وهنا يعود السياق إلى يوم الفرقان يوم التقى الجمعان . . يعود إلى المعركة ، فيعيد عرضها بأسلوب عجيب في استحضار مشاهدها ومواقفها ، كما لو كانت معروضة فعلاً ، ويكشف عن تدبير الله في إدارتها . حتى ليكاد الإنسان يرى يد الله - سبحانه - من وراء الأحداث والحركات كما يكشف عن غاية ذلك التدبير التي تحققت كما أرادها الله سبحانه :
إذ أنتم بالعدوة الدنيا ، وهم بالعدوة القصوى ، والركب أسفل منكم . ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد ، ولكن ليقضي الله أمراً كان مفعولاً . ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حيّ عن بينة ، وإن الله لسميع عليم . إذ يريكهم الله في منامك قليلاً ، ولو أراكهم كثيراً لفشلتم ولتنازعتم في الأمر ، ولكن الله سلم ، إنه عليم بذات الصدور . وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا ويقللكم في أعينهم ليقضي الله أمراً كان مفعولاً ، وإلى الله ترجع الأمور .
إن المعركة شاخصة بمواقع الفريقين فيها ؛ وشاهدة بالتدبير الخفي من ورائها . . إن يد الله تكاد ترى ، وهي توقف هؤلاء وهؤلاء هناك والقافلة من بعيد ! والكلمات تكاد تشف عن تدبير الله في رؤيا الرسول [ ص ] وفي تقليل كل فريق في عين الفريق الآخر وفي إغراء كل منهما بالآخر . . وما يملك إلا الأسلوب القرآني الفريد ، عرض المشاهد وما وراء المشاهد بهذه الحيوية ، وبهذه الحركة المرئية ، وفي مثل هذه المساحة الصغيرة من التعبير !
وهذه المشاهد التي تستحضرها النصوص ، قد مر بنا في استعراض الوقعة من السيرة الإشارة إليها . . ذلك أن المسلمين حين خرجوا من المدينة نزلوا بضفة الوادي القريبة من المدينة ؛ ونزل جيش المشركين بقيادة أبي جهل بالضفة الأخرى البعيدة من المدينة ؛ وبين الفريقين ربوة تفصلهما . . أما القافلة فقد مال بها أبو سفيان إلى سيف البحر أسفل من الجيشين .
ولم يكن كل من الجيشين يعلم بموقع صاحبه . وإنما جمعهما الله هكذا على جانبي الربوة لأمر يريده . حتى لو أن بينهما موعداً على اللقاء ما اجتمعا بمثل هذه الدقة والضبط من ناحية المكان والموعد ! وهذا ما يذكر الله به العصبة المسلمة ليذكرها بتدبيره وتقديره .
( إذ أنتم بالعدوة الدنيا ، وهم بالعدوة القصوى ، والركب أسفل منكم ، ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد ، ولكن ليقضي الله أمراً كان مفعولاً ) . .
يقول تعالى [ مخبرًا ]{[13014]} عن يوم الفرقان : { إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا } أي : إذ أنتم نزول بعدوة الوادي الدنيا القريبة إلى المدينة ، { وَهُمْ } أي : المشركون نزول{ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى } أي : البعيدة التي من ناحية مكة ، { والرَّكْبُ } أي : العير الذي فيه أبو سفيان بما معه من التجارة{ أَسْفَلَ مِنْكُمْ } أي : مما يلي سيف البحر{ وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ } أي : أنتم والمشركون إلى مكان{ لاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ }
قال محمد بن إسحاق : وحدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير ، عن أبيه في هذه الآية قال : ولو كان ذلك عن ميعاد منكم ومنهم ، ثم بلغكم كثرة عددهم وقلة عددكم ، ما لقيتموهم ، { وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولا } أي : ليقضي الله ما أراد بقدرته من إعزاز الإسلام وأهله ، وإذلال الشرك وأهله ، عن غير ملأ منكم ، ففعل ما أراد من ذلك بلطفه .
وفي حديث كعب بن مالك قال : إنما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون يريدون عِيرَ قريش ، حتى جمع الله بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد{[13015]}
وقال ابن جرير : حدثني يعقوب ، حدثني ابن عُلَيَّة ، عن ابن عون ، عن عمير بن إسحاق قال : أقبل أبو سفيان في الركب من الشام ، وخرج أبو جهل ليمنعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، فالتقوا ببدر ، لا يشعر هؤلاء بهؤلاء ، ولا هؤلاء بهؤلاء ، حتى التقت السقاة ، ونهد الناس بعضهم لبعض{[13016]}
وقال محمد بن إسحاق في السيرة : ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على وجهه ذلك حتى إذا كان قريبًا من " الصفراء " بعث بَسْبَس بن عمرو ، وعدي بن أبي الزَّغباء الجُهَنيين ، يلتمسان الخبر عن أبي سفيان ، فانطلقا حتى إذا وردا بدرًا فأناخا بعيريهما إلى تل من البطحاء ، فاستقيا في شَنٍّ لهما من الماء ، فسمعا جاريتين يَختصمان ، تقول إحداهما لصاحبتها : اقضيني حقي . وتقول الأخرى : إنما تأتي العير غدا أو بعد غد ، فأقضيك حقك . فَخَلَّص بينهما مَجْدي بن عمرو ، وقال : صَدقت ، فسمع ذلك{[13017]} بَسْبَسُ وعَدِيّ ، فجلسا على بعيريهما ، حتى أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبراه الخبر . وأقبل أبو سفيان حين وليا وقد حَذِر ، فتقدم أمام عيره وقال لمجدي بن عمرو : هل أحسست على هذا الماء من أحد تنكره ؟ فقال : لا والله ، إلا أني قد رأيت راكبين أناخا إلى هذا التل ، فاستقيا في شَنّ لهما ، ثم انطلقا . فجاء أبو سفيان إلى مُناخ بعيريهما ، فأخذ من أبعارهما ، فَفَتَّه ، فإذا فيه النوى ، فقال : هذه والله علائف يثرب . ثم رجع سريعًا فضرب وجه عيره ، فانطلق بها فَسَاحَل حتى إذا رأى أن قد أحرز عيره بعث إلى قريش فقال : إن الله قد نجى عيرَكم وأموالكم ورجالكم ، فارجعوا .
فقال أبو جهل : والله{[13018]} لا نرجع حتى نأتي بدرا - وكانت بدرُ سوقًا من أسواق العرب - فنقيم بها ثلاثا ، فَنُطْعمُ بها الطعام ، وننحَرُ بها الجُزُر{[13019]} ونُسْقَى بها الخمر ، وتعزف علينا القيان ، وتسمع بنا العرب وبسيرنا ، فلا يزالون يهابوننا بعدها أبدا .
فقال الأخنس بن شُرَيْق : يا معشر بني زُهَرة ، إن الله قد نَجَّى أموالكم ، ونَجَّى صاحبكم ، فارجعوا . فأطاعوه ، فرجعت بنو زهرة ، فلم يشهدوها ولا بنو عدي{[13020]} قال محمد بن إسحاق : وحدثني يزيد بن رُوَمان ، عن عروة بن الزبير قال : وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم - حين دنا من بدر - عليَّ بن أبي طالب ، وسعدَ بن أبي وقاص ، والزبير بن العوام ، في نفر من أصحابه ، يتجسسون له الخبر فأصابوا سُقَاةً لقريش : غلاما لبني{[13021]} سعيد بن العاص ، وغلاما لبني الحجاج ، فأتوا بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فوجدوه يصلي ، فجعل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألونهما : لمن أنتما ؟{[13022]} فيقولان : نحن سُقاة لقريش ، بعثونا نسقيهم من الماء . فكره القوم خبرهما ، ورجَوا أن يكونا لأبي سفيان ، فضربوهما فلما ذلقوهما قالا نحن لأبي سفيان . فتركوهما ، وركع رسول الله صلى الله عليه وسلم وسجد سجدتين ، ثم سلم وقال : " إذا صدَقاكم ضربتموهما ، وإذا كذباكم تركتموهما . صدقا ، والله إنهما لقريش ، أخبراني عن قريش " . قالا هم وراء هذا الكَثيب الذي ترى بالعدوة القصوى - والكثيب : العَقَنْقَل - فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كم القوم ؟ " قالا كثير . قال : " ما عدَّتهم ؟ " قالا ما ندري . قال : " كم ينحَرُون كل يوم ؟ " قالا يوما تسعًا ، ويوما عشرًا ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " القوم ما بين التسعمائة إلى الألف " . ثم قال لهما : " فمن فيهم من أشراف قريش ؟ " قالا عتبة بن ربيعة ، وشيبة بن ربيعة ، وأبو البخْتري بن هشام ، وحكيم بن حِزَام ، ونوفل بن خويلد ، والحارث بن عامر بن نوفل ، وطُعَيمة بن عدي بن [ نوفل ، والنضر بن الحارث ، وزَمَعَة بن الأسود ، وأبو جهل بن هشام ، وأمية ]{[13023]} بن خلف ، ونُبَيْه ومُنَبِّه ابنا الحجاج ، وسهيل بن عمرو ، وعمرو بن عبد ود . فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الناس فقال : " هذه مكة قد ألقت إليكم أفلاذ كبدها " {[13024]}
قال محمد بن إسحاق ، رحمه الله تعالى : وحدثني عبد الله بن أبي بكر بن حزم : أن سعد بن معاذ قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، لما التقى الناس يوم بدر : يا رسول الله ، ألا نبني لك عريشًا تكون فيه ، ونُنِيخ إليك ركائبك ، ونلقى عدونا ، فإن أظفرنا الله عليهم وأعزنا فذاك ما نحب ، فقال : وإن تكن الأخرى فتَجلسَ على ركائبك ، وتلحق بمن وراءنا من قومنا ، فقد - والله - تخلف عنك أقوام ما نحن بأشدَّ لك حبا منهم ، لو علموا أنك تلقى حربا ما تخلفوا عنك ، ويوادونك وينصرونك . فأثنى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرًا ، ودعا له به . فبُنِيَ له عريش ، فكان فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر ، ما معهما غيرهما{[13025]}
قال ابن إسحاق : وارتحلت قريش حين أصبحت ، فلما أقبلت ورآها رسول الله صلى الله عليه وسلم تُصَوِّب من العَقَنْقَل - وهو الكثيب - الذي جاءوا منه إلى الوادي قال : " اللهم هذه{[13026]} قريش قد أقبلت بفخرها وخيلائها تحادك وتكذب رسولك ، اللهم أحنهم الغداة " {[13027]}
وقوله : { لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ } قال محمد بن إسحاق : أي ليكفر من كفر بعد الحجة ، لما رأى من الآية والعبرة ، ويؤمن من آمن على مثل ذلك .
وهذا تفسير جيد . وبَسْطُ ذلك أنه{[13028]} تعالى يقول : إنما جمعكم مع عدوكم في مكان واحد على غير ميعاد ، لينصركم عليهم ، ويرفع كلمة الحق على الباطل ، ليصير الأمر ظاهرًا ، والحجة قاطعة ، والبراهين ساطعة ، ولا يبقى لأحد حجة ولا شبهة ، فحينئذ{ يَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ } أي : يستمر في الكفر من استمر فيه على بصيرة من أمره أنه مبطل ، لقيام الحجة عليه ، { وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ } أي : يؤمن من آمن{ عَنْ بَيِّنَةٍ } أي : حجة وبصيرة . والإيمان هو حياة القلوب ، قال الله تعالى : { أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ } [ الأنعام : 122 ] ، وقالت عائشة في قصة الإفك : فيَّ هلك من هلك أي : قال فيها ما قال من الكذب والبهتان والإفك .
وقوله : { وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ } أي : لدعائكم وتضرعكم واستغاثتكم به{ عَلِيمٌ } أي : بكم وأنكم تستحقون النصر على أعدائكم الكفرة المعاندين .
العامل في { إذ } قوله { التقى } و { العدوة } شفير الوادي وحرفه الذي يتعذر المشي فيه بمنزلة رجا البئر لأنها عدت ما في الوادي من ماء ونحوه أن يتجاوز الوادي أي منعته ، ومنه قول الشاعر :
عدتني عن زيارتك العوادي*** وحالت دونها حرب زبون
ولأنها ما عدا الوادي أي جاوزه ، وتسمى الضفة والفضاء المساير للوادي عدوة للمجاورة ، وهذه هي العدوة التي في الآية{[5367]} ، وقرأ نافع وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائي «بالعُدوة » بضم العين ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «بالعِدوة » بكسر العين ، وهما لغتان ، وقرأ الحسن بن أبي الحسن وقتادة وعمرو «بالعَدوة » بفتح العين ، ويمكن أن تكون تسمية بالمصدر ، قال أبو الفتح : الذي في هذا أنها لغة ثالثة كقولهم في اللبن رَغوة ورِغوة ورُغوة ، وروى الكسائي : كلمته بحضرة فلان وحضرته إلى سائر نظائر ، ذكر أبو الفتح كثيراً منها ، وقوله { الدنيا } و { القصوى } إنما بالإضافة إلى المدينة ، وفي حرف ابن مسعود «إذا أنتم بالعدوة العليا وهم بالعدوة السفلى » ، ووادي بدر آخذ بين الشرق والقبلة منحرف إلى البحر الذي هو قريب من ذلك الصقع ، والمدينة من الوادي من موضع الوقعة منه في الشرق وبينهما مرحلتان ، حدثني أبي بأنه رأى هذه المواضع على ما وصفت وقال ابن عباس : بدر بين مكة والمدينة ، و { الدنيا } من الدنو ، و { القصوى } من القصو ، وهو البعد ، وكان القياس أن تكون القصيا لكنه من الشاذ ، وقال الخليل في العين : شذت لفظتان وهما القصوى والفتوى ، وكان القياس فيهما بالياء كالدنيا والعليا{[5368]} ، و { الركب } بإجماع من المفسرين غير أبي سفيان ، ولا يقال ركب إلا لركاب الإبل وهو من أسماء الجمع ، وقد يجمع راكب عليه كصاحب وصحب وتاجر وتجر ، ولا يقال ركب لما كثر جداً من الجموع .
وقال القتبي : الركب الشعرة ونحوها ، وهذا غير جيد لأن النبي صلى الله عليه وسلم ، قد قال «والثلاثة ركب »{[5369]} الحديث وقوله { أسفل } في موضع خفض تقديره في مكان أسفل كذا قال سيبويه ، قال أبو حاتم : نصب «أسفلَ » على الظرف ويجوز «الركب أسفل » على معنى وموضع الركب أسفل أو الركب مستقراً أسفل .
قال القاضي أبو محمد : وكان الركب ومدبر أمره أبو سفيان بن حرب قد نكب عن بدر حين نذر{[5370]} بالنبي صلى الله عليه وسلم ، وأخذ سيف البحر{[5371]} فهو أسفل بالإضافة إلى أعلى الوادي من حيث يأتي ، وقال مجاهد في كتاب الطبري : أقبل أبو سفيان وأصحابه من الشام تجاراً لم يشعروا بأصحاب بدر ولم يشعر أصحاب محمد بكفار قريش ولا كفار قريش بمحمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه حتى التقوا على ماء بدر من يسقي لهم كلهم ، فاقتتلو فغلبتهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فأسروهم .
قال القاضي أبو محمد : وفي هذا تعقب ، وكان من هذه الفرق شعور يبين من الوقوف على القصة بكمالها ، وقوله { ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد } قال الطبري وغيره : لو تواعدتم على الاجتماع ثم علمتم كثرتهم وقلتكم لخالفتم ولم تجتمعوا معهم ، وقال المهدوي : المعنى أي لاختلفتم بالقواطع والعوارض القاطعة بين الناس .
قال القاضي أبو محمد : وهذا نيل{[5372]} واضح ، وإيضاحة أن المقصد من الآية نعمة الله وقدرته في قصة بدر وتيسيره ما يسر من ذلك ، فالمعنى : إذ هيأ الله لكم هذه الجمال ، ولو تواعدتم لها لاختلفتم إلا مع تيسير الذي تمم ذلك ، وهذا كما تقول لصاحبك في أمر سناه الله{[5373]} دون تعب كثير : ولو بنينا على هذا وسعينا فيه لم يتم هكذا ، ثم بين تعالى أن ذلك إنما كان بلطف الله عز وجل { ليقضي أمراً } أي لينفذ ويظهر أمراً قد قدره في الأول { مفعولاً } لكم بشرط وجودكم في وقت وجودكم ، وذلك كله معدوم عنده ، وقوله تعالى : { ليهلك من هلك عن بينة } الآية ، قال الطبري : المعنى ليقتل من قتل من كفار قريش وغيرهم ببيان من الله وإعذار بالرسالة ، { ويحي } أيضاً ويعيش من عاش عن بيان منه أيضاً وإعذار لا حجة لأحد عليه ، فالهلاك والحياة على هذا التأويل حقيقتان ، وقال ابن إسحاق وغيره : معنى { ليهلك } أي ليكفر { ويحيى } أي ليؤمن فالحياة والهلاك على هذا مستعارتان والمعنى أن الله تعالى جعل قصة بدر عبرة وآية ليؤمن من آمن عن وضوح وبيان ويكفر أيضاً من كفر عن مثل ذلك ، وقرأ الناس «ليهلِك » بكسر اللام الثانية وقرأ الأعمش «ليهلَك » بفتح اللام ، ورواها عصمة عن أبي بكر عن عاصم ، و «البينة » صفة أي عن قضية بينة ، واللام الأولى في قوله { ليهلك } رد على اللام في قوله { ليقضي } .
وقرأ ابن كثير في رواية قنبل وأبو عمرو وابن عامر وحمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص «من حيّ » بياء واحدة مشددة ، وقرأ نافع وابن كثير في رواية البزي وعاصم في رواية أبي بكر «من حيِيَ » بإظهار الياءين وكسر الأولى وفتح الثانية ، قال من قرأ «حيّ » فلأن الياء قد لزمتها الحركة فصار الفعل بلزوم الحركة لها مشبهاً بالصحيح مثل عض وشم ونحوه ، ألا ترى أن حذف الياء من جوارٍ في الجر والرفع لا يطرد في حال النصب إذا قلت رأيت جواري لمشابهتها بالحركة سائر الحروف الصحاح ، ومنه قوله { كلا إذا بلغت التراقي }{[5374]} ، وعلى نحو «حيّ » جاء قول الشاعر : [ مجزوء الكامل ]
عيّوا بأمرهم كما*** عيّتْ ببيضتها الحمامه{[5375]}
سألتني جارتي عن أمتي*** وإذا ما عيَّ ذو اللب سأل{[5376]}
فهذا أوان العرض حيّ ذبابه*** زنابيره والأزرق المتلمس{[5377]}
ويروى جن ذبابه{[5378]} ، قال أبو علي وغيره : هذا أن كل موضع تلزم الحركة فيه ياء مستقبلية{[5379]} فالإدغام في ماضيه جائز ، ألا ترى أن قوله تعالى : { على أن يحيي الموتى }{[5380]} لا يجوز الإدغام فيه لأن حركة النصب غير لازمة ، ألا ترى أنها تزول في الرفع وتذهب في الجزم ، ولا يلتفت إلى ما أنشد بعضهم لأنه بيت مجهول : [ الكامل ]
وكأنها بين النساء سبيكة*** تمشي بسدة بيتها فتعي{[5381]}
قال أبو علي : وأما قراءة من قرأ «حيي » ، فبين ولم يدغم ، فإن سيبويه قال : أخبرنا بهذه اللغة يونس ، قال وسمعنا بعض العرب يقول أحيياء{[5382]} قال أبو حاتم : القراءة إظهار الياءين والإدغام حسن فاقرأ كيف تعلمت فإن اللغتين مشهورتان في كلام العرب ، والخط فيه ياء واحدة .
قال القاضي أبو محمد : وفي هذه اللفظة استوعب أبو علي القول فيما تصرف من «حيي » كالحي الذي هو مصدر منه وغيره .
{ إذ } بدل من { يوم التقى الجمعان } [ الأنفال : 41 ] فهو ظرف ب { لأنزلنا } [ الأنفال : 41 ] أي زمن أنتم بالعدوة الدنيا ، وقد أريد من هذا الظرف وما أضيف إليه تذكيرهم بحالة حرجة كان المسلمون فيها ، وتنبيههم للطف عظيم حفّهم من الله تعالى ، وهي حالة موقع جيش المسلمين من جيش المشركين ، وكيف التقى الجيشان في مكان واحد عن غير ميعاد ، ووجَد المسلمون أنفسهم أمام عدوّ قوي العِدّة والعُدّة والمَكانة من حسن الموقع . ولولا هذا المقصد من وصف هذه الهيئة لما كان من داع لهذا الإطناب إذ ليس من أغراض القرآن وصف المنازل إذا لم تكن فيه عبرة .
والعدوة بتثليث العين صفة الوادي وشاطئه ، والضمّ والكسر في العين أفصح وعليهما القراءات المشهورة ، فقرأه الجمهور بضمّ العين ، وقرأه ابن كثير ، وأبو عمرو ، و يعقوب بكسر العين .
والمراد بها شاطىء وادي بدر . وبدر اسم ماء . { والدنيا } هي القريبة أي العدوة التي من جهة المدينة ، فهي أقربُ لجيش المسلمين من العُدوة التي من جهة مكة . و { العدوة القصوى } هي التي ممّا يلي مكة ، وهي كثيب ، وهي قصوى بالنسبة لموقع بلد المسلمين .
والوصف ب { الدنيا } و { القصوى } يَشعُر المخاطبون بفائدته ، وهي أنّ المسلمين كانوا حريصين أن يسبقوا المشركين إلى العدوة القصوى ، لأنّها أصلب أرضاً فليس للوصف بالدنو والقصُو أثر في تفضيل إحدى العدوتين على الأخرى ، ولكنّه صادف أن كانت القصوى أسعدَ بنزول الجيش ، فلمّا سبق جيشُ المشركين إليها اغتمّ المسلمون ، فلمّا نزل المسلمون بالعدوة الدنيا أرسل الله المطر وكان الوادي دَهْساً فلبّد المطرُ الأرضَ ولم يعقهم عن المسير وأصاب الأرض التي بها قريش فعطّلهم عن الرحيل ، فلم يبلغوا بدراً إلاّ بعد أن وصل المسلمون وتخيروا أحسن موقع وسبقوا إلى الماء ، فاتّخذوا حوضاً يكفيهم وغوروا الماء ، فلمّا وصل المشركون إلى الماء وجدوه قد احتازه المسلمون ، فكان المسلمون يشربون ولا يجد المشركون ماء .
وضمير { وهم } عائد إلى ما في لفظ { الجمعان } من معنى : جمعكم وجمع المشركين ، فلمّا قال : { إذ أنتم بالعدوة الدنيا } لم يبق معاد لضمير { وهم } إلاّ الجمع الآخر وهو جمع المشركين .
و { الركب } هو ركب قريش الراجعون من الشام ، وهو العِير . { أَسْفَلَ } من الفريقين أي أخفض من منازلهما ، لأن العيِر كانوا سائِرين في طريق الساحل ، وقد تركوا ماءَ بدر عن يسارهم . ذلك أنّ أبا سفيان لمّا بلغه أنّ المسلمين خرجوا لتلقي عيره رجع بالعير عن الطريق التي تمرّ ببدر ، وسلك طريق الساحل لينجو بالعير ، فكان مسيره في السهول المنخفضة ، وكان رجال الركب أربعين رجلاً .
والمعنى : والركب بالجهة السفلى منكم ، وهي جهة البحر وضمير { منكم } خطاب للمسلمين المخاطبين بقوله : { إذ أنتم بالعدوة الدنيا } والمعنى أنّ جيش المسلمين كان بين جماعتين للمشركين ، وهما جيش أبي سفيان بالعدوة القصوى ، وعير القوم أسفل من العدوة الدنيا ، فلو علم العدوّ بهذا الوضع لطبّق جماعتيه على جيش المسلمين ، ولكن الله صرفهم عن التفطّن لذلك وصرف المسلمين عن ذلك ، وقد كانوا يطمعون أن يصادفوا العير فينتهبوها كما قال تعالى : { وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم } [ الأنفال : 7 ] ولو حاولوا ذلك لوقعوا بين جماعتين من العدوّ .
وانتصب { أسفل } على الظرفية المكانية وهو في محلّ رفع خبر عن ( الركب ) أي والركب قد فاتكم وكنتم تأملون أن تدركوه فتنتهبوا ما فيه من المتاع .
والغرض من التقييد بهذا الوقت ، وبتلك الحالة : إحضارها في ذكْرهم ، لأجل ما يلزم ذلك من شكر نعمة الله ، ومن حسن الظنّ بوعده والاعتماد عليه في أمورهم ، فإنّهم كانوا حينئذ في أشدّ ما يكون فيه جيش تجاه عدوّه ، لأنّهم يعلمون أنّ تلك الحالة كان ظاهرها ملائِماً للعدوّ ، إذ كان العدوّ في شوكة واكتمال عدّة ، وقد تمهدت له أسباب الغلبة بحسن موقع جيشه ، إذ كان بالعدوة التي فيها الماء لسقياهم والتي أرضها متوسّطة الصلابة ، فَأما جيش المسلمين فقد وجدوا أنفسهم أمام العدوّ في عدوة تسوخ في أرضها الأرجل من لين رمْلها ، مع قلّة مائِها ، وكانت العير قد فاتت المسلمين وحلّت وراء ظهور جيش المشركين ، فكانت في مأمن من أن ينالها المسلمون ، وكان المشركون واثقين بمكنة الذبّ عن عيرهم ، فكانت ظاهرةُ هذه الحالة ظاهرةَ خيبة وخوف للمسلمين ، وظاهرةَ فوز وقوة للمشركين ، فكان من عجيب عناية الله بالمسلمين أن قلب تلك الحالة رَأساً على عَقب ، فأنزل من السماء مطراً تعبّدت به الأرض لجيش المسلمين فساروا فيها غير مشفوق عليهم ، وتطهّروا وسَقَوا ، وصَارت به الأرض لجيش المشركين وحلاً يثقل فيها السيرَ وفاضت المياه عليهم ، وألقى الله في قلوبهم تهوين أمر المسلمين ، فلم يأخذوا حذرهم ولا أعدّوا للحرب عدّتها ، وجعلوا مقامهم هنالك مقام لهو وطرب ، فجعل الله ذلك سبباً لنصر المسلمين عليهم ، ورأوا كيف أنجز الله لهم ما وعدهم من النصر الذي لم يكونوا يتوقّعونه . فالذين خوطبوا بهذه الآية هم أعلم السامعين بفائدة التوقيت الذي في قوله : { إذ أنتم بالعدوة الدنيا } الآية . ولذلك تعيّن على المفسّر وصف الحالة التي تضمنّتها الآية ، ولولا ذلك لكان هذا التقييد بالوقت قليل الجدوى .
وجملة { ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد } في موضع الحال من { الجمعان } [ الأنفال : 41 ] وعامل الحال فعل { التقى } [ الأنفال : 41 ] أي في حال لقاء على غير ميعاد ، قد جاء ألزم ممّا لو كان على ميعاد ، فإنّ اللقاء الذي يكون موعوداً قد يتأخّر فيه أحد المتواعدَين عن وقته ، وهذا اللقاء قد جاء في إبان متّحد وفي مكان متجاور متقابل .
ومعنى الاختلاف في الميعاد : اختلاف وقته بأن يتأخّر أحد الفريقين عن الوقت المحدود فلم يأتوا على سواء .
والتلازم بين شرط { لو } وجوابها خفي هنا وقد أشكل على المفسّرين ، ومنهم من اضطرّ إلى تقدير كلام محذوف تقديره : ثم علمتم قلّتكم وكثرتكم ، وفيه أنّ ذلك يفضي إلى التخلّف عن الحضور لا إلى الاختلاف . ومنهم من قدر : وعلمتم قلّتكم وشعر المشركون بالخوف منكم لِما ألقى الله في قلوبهم من الرعب ، أي يجعل أحد الفريقين يتثاقل فلم تحضروا على ميعاد ، وهو يفضي إلى ما أفضى إليه القول الذي قبله ، ومنهم من جعل ذلك لما لا يخلو عنه الناس من عروض العوارض والقواطع ، وهذا أقرب ، ومع ذلك لا ينثلج له الصدر .
فالوجه في تفسير هذه الآية أنّ { لو } هذه من قبيل ( لو ) الصُهَيْبِية فإنَّ لها استعمالات ملاكها : أن لا يقصد من ( لو ) ربطُ انتفاء مضمون جوابها بانتفاء مضمون شرطها ، أي ربط حصول نقيض مضمون الجواب بحصول نقيض مضمون الشرط ، بل يقصد أنّ مضمون الجواب حاصل لا محالة ، سواء فرض حصول مضمون شرطها أو فرض انتفاؤه ، إمّا لأنّ مضمون الجواب أولى بالحصول عند انتفاء مضمون الشرط ، نحو قوله تعالى : { ولو سمعوا ما استجابوا لكم } [ فاطر : 14 ] ، وإمّا بقطع النظر عن أولَوية مضمون الجواب بالحصول عند انتفاء مضمون الشرط نحو قوله تعالى : { ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه } [ الأنعام : 28 ] . ومحصّل هذا أنّ مَضمون الجزاء مستمرُّ الحصول في جميع الأحوال في فرض المتكلم ، فيأتي بجملة الشرط متضمنّةً الحالةَ التي هي عند السامع مظنةُ أن يحصلُ فيها نقيضُ مضمون الجواب . ومن هذا قول طفيل في الثناء على بني جعفر بن كِلاب :
أبَوْا أنْ يمَلُّونا ولَوْ أنَّ أمَّنا *** تلاَقِي الذي لاَقَوْه منا لَمَلَّتِ
وقد تقدّمت الإشارة إلى هذا عند قوله تعالى : { ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون } في هذه السورة [ 23 ] ، وكنا أحلنا عليه وعلى ما في هذه الآية عند قوله تعالى : { ولو أنّنا نزّلنا إليهم الملائكة } الآية في سورة [ الأنعام : 111 ] .
والمعنى : لو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد ، أي في وقت ما تواعدتم عليه ، لأن غالب أحوال المتواعِدَين أن لا يستوي وفاؤهما بما تواعدا عليه في وقت الوفاء به ، أي في وقت واحدٍ ، لأنّ التوقيت كان في تلك الأزمان تقريباً يقدّرونه بأجزاء النهار كالضحى والعَصر والغروب ، لا ينضبط بالدرج والدقائق الفلَكية ، والمعنى : فبالأحرى وأنتم لم تتواعدوا وقد أتيتم سواء في اتّحاد وقت حلولكم في العُدوتين فاعلموا أنّ ذلك تيسير بقدر الله لأنّه قدر ذلك لتعلموا أنّ نصركم من عنده على نحو قوله : { وما رميت إذ رميت ولكنّ الله رمى } [ الأنفال : 17 ] .
وهذا غير ما يقال ، في تقارب حصول حاللٍ لأناس : « كأنهم كانوا على ميعاد » كما قال الأسود بن يَعفر يرثي هلاك أحلافه وأنصاره :
جَرَتِ الرياحُ على محلّ ديارهم *** فكأنهم كانوا على مِيعاد
فإنّ ذلك تشبيه للحصول المتعاقب .
وضمير { اختلفتم } على الوجوه كلّها شامل للفريقين : المخاطبِين والغائبِين ، على تغليب المخاطبين ، كما هو الشأن في الضمائر مثله .
وقد ظهر موقع الاستدراك في قوله : { ولكن ليقضي الله أمراً كان مفعولا } إذ التقدير : ولكن لم تتواعدوا وجئتم على غيرِ اتّعاد ليقضي اللَّهَ أي ليحقّق ويُنجز ما أراده من نصركم على المشركين . ولمّا كان تعليل الاستدراك المفادِ بلكِنْ قد وقع بفعللٍ مسند إلى الله كان مفيداً أنّ مجيئهم إلى العُدوتين على غير تواعد كان بتقدير من الله عِنايةً بالمسلمين .
ومعنى { أمراً } هنا الشيء العظيم ، فتنكيره للتعظيم ، أو يجعل بمعنى الشأن وهم لا يطلقون ( الأمر ) بهذا المعنى إلاّ على شيءٍ مهمّ ، ولعلّ سبب ذلك أنه ما سمّي ( أمراً ) لا باعتبار أنّه ممّا يؤمر بفعله أو بعمله كقوله تعالى : { وكان أمراً مقضياً } [ مريم : 21 ] وقوله : { وكان أمر الله قدراً مقدوراً } [ الأحزاب : 38 ] .
و { كان } تدلّ على تحقّق ثبوت معنى خبرها لاسمها من الماضي مثل { وكان حقا علينا نصر المؤمنين } [ الروم : 47 ] أي ثبت له استحقاق الحَقية علينا من قديم الزمن . وكذلك قوله : { وكان أمراً مقضياً } [ مريم : 21 ] . فمعنى { كان مفعولا } أنّه ثبت له في علم الله أنّه يُفعل . فاشتق له صيغة مفعول من فَعَل للدلالة على أنّه حين قدرت مفعوليته فقد صار كأنّه فُعل ، فوصف لذلك باسم المفعول الذي شأنه أن يطلق على من اتّصف بتسلط الفعل في الحال لا في الاستقبال .
فحاصل المعنى : لينجز الله ويوقع حدثاً عظيماً متّصفاً منذ القدم بأنّه محقّق الوقوع عند إبّانه ، أي حقيقاً بأن يُفعل حتّى كأنّه قد فعل لأنّه لا يمنعه ما يحفّ به من الموانع المعتادة .
وجملة : { ليهلك من هلك عن بينة } في موضع بدل الاشتمال من جملة : { ليقضي الله أمراً كان مفعولا } لأنّ الأمر هو نصر المسلمين وقهر المشركين وذلك قد اشتمل على إهلاك المهزومين وإحياء المنصورين وحَفّه من الأحوال الدالّة على عناية الله بالمسلمين وإهانته المشركين ما فيه بيّنه للفريقين تقطع عذر الهالكين ، وتقتضي شكرَ الأحياء . ودخول لام التعليل على فعل { يهلك } تأكيد للام الداخلة على ل { يقضي } في الجملة المبدل منها . ولو لم تدخل اللام لقيل : يَهْلِكُ مرفوعاً .
والهلاك : الموت والاضمحلال ، ولذلك قوبل بالحياة . والهَلاك والحياة مستعاران لمعنى ذهاب الشوكة ، ولمعنى نهوض الأمة وقوتها ، لأنّ حقيقة الهلاك الموت ، وهو أشد الضرّ فلذلك يشبَّه بالهلاك كلّ ما كان ضُرّاً شديداً ، قال تعالى : { يهلكون أنفسهم } [ التوبة : 42 ] ، وبضدّه الحياة هي أنفع شيء في طبع الإنسان فلذلك يشبه بها ما كان مرغوباً ، قال تعالى : { لينذر من كان حياً } [ يس : 70 ] وقد جمع التشبيهين قوله تعالى : { أو من كان ميتاً فأحييناه } [ الأنعام : 122 ] . فإن الكفار كانوا في عزّة ومنعة ، وكان المسلمون في قِلّة ، فلما قضى الله بالنصر للمسلمين يوم بدر أخفق أمر المشركين ووهنوا ، وصار أمر المسلمين إلى جدّة ونهوض ، وكان كلّ ذلك ، عن بينة ، أي عن حجّة ظاهرة تدلّ على تأييد الله قوماً وخذلِه آخرين بدون ريبٍ .
ومن البعيد حمل { يهلك } و { يحيى } على الحقيقة لأنّه وإن تحمَّله المعنى في قوله : { ليهلك من هلك } فلا يتحمّله في قوله : { ويحيى ممن حي } لأنّ حياة الأحياء ثابتة لهم من قبل يوم بدر .
ودلّ معنى المجاوزة الذي في { عن } على أنّ المعنى ، أن يكون الهلاك والحياة صادرين عن بيّنة وبارزين منها .
وقرأ نافع ، والبَزّي عن ابن كثير ، وأبو بكر عن عاصم ، ويعقوب ، وخلف « حَييَ » بإظهار الياءَيْن ، وقرأه البقية : « حَيَّ » بإدغام إحدى الياءين في الأخرى على قياس الإدغام وهما وجهان فصيحان .
و { عن } للمجاوزة المجازية ، وهي بمعنى ( بعد ) ، أي : بعد بيّنة يتبيّن بها سبب الأمرين : هلاك من هلك ، وحياة من حيي .
وقوله : { وإن الله لسميع عليم } تذييل يشير إلى أنّ الله سميع دعاء المسلمين طلب النصر ، وسميع ما جرى بينهم من الحوار في شأن الخروج إلى بدر ومن مودّتهم أن تكون غير ذات الشوكة هي إحدى الطائفتين التي يلاقونها ، وغير ذلك ، وعليم بما يجول في خواطرهم من غير الأمور المسموعة وبما يصلح بهم ويبني عليه مجد مستقبلهم .