقد أخزيته .

والخزي لا تطيقه الأنفس ، فلا حاجة إلى تأويل تأوّلوه على معنى فقَد أخزيته خزياً عظيماً . ونظّره صاحب « الكشاف » بقول رُعاة العرب : « من أدْرَكَ مَرْعَى الصَّمَّان فقد أدرك » أي فقد أدرك مرعى مخصباً لئلاّ يكون معنى الجزاء ضروري الحصول من الشرط فلا تظهر فائدة للتعليق بالشرط ، لأنّه يخلي الكلام عن الفائدة حينئذ . وقد تقدّم شيء من هذا عند قوله تعالى : { فمن زحزح عن النار وأُدخل الجنة فقد فاز } [ آل عمران : 185 ] .

ولأجل هذا أعقبوه بما في الطباع التفادي به عن الخزي والمذلّة بالهرع إلى أحلافهم وأنصارهم ، فعلموا أن لا نصير في الآخرة للظالم فزادوا بذلك تأكيداً للحرص على الاستعاذة من عذاب النار إذ قالوا : { وما للظالمين من أنصار } أي لأهل النار من أنصار تدفع عنهم الخزي .