في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَمَا كَانَ ٱسۡتِغۡفَارُ إِبۡرَٰهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَن مَّوۡعِدَةٖ وَعَدَهَآ إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُۥٓ أَنَّهُۥ عَدُوّٞ لِّلَّهِ تَبَرَّأَ مِنۡهُۚ إِنَّ إِبۡرَٰهِيمَ لَأَوَّـٰهٌ حَلِيمٞ} (114)

111

( ما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه ، فلما تبين له أنه عدو للّه تبرأ منه ، إن إبراهيم لأواه حليم ) .

فلا أسوة بإبراهيم في استغفاره لأبيه . فإنما كان استغفار إبراهيم لأبيه بسبب وعده له أن يستغفر له اللّه لعله يهديه ، ذلك إذ قال له : ( سلام عليك سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفياً ، وأعتزلكم وما تدعون من دون اللّه وأدعو ربي عسى ألا أكون بدعاء ربي شقياً ) . . فلما أن مات أبوه على الشرك ، وتبين إبراهيم أن أباه عدو للّه لا رجاء في هداه ، ( تبرأ منه )وقطع صلته به .

( إن إبراهيم لأواه حليم ) . .

كثير التضرع للّه ، حليم على من آذاه . ولقد آذاه أبوه فكان حليماً ؛ وتبين أنه عدو للّه فتبرأ منه وعاد للّه ضارعاً .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَمَا كَانَ ٱسۡتِغۡفَارُ إِبۡرَٰهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَن مَّوۡعِدَةٖ وَعَدَهَآ إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُۥٓ أَنَّهُۥ عَدُوّٞ لِّلَّهِ تَبَرَّأَ مِنۡهُۚ إِنَّ إِبۡرَٰهِيمَ لَأَوَّـٰهٌ حَلِيمٞ} (114)

قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا مَعْمَر ، عن الزهري ، عن ابن المسيب ، عن أبيه قال : لما حَضَرت أبا طالب الوفاة{[13898]} دخل عليه النبي صلى الله عليه وسلم وعنده أبو جهل ، وعبد الله بن أبي أمية ، فقال : " أيْ عَمّ ، قل : لا إله إلا الله . كلمة أحاجّ لك بها عند الله ، عز وجل " . فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية : يا أبا طالب ، أترغب عن ملَّة عبد المطلب ؟ [ قال : فلم يزالا يكلمانه ، حتى قال آخر شيء كلمهم به : على{[13899]} ملة عبد المطلب ] . {[13900]} فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " لأستغفرن لك ما لم أُنْهَ عنك " . فنزلت : { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ } قال : ونزلت فيه : { إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ } [ القصص : 56 ] أخرجاه . {[13901]} وقال الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن آدم ، أخبرنا سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن أبي الخليل ، عن علي ، رضي الله عنه ، قال : سمعت رجلا يستغفر لأبويه ، وهما مشركان ، فقلت : أيستغفر الرجل لأبويه وهما مشركان ؟ فقال : أو لم يستغفر إبراهيم لأبيه ؟ فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم ، فنزلت : { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ } إلى قوله : { فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ } قال : " لما مات " ، فلا أدري قاله سفيان أو قاله إسرائيل ، أو هو{[13902]} في الحديث " لما مات " . {[13903]} قلت هذا ثابت عن مجاهد أنه قال : لما مات .

وقال الإمام أحمد : حدثنا الحسن بن موسى ، حدثنا زهير ، حدثنا زبيد بن الحارث اليامي{[13904]} عن محارب بن دثار ، عن ابن بُرَيْدة ، عن أبيه قال : كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ، فنزل بنا ونحن معه قريب من ألف راكب ، فصلى ركعتين ، ثم أقبل علينا بوجهه وعيناه تَذْرِفان ، فقام إليه عمر بن الخطاب وفَداه بالأب والأم ، وقال : يا رسول الله ، ما لك ؟ قال : " إني سألت ربي ، عز وجل ، في الاستغفار لأمي ، فلم يأذن لي ، فدمعت عيناي رحمة لها من النار ، وإني كنت نهيتكم عن ثلاث : نهيتكم عن زيارة القبور

فزوروها ، لتذكركم زيارتُها خيرًا ، ونهيتكم عن لحوم الأضاحي بعد ثلاث ، فكلوا وأمسكوا ما شئتم ، ونهيتكم عن الأشربة في الأوعية ، فاشربوا في أي وعاء{[13905]} ولا تشربوا مسكرا " . {[13906]} وروى ابن جرير ، من حديث علقمة بن مَرْثد ، عن سليمان بن بُرَيدة ، عن أبيه ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم مكة أتى رَسْمَ قبر ، فجلس إليه ، فجعل يخاطب ، ثم قام مستعبرًا . فقلنا : يا رسول الله ، إنا رابنا ما صنعت . قال : " إني استأذنت ربي في زيارة قبر أمي ، فأذن لي ، واستأذنته في الاستغفار لها فلم يأذن لي " . فما رئي باكيا أكثر من يومئذ . {[13907]} وقال ابن أبي حاتم ، في تفسيره : حدثنا أبي ، حدثنا خالد بن خِداش ، حدثنا عبد الله بن وهب ، عن ابن جرَيج عن أيوب بن هانئ ، عن مسروق ، عن عبد الله بن مسعود قال : خرجَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما إلى المقابر ، فاتبعناه ، فجاء حتى جلس إلى قبر منها ، فناجاه طويلا ثم بكى فبكينا لبكائه ثم قام فقام إليه عمر بن الخطاب ، فدعاه ثم دعانا ، فقال : " ما أبكاكم ؟ " فقلنا : بكينا لبكائك . قال : " إن القبر الذي جلستُ عنده قبر آمنة ، وإني استأذنتُ ربي في زيارتها فأذن لي " {[13908]} ثم أورده من وجه آخر ، ثم ذكر من حديث ابن مسعود قريبا منه ، وفيه : " وإني استأذنت ربي في الدعاء لها فلم يأذن لي ، وأنزل علي : { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى } فأخذني ما يأخذ الولد للوالدة ، وكنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها ، فإنها تذكر الآخرة " . {[13909]} حديث آخر في معناه : قال الطبراني : حدثنا محمد بن علي المروزي ، حدثنا أبو الدرداء عبد العزيز{[13910]} بن منيب ، حدثنا إسحاق بن عبد الله بن كَيْسَان ، عن أبيه ، عن عِكْرِمة ، عن ابن عباس ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أقبل من غزوة تبوك واعتمر ، فلما هبط من ثنية عُسْفان أمر أصحابه : أن استندوا إلى العقبة حتى أرجع إليكم ، فذهب فنزل على قبر أمّه ، فناجى ربَّه طويلا ثم إنه بكى فاشتد بكاؤه ، وبكى هؤلاء لبكائه ، وقالوا : ما بكى نبي الله بهذا المكان إلا وقد أُحدثَ في أمته شيء لا تُطيقه . فلما بكى هؤلاء قام فرجع إليهم ، فقال : " ما يبكيكم ؟ " . قالوا : يا نبي الله ، بكينا لبكائك ، فقلنا : لعله أحدث في أمتك شيء لا تطيقه ، قال : " لا وقد كان بعضه ، ولكن نزلت على قبر أمي فدعوت الله أن يأذن لي في شفاعتها يوم القيامة ، فأبى الله أن يأذن لي ، فرحمتها وهي أمّي ، فبكيت ، ثم جاءني جبريل فقال : { وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأبِيهِ إِلا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ } فتبرّأ أنت من أمك ، كما تبرأ إبراهيم من أبيه ، فرحمْتُها وهي أمي ، ودعوت ربي أن يرفع عن أمتي أربعًا ، فرفع عنهم اثنتين ، وأبى أن يرفع عنهم اثنتين : دعوتُ ربي أن يرفع عنهم الرجم من السماء والغَرَق من الأرض ، وألا يلبسهم شيعا ، وألا يذيق بعضهم بأس بعض ، فرفع الله عنهم الرجم من السماء ، والغرق من الأرض ، وأبى الله أن يرفع عنهم القتل والهرج " . وإنما عدل إلى قبر أمه لأنها كانت مدفونة تحت كَداء{[13911]} وكانت عُسْفان لهم . {[13912]} وهذا حديث غريب وسياق عجيب ، وأغرب منه وأشد نكارة ما رواه الخطيب البغدادي في كتاب " السابق واللاحق " بسند مجهول ، عن عائشة في حديث فيه قصة أن الله أحيا أمَّه فآمنت ثم عادت . {[13913]} وكذلك ما رواه السهيلي في " الروض " بسند فيه جَمَاعة مجهولون : أن الله أحيا له أباه وأمه{[13914]} فآمنا به . {[13915]} وقد قال الحافظ ابن دِحْيَةَ : [ هذا الحديث موضوع يرده القرآن والإجماع ، قال الله تعالى : { وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ } [ النساء : 18 ] . وقال أبو عبد الله القرطبي : إن مقتضى هذا الحديث . . . وردَّ عَلَى ابن دِحية ]{[13916]} في هذا الاستدلال بما حاصله : أن هذه حياة جديدة ، كما رجعت الشمس بعد غيبوبتها فصلى عَلِيٌّ العصر ، قال الطحاوي : وهو [ حديث ]{[13917]} ثابت ، يعني : حديث الشمس .

قال القرطبي : فليس إحياؤهما يمتنع عقلا ولا شرعا ، قال : وقد سمعت أن الله أحيا عمه أبا طالب ، فآمن به . {[13918]}

قلت : وهذا كله متوقف على صحة الحديث ، فإذا صح فلا مانع منه{[13919]} والله أعلم .

وقال العوفي ، عن ابن عباس في قوله : { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ } الآية ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد أن يستغفر لأمه ، فنهاه الله عن ذلك{[13920]} فقال : " فإنّ إبراهيم خليل الله استغفر لأبيه " ، فأنزل الله : { وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأبِيهِ إِلا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ }{[13921]} الآية .

وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، في هذه الآية : كانوا يستغفرُون لهم ، حتى نزلت هذه الآية ، فلما [ نزلت{[13922]} أمسكوا عن الاستغفار لأمواتهم ، ولم ينههم أن يستغفروا للأحياء حتى يموتوا ]{[13923]} ثم أنزل الله : { وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأبِيهِ } الآية .

وقال قتادة في هذه الآية : ذُكر لنا أن رجالا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا : يا نبي الله ، إن من آبائنا من كان يحسن الجوار ، ويصل الأرحام ، ويفُكّ العاني ، ويوفي بالذمم ؛ أفلا نستغفر لهم ؟ قال : فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " بلى ، والله إني لأستغفر لأبي كما استغفر إبراهيم لأبيه " . فأنزل الله : { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ } حتى بلغ : { الْجَحِيمِ } ثم عذر الله تعالى إبراهيم ، فقال : { وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأبِيهِ إِلا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ } قال : وذُكر لنا أن نبي الله قال : " أوحى إليّ كلمات ، فدخلن في أذني ووقَرْن في قلبي : أمِرْتُ ألا أستغفرَ لمن مات مشركا ، ومن أعطى فَضْلَ ماله فهو خيرٌ له ، ومن أمسك فهو شرٌ له ، ولا يلوم الله على كَفاف " .

وقال الثوري ، عن الشيباني ، عن سعيد بن جُبير قال : مات رجل يهودي وله ابن{[13924]} مسلم ، فلم يخرج معه ، فذكر ذلك لابن عباس فقال : فكان ينبغي له أن يمشي معه ويدفنه ، ويدعو له بالصلاح ما دام حيا ، فإذا مات وكَّله إلى شأنه ثم قال : { وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأبِيهِ إِلا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ } لم يَدْعُ .

[ قلت ]{[13925]} وهذا يشهد له بالصحة ما رواه أبو داود وغيره ، عن علي بن أبي طالب قال : لما مات أبو طالب قلت : يا رسول الله ، إن عمك الشيخ الضال قد مات . قال : " اذهب فَوَاره ولا تُحْدثَنَّ شيئا حتى تأتيني " . وذكر تمام الحديث . {[13926]} ويروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما مَرّت به جنازة عمه أبي طالب قال : " وَصَلتكَ رَحِمٌ يا عم " . {[13927]}

وقال عطاء بن أبي رباح : ما كنت لأدع الصلاة على أحد من أهل القبلة ، ولو كانت حبشية حبلى من الزنا ؛ لأني لم أسمع الله حجب الصلاة إلا على المشركين ، يقول الله ، عز وجل : { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ } .

وروى ابنُ جَرير ، عن ابن وَكِيع ، عن أبيه ، عن عصمة بن زامل ، عن أبيه قال : سمعت أبا هريرة يقول : رحم الله رجلا استغفر لأبي هريرة ولأمه . قلت : ولأبيه ؟ قال : لا . قال : إن أبي مات مشركا{[13928]} . وقوله : { فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ } قال ابن عباس : ما زال إبراهيم يستغفر لأبيه حتى مات ، فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه . وفي رواية : لما مات تبين له أنه عدو لله .

وكذا قال مجاهد ، والضحاك ، وقتادة ، وغيرهم ، رحمهم الله .

وقال عُبَيْد بن عمير ، وسعيد بن جُبَيْر : إنه يتبرأ منه [ في ]{[13929]} يوم القيامة حين يلقى أباه ، وعلى وجه أبيه الغُبرة والقُتْرة فيقول : يا إبراهيم ، إني كنت أعصيك وإني اليوم لا أعصيك . فيقول : أيْ رَبي ، ألم تعدني ألا تخزني يوم يبعثون ؟ فأيّ خزْي أخزى من أبي الأبعد ؟ فيقال : انظر إلى ما وراءك ، فإذا هو بِذِيخٍ متلطخ ، أي : قد مسخ ضِبْعانًا ، ثم يسحب بقوائمه ، ويلقى في النار .

وقوله : { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ } قال سفيان الثوري وغير واحد ، عن عاصم بن بَهْدَلة ، عن زِرّ بن حُبَيش ، عن عبد الله بن مسعود أنه قال : الأواه : الدَّعَّاء . وكذا روي من غير وجه ، عن ابن مسعود .

وقال ابن جرير : حدثني المثنى : حدثنا الحجاج بن مِنْهال ، حدثنا عبد الحميد بن بَهْرام ، حدثنا شَهْر بن حَوشب ، عن عبد الله بن شداد بن الهاد قال : بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس قال رجل : يا رسول الله ، ما الأوّاه ؟ قال : " المتضرع " ، قال : { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ } {[13930]} ورواه{[13931]} ابن أبي حاتم من حديث ابن المبارك ، عن عبد الحميد بن بَهْرَام ، به ، قال : المتضرع : الدَّعَّاء .

وقال الثوري ، عن سلمة بن كُهَيْل ، عن مسلم البَطِين عن أبي العُبَيْديْن أنه سأل ابن مسعود عن الأواه ، فقال : هو الرحيم .

وبه قال مجاهد ، وأبو ميسرة عمرو بن شُرَحْبيل ، والحسن البصري ، وقتادة : أنه الرحيم ، أي : بعباد الله .

وقال ابن المبارك ، عن خالد ، عن عِكْرِمة ، عن ابن عباس قال : الأوَّاه : الموقن بلسان الحبشة{[13932]} . وكذا قال العوفي ، عن ابن عباس : أنه الموقن . وكذا قال مجاهد ، والضحاك . وقال علي بن أبي طلحة ، ومجاهد ، عن ابن عباس : الأواه : المؤمن - زاد علي بن أبي طلحة عنه : المؤمن التواب . وقال العوفي عنه : هو المؤمن بلسان الحبشة . وكذا قال ابن جُرَيْج : هو المؤمن بلسان الحبشة .

وقال أحمد : حدثنا موسى ، حدثنا ابن لهِيعة ، عن الحارث بن يزيد ، عن علي بن رباح ، عن عقبة بن عامر ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل يقال له " ذو البِجادين " : " إنه أواه " ، وذلك أنه رجل{[13933]} كثير الذكر لله في القرآن ويرفع صوته في الدعاء .

ورواه ابن جرير . {[13934]} وقال سعيد بن جبير ، والشعبي : الأواه : المسبّح . وقال ابن وهب ، عن معاوية بن صالح ، عن أبي الزاهرية ، عن جُبَير بن نفير ، عن أبي الدرداء ، رضي الله عنه ، قال : لا يحافظ على سبحة الضحى إلا أواه . وقال شُفَى بن مانع ، عن أيوب : الأواه : الذي إذا ذكر خطاياه استغفر منها .

وعن مجاهد : الأواه : الحفيظ الوجل ، يذنب الذنب سرا ، ثم يتوب منه سرا .

ذكر ذلك كلَّه ابن أبي حاتم ، رحمه الله .

وقال ابن جرير : حدثنا ابن وَكِيع ، حدثنا المحاربي ، عن حجاج ، عن الحكم ، عن الحسن بن مسلم بن يناق : أن رجلا كان يكثر ذكر الله ويسبّح ، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : " إنه أواه " . {[13935]} وقال أيضا حدثنا أبو كُرَيب ، حدثنا ابن يمان ، حدثنا المِنْهَال بن خليفة ، عن حَجّاج بن أرطأة ، عن عطاء ، عن ابن عباس ؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم دفن ميتا ، فقال : " رحمك الله إن كنتَ لأواها " ! يعني : تَلاءً للقرآن{[13936]} وقال شعبة ، عن أبي يونس الباهلي قال : سمعت رجلا بمكة - وكان أصله روميا ، وكان قاصا - يحدث عن أبي ذر قال : كان رجل يطوف بالبيت الحرام ويقول في دعائه : " أوّه أوّه " ، فذُكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال : إنه أواه . قال : فخرجت ذات ليلة ، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدفن ذلك الرجل ليلا ومعه المصباح .

هذا حديث غريب رواه ابن جرير ومشاه{[13937]} . وروي عن كعب الأحبار أنه قال :{[13938]} { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ } قال : كان إذا ذكر النار قال : " أوّه من النار " .

وقال ابن جُرَيْج عن ابن عباس : { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ } قال : فقيه .

قال الإمام العلم أبو جعفر بن جرير : وأولى الأقوال قول من قال : إنَّه الدعَّاء ، وهو المناسب للسياق ، وذلك أن الله تعالى لما ذكر أن إبراهيم إنما استغفر لأبيه عن موعدة وعدها إياه ، وقد كان إبراهيم كثير الدعاء حليما عمن ظلمه وأناله مكروها ؛ ولهذا استغفر لأبيه مع شدة أذاه{[13939]} في قوله : { أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لأرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا . قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا } [ مريم : 46 ، 47 ] ، فحلم عنه مع أذاه له ، ودعا له واستغفر ؛ ولهذا قال تعالى : { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ } {[13940]}


[13898]:- في أ : "الفائدة".
[13899]:- في ت ، ك ، أ : "فقال : أنا على ملة".
[13900]:- زيادة من ت ، ك ، أ ، والمسند.
[13901]:- المسند (5/533) وصحيح البخاري برقم (4675) وصحيح مسلم برقم (24).
[13902]:- في ت ، أ : "وهو".
[13903]:- المسند (1/99).
[13904]:- في أ : "السامي".
[13905]:- في ت ، ك ، أ : "أي وعاء شئتم".
[13906]:- المسند (5/355).
[13907]:- تفسير الطبري (14/512) ورواه البيهقي في دلائل النبوة (1/189) من طريق سفيان عن علقمة بن مرثد به نحوه.
[13908]:- ورواه الحاكم في المستدرك (2/336) ومن طريقه البيهقي في دلائل النبوة (1/189) من طريق بحر بن نصر عن ابن وهب به نحوه.
[13909]:- وأصل الحديث رواه مسلم في صحيحه برقم (976) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : زار النبي صلى الله عليه وسلم قبر أمه فبكى وأبكى من حوله. فقال : "استأذنت ربي في أن أستغفر لها فلم يؤذن لي ، واستأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي ، فزوروا القبور فإنها تذكر الموت".
[13910]:- في ت : "أبو الدرداء عن عبد العزيز".
[13911]:- في ت ، أ : "كذا وكذا" ، وفي ك : "كذا وكذا".
[13912]:- المعجم الكبير (11/374).
[13913]:- ساقه القرطبي في : التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة (ص 16) وقال : خرجه أبو بكر أحمد بن علي الخطيب في كتاب السابق واللاحق ، وأبو حفص عمر بن شاهين في الناسخ والمنسوخ ، ولا يصح الحديث. لمخالفته ما في صحيح مسلم برقم (976) من حديث أبي هريرة قال : زار النبي صلى الله عليه وسلم قبر أمه فبكى وأبكى من حوله. فقال : "استأذنت ربي في أن أستغفر لها فلم يأذن لي ، واستأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي ، فزوروا القبور فإنها تذكر الموت" ولضعف إسناده.
[13914]:- في ت : "وآمنة".
[13915]:- الروض الأنف (1/113).
[13916]:- زيادة من ت ، ك ، أ.
[13917]:- زيادة من ت ، ك ، أ.
[13918]:- التذكرة (ص 17). وما ذكره القرطبي لا يصح ؛ أما إحياؤهما وإيمانهما فلا يمتنع عقلا ، وأما شرعا فقد جاء في صحيح مسلم من حديث أنس ؛ أن رجلا قال : يا رسول الله ، أين أبي ؟ قال : "في النار" فلما قفا دعاه وقال : "إن أبي وأباك في النار" ومنع النبي صلى الله عليه وسلم من الاستغفار لأمه ، وهذا المنع متأخر بخلاف من قال بأن ما جاء في أنهما - أي أبواه صلى الله عليه وسلم - في النار منسوخ بحديث عائشة الذي رواه الخطيب ، فإن دعوى النسخ غير قائمة ولا تعتمد على أصل. وأما قول القرطبي بأنه سمع أن الله أحيا عمه أبا طالب... إلخ ، فهذا أبعد عن الصحة ؛ فإن في الصحيح من حديث أبي سعيد ؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم شفع له عند الله فهو في النار يجعل ضحاح من نار تحت قدميه يغلي منها دماغه ، وفي صحيح مسلم مرفوعا : "أهون أهل النار عذابا أبو طالب" فمن يكون في النار كيف يقال : إنه آمن في قبره ؟
[13919]:- وقد رأيت أن ذلك لا يصح. والله أعلم.
[13920]:- في ت ، أ : "عنه".
[13921]:- في ت : "إياها".
[13922]:- في أ : "أنزلت".
[13923]:- زيادة من ت ، ك ، أ.
[13924]:- في ك : "ولد".
[13925]:- زيادة من أ.
[13926]:- سنن أبي داود برقم (3214).
[13927]:- ورواه ابن عدي في الكامل (1/260) من طريق الفضل بن موسى ، عن إبراهيم بن عبد الرحمن - وهو ضعيف - عن ابن جريج عن عطاء ، عن ابن عباس مرفوعا ولفظه : "وصلتك رحم وجزيت خيرا يا عم". وإبراهيم بن عبد الرحمن قال ابن عدي : "أحاديثه عن كل من روى ليست بمستقيمة" ثم قال : "وعامة أحاديثه غير محفوظة".
[13928]:- تفسير الطبري (14/517).
[13929]:- زيادة من ت ، ك ، أ.
[13930]:- تفسير الطبري (14/531).
[13931]:- في ت ، أ : "وروى".
[13932]:- في ت : "الحبشية".
[13933]:- في ت ، أ : "رجل كان كثير الذكر".
[13934]:- المسند (4/159) وتفسير الطبري (14/533) وحسنه الهيثمي في المجمع (9/369) وفيه ابن لهيعة متكلم فيه.
[13935]:- تفسير الطبري (14/529).
[13936]:- تفسير الطبري (14/530).
[13937]:- تفسير الطبري (14/530). ورواه الحاكم في المستدرك (1/368) من طريق شعبة به ، وقال : "إسناده معضل".
[13938]:- في هـ ، ت ، أ : "أنه قال : سمعت".
[13939]:- في ك : "أذاه له".
[13940]:- تفسير الطبري (14/532).

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَمَا كَانَ ٱسۡتِغۡفَارُ إِبۡرَٰهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَن مَّوۡعِدَةٖ وَعَدَهَآ إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُۥٓ أَنَّهُۥ عَدُوّٞ لِّلَّهِ تَبَرَّأَ مِنۡهُۚ إِنَّ إِبۡرَٰهِيمَ لَأَوَّـٰهٌ حَلِيمٞ} (114)

المعنى لا حجة أيها المؤمنون في استغفار إبراهيم الخليل لأبيه فإن ذلك لم يكن إلا عن موعدة ، واختلف في ذلك فقيل عن موعدة من إبراهيم في أن يستغفر لأبيه وذلك قوله { سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفياً }{[5939]} ، وقيل عن موعدة من أبيه له في أنه سيؤمن فكان إبراهيم قد قوي طمعه في إيمانه فحمله على الاستغفار له حتى نهي عنه ، وقرأ طلحة : «وما يستغفر إبراهيم وروي عنه » وما استغفر إبراهيم « ، و { موعدة } مفعلة من الوعد ، وأما تبينه أنه عدو لله قيل ذلك بموت آزر على الكفر وقيل ذلك بأنه نهي عنه وهو حي .

وقال سعيد بن جبير{[5940]} : ذلك كله يوم القيامة وذلك أن في الحديث أن إبراهيم يلقاه فيعرفه ويتذكر قوله : { سأستغفر لك ربي } [ مريم : 47 ] فيقول له الزم حقوي{[5941]} فلن أدعك اليوم لشيء ، فيلزمه حتى يأتي الصراط فيلتفت إليه فإذا هو قد مسخ ضبعاناً{[5942]} أمذر فيتبرأ منه حينئذ .

قال القاضي أبو محمد : وربط أمر الاستغفار بالآخرة ضعيف ، وقوله { إن إبراهيم لأواه حليم } ثناء من الله تعالى على إبراهيم ، و » الأواه «قال ابن مسعود هو الدعّاء ، وقيل هو الداعي بتضرع ، وقيل هو الموقن قاله ابن عباس ، وقيل هو الرحيم قاله ابن مسعود أيضاً ، وقيل هو المؤمن التواب ، وقيل هو المسبح وقيل هو الكثير الذكر لله عز وجل ، وقيل هو التلاّء للقرآن ، وقيل هو الذي يقول من خوفه لله عز وجل أبداً : أوه ، ويكثر ذلك .

وروي أن أبا ذر سمع رجلاً يكثر ذلك في طوافه فشكاه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : " دعه فإنه أواه " {[5943]} .

والتأوه : التفجع الذي يكثر حتى ينطق الإنسان معه ، ب «أوه » ، ويقال : أوه{[5944]} فمن الأول قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لبلال في بيع أو شراء أنكره عليه : أوه ، ذلك الربا بعينه{[5945]} ومن الثاني قول الشاعر : [ الطويل ]

فأوه لذكراها إذا ما ذكرتها*** ومن بعد أرض بيننا وسماء{[5946]}

ومن هذا المعنى قول المثقب العبدي : [ الوافر ]

إذا ما قمت أرحلُها بليلٍ*** تأوَّه آهة الرجل الحزين{[5947]}

ويروى آهة ، ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم ، » أوه لأفراخ محمد « ، و { حليم } معناه صابر محتمل عظيم العقل ، والحلم العقل{[5948]} .


[5939]:- من الآية (47) من سورة (مريم).
[5940]:- سعيد بن جبير الأسدي بالولاء، الكوفي، أبو عبد الله، تابعي، كان أعلمهم على الإطلاق، وهو حبشي الأصل، أخذ العلم عن ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم أجمعين، وكان ابن عباس إذا أتاه أحد من الكوفة يستفتيه يقول: أتسألوني وفيكم ابن أم دهماء؟ يعني سعيدا رضي الله عنه، قتله الحجاج لأنه كان مع ابن الأشعث عند خروجه على عبد الملك ابن مروان، قال الإمام أحمد بن حنبل: قتل الحجاج سعيدا وما على وجه الأرض أحد إلا وهو مفتقر إلى علمه، وكان مقتله عام 95هـ (وفيات الأعيان- وطبقات ابن سعد، وتهذيب التهذيب. والأعلام).
[5941]:- الَحْقُو بفتح الحاء وسكون القاف: الخصر وموضع شدّ الإزار، ثم أطلق على الإزار، والجمع أحق، أصله أحقو فحذف لأنه ليس في الأسماء اسم آخره حرف علّة وقبله ضمة. (الصحاح).
[5942]:- قال في الصحاح: "وضبعان أمدر أي: منتفخ الجنبين عظيم البطن، ويقال: هو الذي تترب جنباه كأنه من (المدر أو التراب)
[5943]:-أخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن مردويه عن أبي ذر رضي الله عنه. (الدر المنثور).
[5944]:-قال في اللسان: "وآوّهْ، وأوّه، وآووه، (بالمد وواوين)، وأوه (بكسر الهاء خفيفة)، وأوه، وآه، كلها: كلمة معناها التحزن".
[5945]:-قال في اللسان: " ورد الحديث بأوه في حديث أبي سعيد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم عند ذلك: (أوه، عين الربا)" وقال ابن الأثير: "أوه: كلمة يقولها الرجل عند الشكاية والتوجع، وهي ساكنة الواو مكسورة الهاء". ثم قال: {وبعضهم بفتح الواو مع التشديد فيقول: أوّه، وفي الحديث: (أوّه لفراخ محمد بن خليفة يُستخلف)".
[5946]:- أنشد الفراء في (أوه)، قال صاحب اللسان: "ويروى: فأوّ لذكراها، ويُورى: فآه لذكراها، قال ابن بري: ومثل هذا البيت: فأوه على زيادة أم عمرو فكيف مع العدا ومع الوشاة؟ وقال في الصحاح: "ويروى: (فأي لذكراها).
[5947]:- المثقب العبدي: اسمه عائذ بن محصن بن ثعلبة، شاعر جاهلي فحل قديم، سمي المثقب لقوله: "وتقبن الوصاوص والعيونا"، وبيته هذا من قصيدته التي يطالب فيها حبيبته فاطمة بالوصال والمتعة، والتي بدأها بقوله: أفاطم قبل بينك متعيني ومنعك ما سألت كأن تبيني وفي البيت يصف ناقته بأنها تتأوه تأوه الرجل الحزين إذا ما قام ليضع الرحل عليها ليسير بها في الليل. قال في اللسان: ويروى: "تهوّه هاهة الرجل"، وقال ابن سيدة: وعندي أنه وضع الاسم موضع المصدر، أي: تأوه تأوه الرجل الحزين.
[5948]:- الحلم بالكسر: الأناة والعقل، وجمعه أحلام وحلوم، وفي الكتاب العزيز: {أم تأمرهم أحلامهم بهذا}، وقال جرير: هل من حلوم لأقوام فتنذرهم ما جرّب الناس من عضي وتضريسي؟
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَمَا كَانَ ٱسۡتِغۡفَارُ إِبۡرَٰهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَن مَّوۡعِدَةٖ وَعَدَهَآ إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُۥٓ أَنَّهُۥ عَدُوّٞ لِّلَّهِ تَبَرَّأَ مِنۡهُۚ إِنَّ إِبۡرَٰهِيمَ لَأَوَّـٰهٌ حَلِيمٞ} (114)

معطوفة على جملة { ما كان للنبيء } [ التوبة : 113 ] الخ . وهي من تمام الآية باعتبار ما فيها من قوله : { ولو كانوا أولي قربى } [ التوبة : 113 ] إذ كان شأن ما لا ينبغي لنبينا محمد عليه الصلاة والسلام أن لا ينبغي لغيره من الرسل عليهم الصلاة والسلام لأن معظم أحكامهم متحدة إلا ما خص به نبينا من زيادة الفضل . وهذه من مسألة ( أن شرع من قبلنا شرع لنا ) فلا جرم ما كان ما ورد من استغفار إبراهيم قد يثير تعارضاً بين الآيتين ، فلذلك تصدّى القرآن للجواب عنه . وقد تقدم آنفاً ما روي أن هذه سبب نزول الآية .

والموعدة : اسم للوعد . والوعد صدر من أبي إبراهيم لا محالة ، كما يدل عليه الاعتذار لإبراهيم لأنه لو كان إبراهيم هو الذي وعد أباه بالاستغفار وكان استغفاره له للوفاء بوعده لكان يتجه من السؤال على الوعد بذلك وعلى الوفاء به ما اتجه على وقوع الاستغفار له . فالتفسير الصحيح أن أبا إبراهيم وعد إبراهيم بالإيمان ، فكان بمنزلة المؤلفة قلوبهم بالاستغفار له لأنه ظنه متردداً في عبادة الأصنام لما قال له : { واهجرني ملياً } [ مريم : 46 ] فسأل الله له المغفرة لعله يرفض عبادة الأصنام كما يدل عليه قوله : { فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه } . وطريق تبين أنه عدو لله إما الوحي بأن نهاه الله عن الاستغفار له ، وإما بعد أن مات على الشرك .

والتبرؤ : تفعل من برىء من كذا إذا تنزه عنه ، فالتبرؤ مبالغة في البراءة .

وجملة : { إن إبراهيم لأواه حليم } استئنافٌ ثَناءٌ على إبراهيم . و { أواه } فُسّر بمعان ترجع إلى الشفقة إما على النفس فتفيد الضراعة إلى الله والاستغفار ، وإما على الناس فتفيد الرحمة بهم والدعاء لهم .

ولفظ { أواه } مثالُ مبالغة : الذي يكثر قول أوّهْ بلغاته الثلاثَ عشرة التي عدها في « القاموس » ، وأشهَرُها أوَّهْ بفتح الهمزة وواو مفتوحة مشددة وهاء ساكنة . قال المرادي في « شرح التسهيل » : وهذه أشهر لغاتها . وهي اسم فعل مضارع بمعنى أتوجع لإنشاء التوجع ، لكن الوصف ب { أواه } كناية عن الرأفة ورقة القلب والتضرع حين يُوصف به من ليس به وَجع . والفعل المشتق منه ( أواه ) حقهُ أن يكون ثلاثياً لأن أمثلة المبالغة تصاغ من الثلاثي . وقد اختلف في استعمال فعللٍ ثلاثي له ، فأثبته قطرب وأنكره عليه غيره من النحاة .

وإتباع ( لأواه ) بوصف ( حليم ) هنا وفي آيات كثيرة قرينة على الكناية وإيذان بمثار التأوه عنده .

والحليم : صاحب الحلم . والحلم بكسر الحاء : صفة في النفس وهي رجاحة العقل وثباتة ورصانة وتباعد عن العدوان . فهو صفة تقتضي هذه الأمور ، ويجمعها عدم القسوة . ولا تنافي الانتصار للحق لكن بدون تجاوز للقدر المشروع في الشرائع أو عند ذوي العقول .

قال :

حليم إذا ما الحلم زين أهله *** مع الحلم في عين العدو مهيب