في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{ٱللَّهُ نَزَّلَ أَحۡسَنَ ٱلۡحَدِيثِ كِتَٰبٗا مُّتَشَٰبِهٗا مَّثَانِيَ تَقۡشَعِرُّ مِنۡهُ جُلُودُ ٱلَّذِينَ يَخۡشَوۡنَ رَبَّهُمۡ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمۡ وَقُلُوبُهُمۡ إِلَىٰ ذِكۡرِ ٱللَّهِۚ ذَٰلِكَ هُدَى ٱللَّهِ يَهۡدِي بِهِۦ مَن يَشَآءُۚ وَمَن يُضۡلِلِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُۥ مِنۡ هَادٍ} (23)

21

كذلك تصور الآية الثانية هيئة تلقي المؤمنين لهذا القرآن . هذا الكتاب المتناسق الذي لا اختلاف في طبيعته ولا في اتجاهاته ، ولا في روحه ، ولا في خصائصه . فهو( متشابه )وهو( مثاني )تكرر مقاطعه وقصصه وتوجيهاته ومشاهده . ولكنها لا تختلف ولا تتعارض ، إنما تعاد في مواضع متعددة وفق حكمة تتحقق في الإعادة والتكرار . في تناسق وفي استقرار على أصول ثابتة متشابهة . لا تعارض فيها ولا اصطدام .

والذين يخشون ربهم ويتقونه ، ويعيشون في حذر وخشية ، وفي تطلع ورجاء ، يتلقون هذا الذكر في وجل وارتعاش ، وفي تأثر شديد تقشعر منه الجلود ؛ ثم تهدأ نفوسهم ، وتأنس قلوبهم بهذا الذكر فتلين جلودهم وقلوبهم وتطمئن إلى ذكر الله . .

وهي صورة حية حساسة ترسمها الكلمات ، فتكاد تشخص فيها الحركات .

( ذلك هدى الله يهدي به من يشاء ) . .

فما ترتعش القلوب هكذا إلا حين تحركها أصبع الرحمن إلى الهدى والاستجابة والإشراق . والله يعلم من حقيقة القلوب ما يجازيها عليه بالهدى أو بالضلال :

( ومن يضلل الله فما له من هاد ) . .

فهو يضله بما يعلمه من حقيقته المستقرة على الضلال ، التي لا تقبل الهدى ولا تجنح إليه بحال .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{ٱللَّهُ نَزَّلَ أَحۡسَنَ ٱلۡحَدِيثِ كِتَٰبٗا مُّتَشَٰبِهٗا مَّثَانِيَ تَقۡشَعِرُّ مِنۡهُ جُلُودُ ٱلَّذِينَ يَخۡشَوۡنَ رَبَّهُمۡ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمۡ وَقُلُوبُهُمۡ إِلَىٰ ذِكۡرِ ٱللَّهِۚ ذَٰلِكَ هُدَى ٱللَّهِ يَهۡدِي بِهِۦ مَن يَشَآءُۚ وَمَن يُضۡلِلِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُۥ مِنۡ هَادٍ} (23)

هذا مَدْحٌ من الله - عز وجل - لكتابه القرآن العظيم المنزل على رسوله الكريم ، قال الله تعالى : { اللَّهُ نزلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ } قال مجاهد : يعني القرآن كله متشابه مثاني . وقال قتادة : الآية تشبه الآية ، والحرف يشبه الحرف . وقال الضحاك : { مَثَانِيَ } ترديد القول ليفهموا عن ربهم عز وجل . وقال عكرمة ، والحسن : ثنَّى الله فيه القضاء - زاد الحسن : تكون السورة فيها آية ، وفي السورة الأخرى آية تشبهها .

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : { مَثَانِيَ } مُرَدَّد ، رُدِّد موسى في القرآن ، وصالح وهود والأنبياء ، عليهم السلام ، في أمكنة كثيرة . وقال سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : { مَثَانِيَ } قال : القرآن يشبه بعضه بعضا ، ويُرَدُّ بعضه على بعض . وقال بعض العلماء : وُيرْوى عن سفيان بن عيينة معنى قوله : { مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ } أنّ سياقات القرآن تارةً تكونُ في معنى واحد ، فهذا من المتشابه ، وتارةً تكونُ بذكر الشيء وضده ، كذكر المؤمنين ثم الكافرين ، وكصفة الجنة ثم صفة النار ، وما أشبه هذا ، فهذا من المثاني ، كقوله تعالى : { إِنَّ الأبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ } [ الانفطار : 14 ، 13 ] ، وكقوله { كَلا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ } [ المطففين : 7 ] ، إلى أن قال : { كَلا إِنَّ كِتَابَ الأبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ } [ المطففين : 18 ] ، { هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ } [ ص : 49 ] ، إلى أن قال : { هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ } [ ص : 55 ] ، ونحو هذا من السياقات فهذا كله من المثاني ، أي : في معنيين اثنين ، وأما إذا كان السياق كله في معنى واحد يشبه بعضه بعضا ، فهو المتشابه وليس هذا من المتشابه المذكور في قوله : { مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ } [ آل عمران : 7 ] ، ذاك معنى آخر .

وقوله : { تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ } أي هذه صفة الأبرار ، عند سماع كلام الجبار ، المهيمن العزيز الغفار ، لما يفهمون منه من الوعد والوعيد . والتخويف والتهديد ، تقشعر منه جلودهم من الخشية والخوف ، { ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ } لما يرجون ويُؤمِّلون من رحمته ولطفه ، فهم مخالفون لغيرهم من الكفار من وجوه :

أحدها : أن سماع هؤلاء هو تلاوة الآيات ، وسماع أولئك نَغَمات لأبيات ، من أصوات القَيْنات .

الثاني : أنهم إذا تليت عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا ، بأدب وخشية ، ورجاء ومحبة ، وفهم وعلم ، كما قال : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } [ الأنفال : 2 - 4 ] وقال تعالى : { وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا } [ الفرقان : 73 ] أي : لم يكونوا عند سماعها متشاغلين لاهين عنها ، بل مصغين إليها ، فاهمين بصيرين بمعانيها ؛ فلهذا إنما يعملون بها ، ويسجدون عندها عن بصيرة لا عن جهل ومتابعة لغيرهم أي : يرون غيرهم قد سجد فيسجدون تبعا له .

الثالث : أنهم يلزمون الأدب عند سماعها ، كما كان الصحابة ، رضي الله عنهم عند سماعهم كلام الله من تلاوة رسول الله صلى الله عليه وسلم تقشعر جلودهم ، ثم تلين مع قلوبهم إلى ذكر الله . لم يكونوا يتصارخُون ولا يتكلّفون ما ليس فيهم ، بل عندهم من الثبات والسكون والأدب والخشية ما لا يلحقهم أحد في ذلك ؛ ولهذا فازوا بالقِدح المُعَلّى في الدنيا والآخرة .

قال عبد الرزاق : حدثنا مَعْمَر قال : تلا قتادة ، رحمه الله : { تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ }

قال : هذا نعت أولياء الله ، نعتهم الله بأن تقشعر جلودهم ، وتبكي أعينهم ، وتطمئن قلوبهم إلى ذكر الله ، ولم ينعتهم بذهاب عقولهم والغشيان عليهم ، إنما هذا في أهل البدع ، وهذا من الشيطان .

وقال السُّدِّي : { ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ } أي : إلى وعد الله . وقوله : { ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ } أي : هذه صفة من هداه الله ، ومن كان على خلاف ذلك فهو ممن أضله الله ، { وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ } [ الرعد : 33 ] .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{ٱللَّهُ نَزَّلَ أَحۡسَنَ ٱلۡحَدِيثِ كِتَٰبٗا مُّتَشَٰبِهٗا مَّثَانِيَ تَقۡشَعِرُّ مِنۡهُ جُلُودُ ٱلَّذِينَ يَخۡشَوۡنَ رَبَّهُمۡ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمۡ وَقُلُوبُهُمۡ إِلَىٰ ذِكۡرِ ٱللَّهِۚ ذَٰلِكَ هُدَى ٱللَّهِ يَهۡدِي بِهِۦ مَن يَشَآءُۚ وَمَن يُضۡلِلِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُۥ مِنۡ هَادٍ} (23)

وقوله تعالى : { الله نزل أحسن الحديث } يريد به القرآن ، وروي عن ابن عباس أن سبب هذه الآية أن قوماً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا : يا رسول الله حدثنا بأحاديث حسان وأخبرنا بأخبار الدهر ، فنزلت الآية في ذلك .

وقوله : { متشابهاً } معناه : مستوياً لا تناقض فيه ولا تدافع ، بل يشبه بعضه بعضاً في وصف اللفظ ووثاقة البراهين وشرف المعاني ، إذ هي اليقين في العقائد في الله تعالى وصفاته وأفعاله وشرعه .

وقوله : { مثاني } معناه : موضع تثنية للقصص والأقضية ، والمواعظ شتى فيه ولا تمل مع ذلك ولا يعرضها ما يعرض الحديث المعاد . قال ابن عباس : ثنى فيه الأمر مراراً . ولا ينصرف { مثاني } لأنه جمع لا نظير له في الواحد .

وقوله تعالى : { تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم } عبارة عن قفّ شعر الإنسان عندما يداخله خوف ولين قلب عن سماع موعظة أو زجر قرآن ونحوه ، وهذه علامة وفزع المعنى المخشع في قلب السامع ، وفي الحديث أن أبي بن كعب قرأ عند النبي صلى الله عليه وسلم فرقت القلوب ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «اغتنموا الدعاء عند الرقة فإنها رحمة » وقال العباس بن عبد المطلب : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من اقشعر جلده من خشية الله تحاتت عنه ذنوبه كما يتحاتُّ عن الشجرة اليابسة ورقها » وقالت أسماء بنت أبي بكر : كان أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم تدمع أعينهم وتقشعر جلودهم عند سماع القرآن ، قيل لها : إن أقواماً اليوم إذا سمع أحدهم القرآن خر مغشياً عليه ، فقالت : أعوذ بالله من الشيطان ، وقال ابن عمر : وقد رئي ساقطاً عند سماع القرآن فقال : إنا لنخشى الله وما نسقط ، هؤلاء يدخل الشيطان في جوف أحدهم . وقال ابن سيرين : بيننا وبين هؤلاء الذي يصرعون عند قراءة القرآن أن يجعل أحدهم على حائط باسطاً رجليه ثم يقرأ القرآن كله ، فإن رمى بنفسه فهو صادق .

وقوله : { ذلك هدى الله } يحتمل أن يشير إلى القرآن ، أي ذلك الذي هذه صفته هدى الله ، ويحتمل أن يشير إلى الخشية واقشعرار الجلود ، أي ذلك أمارة هدى الله ، ومن جعل { تقشعر } في موضع الصفة لم يقف على { مثاني } ، ومن جعله مستأنفاً وإخباراً منقطعاً وقف على { مثاني } وباقي الآية بين .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{ٱللَّهُ نَزَّلَ أَحۡسَنَ ٱلۡحَدِيثِ كِتَٰبٗا مُّتَشَٰبِهٗا مَّثَانِيَ تَقۡشَعِرُّ مِنۡهُ جُلُودُ ٱلَّذِينَ يَخۡشَوۡنَ رَبَّهُمۡ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمۡ وَقُلُوبُهُمۡ إِلَىٰ ذِكۡرِ ٱللَّهِۚ ذَٰلِكَ هُدَى ٱللَّهِ يَهۡدِي بِهِۦ مَن يَشَآءُۚ وَمَن يُضۡلِلِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُۥ مِنۡ هَادٍ} (23)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{الله نزل أحسن الحديث} يعني القرآن.

{كتابا متشابها} يشبه بعضه بعضا {مثاني} يعني يثني الأمر في القرآن مرتين أو ثلاثا، أو أكثر من نحو ذكر الأمم الخالية، ومن نحو ذكر الأنبياء، ومن نحو ذكر آدم عليه السلام وإبليس، ومن نحوه ذكر الجنة والنار، والبعث والحساب، ومن نحو ذكر النبت والمطر، ومن نحو ذكر العذاب، ومن نحو ذكر موسى وفرعون.

{تقشعر منه} يعني مما في القرآن من الوعيد {جلود الذين يخشون} عذاب {ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله}.

{ذلك} الذي ذكر من القرآن {هدى الله يهدي به} يعني بالقرآن {من يشاء} لدينه. {ومن يضلل الله} عن دينه {فما له من هاد} إلى دينه، من أضله الله عن الهدى، فلا أحد يهديه إليه.

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره:"اللّهُ نَزّلَ أحْسَنَ الحَدِيثِ كِتابا" يعني به القرآن، "مُتَشابِها "يقول: يشبه بعضه بعضا، لا اختلاف فيه، ولا تضادّ... عن سعيد بن جُبَير، في قوله: "كِتابا مُتَشابِها" قال: يشبه بعضه بعضا، ويصدّق بعضه بعضا، ويدلّ بعضه على بعض.

وقوله: "مَثانِيَ" يقول: تُثْنَي فيه الأنباء والأخبار والقضاء والأحكام والحُجَج...

وقوله: "تَقْشَعِر مِنْهُ جُلُودُ الّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبّهُمْ" يقول تعالى ذكره: تقشعرّ من سمَاعه إذا تُلي عليهم جلودُ الذين يخافون ربهم، "ثُمّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إلى ذِكْرِ اللّهِ" يعني إلى العمل بما في كتاب الله، والتصديق به...

"ذلكَ هُدَى اللّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ" يقول تعالى ذكره: هذا الذي يصيب هؤلاء القوم الذين وصفت صفتهم عند سماعهم القرآن من اقشعرار جلودهم، ثم لينها ولين قلوبهم إلى ذكر الله من بعد ذلك، "هُدَى اللّهِ" يعني: توفيق الله إياهم وفّقهم له "يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ" يقول: يهدي تبارك وتعالى بالقرآن من يشاء من عباده.

وقد يتوجّه معنى قوله: "ذلكَ هُدَى" إلى أن يكون ذلك من ذكر القرآن، فيكون معنى الكلام: هذا القرآن بيان الله يهدي به من يشاء، يوفق للإيمان به من يشاء.

وقوله: "وَمَنْ يُضْلِلِ اللّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هادٍ" يقول تعالى ذكره: ومن يخذلْه الله عن الإيمان بهذا القرآن والتصديق بما فيه، فيضله عنه، فَما له من هاد يقول: فما له من مُوَفّق له، ومسدد يسدده في اتباعه.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

{اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ} أصدقه خبرا وأعدله حكما، وهو ما ذكر في آية أخرى، ووصفه بالصدق والعدل حين قال عز وجل {وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا} [الأنعام: 115] أي صدقا في خبره وعدلا في حكمه.

وجائز أن يكون قوله: {أحسن الحديث} أي أتقنه وأحكمه، {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت: 42]،وهو أحسن الحديث؛ لأن من تأمله ونظر فيه وتفكر، أنار قلبه وأضاء صدره، وهداه سبيل الخير والحق، ودفع عنه الوساوس والشبهات وكل شر، وأفضاه إلى كل خير وبر؛ فهو أحسن الحديث، إذ لا حديث يعمل ما يعمل هو لما ذكرنا وغير ذلك.

{مثاني} أصله أنه سماه مثاني؛ لأنه ذكر فيه المواعظ والذكرى وكررها، في غير موضع لما لو لم يكررها لغفلوا عنها وسهوا عنها، لأن الحكيم إذا وعظ أحدا عظة، وزجره عن شيء، ثم تركه لم يعظه، ولم يزجره ثانيا، غفل عما وعظه، وزجره وسها عنه.

{ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ} عند تلاوة آية الرحمة...

وجائز أن يكون ذلك لهم بجميع القرآن بما فيه من الرحمة والرهبة جميعا؛ يكون فيهما الموعظة: تلين قلوبهم، وتقشعر جلودهم، وتخاف أنفسهم، لأن آية الرحمة ليست بأحق بتليين القلوب من آية الرهبة، بل آية الرهبة أحق بذلك، وقتادة يقول: كانت جلودهم تقشعر وعيونهم تبكي وقلوبهم تطمئن إليه، ولا تذهب عقولهم، ولا يغشى عليهم كما رأينا أهل البدع يفعلونه، وإنما ذلك من الشيطان. {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} أخبر أن من أضله الله فلا هادي له، على ما قال في المعيشة والرزق؛ قال عز وجل: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ} [فاطر: 2] وقال عز وجل: في الضراء والخير حين قال: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ} [يونس: 107] ذكر في الضلال والهدى ما ذكر في الرزق والضر والخير...

ذكر أن لله في فعلهم وصنعهم تدبيرا.

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

إيقاع اسم الله مبتدأ وبناء {نَزَّلَ} عليه: فيه تفخيم لأحسن الحديث ورفع منه، واستشهاد على حسنه، وتأكيد لاستناده إلى الله وأنه من عنده، وأن مثله لا يجوز أن يصدر إلاّ عنه، وتنبيه على أنه وحي معجز مباين لسائر الأحاديث...

{متشابها} مطلق في مشابهة بعضه بعضاً.

فإن قلت: كيف وصف الواحد بالجمع؟ قلت: إنما صحّ ذلك لأنّ الكتاب جملة ذات تفاصيل، وتفاصيل الشيء هي جملته لا غير، ألا تراك تقول: القرآن أسباع وأخماس، وسور وآيات، وأصله: كتاباً متشابهاً فصولاً مثاني، ويجوز أن لا يكون مثاني صفة، ويكون منتصباً على التمييز من متشابهاً، والمعنى: متشابهة مثانية، فإن قلت: ما فائدة التثنية والتكرير؟ قلت: النفوس أنفر شيء من حديث الوعظ والنصيحة، فما لم يكرر عليها عوداً عن بدء، لم يرسخ فيها ولم يعمل عمله، ومن ثم كانت عادة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكرر عليهم ما كان يعظ به وينصح ثلاث مرات وسبعاً ليركزه في قلوبهم ويغرسه في صدورهم...

اقشعر الجلد: إذا تقبّض تقبضاً شديداً، وتركيبه من حروف القشع وهو الأديم اليابس، مضموماً إليها حرف رابع وهو الراء، ليكون رباعياً ودالاً على معنى زائد. يقال: اقشعر جلده من الخوف وقف شعره، وهو مثل في شدّة الخوف، فيجوز أن يريد به الله سبحانه التمثيل، تصويراً لإفراط خشيتهم، وأن يريد التحقيق.

فإن قلت: ما وجه تعديه «لان» بإلى؟ قلت: ضمن معنى فعل متعدّ بإلى، كأنه قيل: سكنت أو اطمأنت إلى ذكر الله لينة غير متقبضة، راجية غير خاشية.

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

أما كونه كله متشابها كما في هذه الآية، فقال ابن عباس: معناه أنه يشبه بعضه بعضا، وأقول هذا التشابه يحصل في أمور:

أحدها: أن الكاتب البليغ إذا كتب كتابا طويلا، فإنه يكون بعض كلماته فصيحا، ويكون البعض غير فصيح، والقرآن يخالف ذلك فإنه فصيح كامل الفصاحة بجميع أجزائه.

وثانيها: أن الفصيح إذا كتب كتابا في واقعة بألفاظ فصيحة فلو كتب كتابا آخر في غير تلك الواقعة كان الغالب أن كلامه في الكتاب الثاني غير كلامه في الكتاب الأول، والله تعالى حكى قصة موسى عليه السلام في مواضع كثيرة من القرآن وكلها متساوية متشابهة في الفصاحة.

...

...

...

ورابعها: أن هذه الأنواع الكثيرة من العلوم التي عددناها متشابهة متشاركة في أن المقصود منها بأسرها الدعوة إلى الدين وتقرير عظمة الله، ولذلك فإنك لا ترى قصة من القصص إلا ويكون محصلها المقصود الذي ذكرناه، فهذا هو المراد من كونه متشابها.

الصفة الثالثة: من صفات القرآن كونه مثاني، والمقصود منه بيان أن كل ما سوى الحق زوج ويدل على أن كل شيء مبتلى بضده ونقيضه، وأن الفرد الأحد الحق هو الله سبحانه...

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

ولما كان من المستبعد جداً أن يقسو قلب من ذكر الله، بينه الله وصوره في أعظم الذكر فإنه كان للذين آمنوا هدى وشفاء، وللذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وفي أبصارهم عمى، فقال مفخماً للمنزل بجعل الاسم الأعظم مبتدأ وبناء الكلام عليه: {الله} أي الفعال لما يريد الذي له مجامع العظمة والإحاطة بصفات الكمال.

{نزّل} أي بالتدريج للتدريب وللجواب عن كل شبهة.

{أحسن الحديث} وأعظم الذكر، ولولا أنه هو الذي نزله لما كان الأحسن، وأبدل من "أحسن "قوله: {كتاباً} أي جامعاً لكل خير.

{متشابهاً} أي في البلاغة المعجزة والموعظة الحسنة، لا تفاوت فيه أصلاً في لفظ ولا معنى، مع كونه نزل مفرقاً في نيف وعشرين سنة، ولم يقل: مشتبهاً، لئلا يظن أنه كله غير واضح الدلالة وذلك لا يمدح به.

ولما كان مفصلاً إلى سور وآيات وجمل، وصفه بالجمع في قوله: {مثاني} جمع مثنى مفعل من التثنية بمعنى التكرير،لا يمل من تكراره، وترداد قراءته وتأمله واعتباره مع أن جميع ما فيه أزواج من الشيء وضده: المؤمن والكافر...فلا ترتب على شيء من ذلك جزاء صريحاً إلا ثني بإفهام ما لضده تلويحاً، فكان مذكوراً مرتين، ومرغباً فيه أو مرهباً منه كرتين، ويجوز أن يكون التقدير: متشابهة مثانيه، فيكون نصبه على التمييز.

{الذين يخشون} روى الطبراني عن العباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا اقشعر جلد العبد من خشية الله تحاتت خطاياه".

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

كذلك تصور الآية الثانية هيئة تلقي المؤمنين لهذا القرآن. هذا الكتاب المتناسق الذي لا اختلاف في طبيعته ولا في اتجاهاته، ولا في روحه، ولا في خصائصه. فهو (متشابه) وهو (مثاني) تكرر مقاطعه وقصصه وتوجيهاته ومشاهده. ولكنها لا تختلف ولا تتعارض، إنما تعاد في مواضع متعددة وفق حكمة تتحقق في الإعادة والتكرار. في تناسق وفي استقرار على أصول ثابتة متشابهة. لا تعارض فيها ولا اصطدام.

والذين يخشون ربهم ويتقونه، ويعيشون في حذر وخشية، وفي تطلع ورجاء، يتلقون هذا الذكر في وجل وارتعاش، وفي تأثر شديد تقشعر منه الجلود؛ ثم تهدأ نفوسهم، وتأنس قلوبهم بهذا الذكر فتلين جلودهم وقلوبهم وتطمئن إلى ذكر الله..

وهي صورة حية حساسة ترسمها الكلمات، فتكاد تشخص فيها الحركات.

(ذلك هدى الله يهدي به من يشاء)..

فما ترتعش القلوب هكذا إلا حين تحركها أصبع الرحمن إلى الهدى والاستجابة والإشراق. والله يعلم من حقيقة القلوب ما يجازيها عليه بالهدى أو بالضلال:

(ومن يضلل الله فما له من هاد)..

فهو يضله بما يعلمه من حقيقته المستقرة على الضلال، التي لا تقبل الهدى ولا تجنح إليه بحال.

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

استئناف بياني نشأ بمناسبة المضادة بين مضمون جملة {فَوَيْلٌ للقاسِيةِ قُلوبهم من ذِكر الله} [الزمر: 22] ومضمون هذه الجملة؛ وهو أن القرآن يُلين قلوب الذين يخشون ربهم لأن مضمون الجملة السابقة يثير سؤال سائل عن وجه قسوة قلوب الضالين من ذكر الله فكانت جملة {الله نَزَّلَ أحْسَنَ الحدِيثِ} إلى قوله: {مِنْ هَادٍ} مُبينة أن قساوة قلوب الضالّين من سماع القرآن؛ إنما هي لرَيْن في قلوبهم وعقولهم لا لنقص في هدايته، وهذا كما قال تعالى في سورة البقرة {هدى للمتقين} ثم قال: {إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم} [البقرة: 6 7]...

وافتتاح الجملة باسم الجلالة يؤذن بتفخيم أحسن الحديث المنزل بأن منزّله هو أعظم عظيم، ثم الإِخبار عن اسم الجلالة بالخبر الفعلي يدل على تقوية الحُكم وتحقيقه على نحو قولهم: هو يعطي الجزيل، ويفيد مع التقوية دلالة على الاختصاص، أي اختصاص تنزيل الكتاب بالله تعالى، والمعنى: الله نزّل الكتاب لا غيرُه وضَعه، ففيه إثبات أنه منزّل من عالم القدس، وذلك أيضاً كناية عن كونه وحياً من عند الله لا من وضع البشر، فدلت الجملة على تقوَ واختصاص بالصراحة، وعلى اختصاص بالكناية، وإذ أخذ مفهوم القصْر ومفهوم الكناية وهو المغاير لمنطوقهما كذلك يؤخذ مغاير التنزيل فعلاً يليق بوضع البشر، فالتقدير: لا غير الله وضَعه، ردّاً لقول المشركين: هو أساطير الأولين...

الوصف الأول: أنه أحسن الحديث، أي أحسن الخبر، والتعريف للجنس.

الحديث: الخبر، سمي حديثاً لأن شأن الإِخبار أن يكون عن أمر حدث وجدّ، سمي القرآن حديثاً باسم بعض ما اشتمل عليه من أخبار الأمم والوعد والوعيد. وأما ما فيه من الإِنشاء من أمر ونهي ونحوهما فإنه لما كان النبي صلى الله عليه وسلم مبلغَه للناس آل إلى أنه إخبار عن أمر الله ونهيه، وقد سُمي القرآن حديثاً في مواضع كثيرة كقوله تعالى: {فبأي حديث بعده يؤمنون} في سورة [الأعراف: 185]، ومعنى كون القرآن أحسن الحديث أنه أفضل الأخبار؛ لأنه اشتمل على أفضل ما تشتمل عليه الأخبار من المعاني النافعة والجامعة لأصول الإِيمان والتشريع والاستدلال، والتنبيه على عظم العوالم والكائنات وعجائب تكوين الإِنسان والعقل وبثّ الآداب واستدعاء العقول للنظر والاستدلال الحق، ومن فصاحة ألفاظه وبلاغة معانيه البالغَيْن حدّ الإعجاز، ومن كونه مصدقاً لما تقدمه من كتب الله ومهيمناً عليها، وفي إسناد إنزاله إلى الله استشهاد على حسنه حيث نزّله العليم بنهاية محاسن الأخبار والذكر...

الوصف الثاني: أنه كتاب، أي مجموع كلام مراد قراءته وتلاوته والاستفادة منه، مأمور بكتابته ليبقى حجة على مرّ الزمان فإنّ جعل الكلام كتاباً يقتضي أهمية ذلك الكلام والعناية بتنسيقه والاهتمام بحفظه على حالته، ولما سمّى الله القرآن كتاباً كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر كتَّاب الوحي من أصحابه أن يكتبوا كل آية تنزل من الوحي في الموضع المعيّن لها بَين أخواتها استناداً إلى أمر من الله؛ لأن الله أشار إلى الأمر بكتابته في مواضع كثيرة من أولها قوله: {بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ} [البروج: 21- 22] وقوله: {إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون} [الواقعة: 77- 78].

الصفة الثالثة: أنه متشابه، أي متشابهة أجزاؤه متماثلة في فصاحة ألفاظها وشرف معانيها، فهي متكافئة في الشرف والحسن والإِصابة للأغراض من المعاني بحيث تبلغ ألفاظه ومعانيه أقصى ما تحتمله أشرف لغة للبشر وهي اللغة العربية مفردات ونظماً.

الصفة الرابعة: كونه مثاني، وهذا يتضمن امتناناً على الأمة بأن أغراض كتابها مكررة فيه لتكون مقاصده أرسخ في نفوسها، وليسمعها من فاته سماع أمثالها من قبلُ، ولذا وَصف رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن:"بأنه لا يخلق على كثرة الرد" رواه الترمذي عن علي بن أبي طالب مرفوعاً، وذكر عياض أن الوليد بن المغيرة سمِع من النبي صلى الله عليه وسلم {إن الله يأمر بالعدل والإحسان} [النحل: 90] الآية فقال: « والله إن له لحلاوة وإن عليه لطَلاوة»، وبهذا تعلم أن وصف القرآن هنا بكونه مثاني هو غير الوصف الذي في قوله: {ولقد أتيناك سبعاً من المثاني} [الحجر: 78] لاختلاف ما أريد فيه بالتثنية وإن كان اشتقاق الوصف متّحداً...

الصفة الخامسة: أنه تقشعر منه جلود الذين يخشَون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم، وهذا الوصف مرتب على الوصف قبله وهو كون القرآن مثاني، أي مثنَّى الأغراض، وهو مشتمل على ثلاث جهات:

أولاها: وصف القرآن بالجلالة والروعة في قلوب سامعيه،وهو وصف كمال؛ لأنه من آثار قوة تأثير كلامه في النفوس، ولم يزل شأن أهل الخطابة والحكمة الحرصَ على تحصيل المقصود من كلامهم؛ لأن الكلام إنما يواجه به السامعون لحصول فوائد مرْجوة من العمل به،وقد اقتضى قوله: {تَقْشَعر منه جُلُودُ الذين يخشَونَ ربَّهُم} أن القرآن يشتمل على معان تقشعر منها الجلود وهي المعاني الموسومة بالجَزالة التي تثير في النفوس روعة وجلالة ورهبة تبعث على امتثال السامعين له وعملهم بما يتلقونه من قوارع القرآن وزواجره، وكنّي عن ذلك بحالةٍ تقارِنُ انفعال الخشية والرهبة في النفس، فمعنى {تَقْشَعِرُّ مِنْهُ} تقشعر من سماعه وفهمه، فإن السماع والفهم يومئذٍ متقارنان؛ لأن السامعين أهل اللسان.

قال تعالى: {لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية اللَّه وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون} [الحشر: 21]، وهذه الروعة قد اعْترت جماعة قبل الإِسلام، فمنهم من أسلم لها لأولِ وهلة، حُكي في الحديث الصحيح عن جبير بن مطعم قال: « سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور فلما بلغ قوله تعالى: {أم خُلقوا من غير شيء أم هم الخالقون} إلى قوله: {المصيطرون} [الطور: 35- 37] كاد قلبي أن يطير وذلك أول ما وُقر الإِسلام في قلبي»، ومنهم من لم يسلم، روي عن محمد بن كعب القرظي قال: « أخبرت أن عتبة بن ربيعة كلّم النبي صلى الله عليه وسلم في كفّه عن سبِّ أصنامهم وتضليلهم وعرض عليه أموراً والنبي صلى الله عليه وسلم يسمع فلما فرغ قال له النبي صلى الله عليه وسلم اسمع ما أقول، وقَرأ عليه {حم} [فصلت: 1] حتى بلغ قوله: {فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود} [فصلت: 13] فأمسك عتبة على فم النبي صلى الله عليه وسلم وناشده الرحِم أن يكفّ» أي عن القراءة، وأما المؤمن فلا تزال روعته وهيبته إياه مع تلاوته توليه انجذاباً وتكسبه هشاشة لميل قلبه إليه، قال تعالى: {تَقْشَعِرُّ منه جُلُود الذين يخشَونَ ربَّهُم ثمَّ تَلِينُ جلودُهم وقُلُوبهم إلى ذِكرِ الله}...

الجهة الثالثة: من جهات هذا الوصف: أعجوبة جمعه بين التأثيريْن المتضادَّيْن: مرةً بتأثير الرهبة، ومرة بتأثير الرغبة، ليكون المسلمون في معاملة ربهم جارِين على ما يَقتضيه جلالُه وما يقتضيه حلمه ورحمته. وهذه الجهة اقتضاها الجمع بين الجهتين المصرح بهما وهما جهة القشعريرة وجهة اللين، مع كون الموصوف بالأمرين فريقاً واحداً وهم الذين يخشون ربهم، والمقصود وصفهم بالتأثريْن عند تعاقب آيات الرحمة بعد آيات الرهبة.

{ذَلِكَ هُدَى الله يَهْدِى بِهِ مَن يَشَآءُ وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِنْ هاد}، استئناف بياني فإن إجراء تلك الصفات الغُرّ على القرآن الدالةِ على أنه قد استكمل أقصى ما يوصف به كلام بالغ في نفوس المخاطبين كيف سلكت آثاره إلى نفوس الذين يخشون ربهم مما يثير سؤالاً يهجس في نفس السامع أن يقول: كيف لم تتأثر به نفوس فريق المصرِّين على الكفر وهو يقرع أسماعهم يوماً فيوماً، فتقع جملة {ذلك هُدَى الله يَهْدِي بهِ من يَشَاءُ} جواباً عن هذا السؤال الهاجس، فالإِشارة إلى مضمون صفات القرآن المذكورة وتأثر المؤمنين بهديه، أي ذلك المذكورُ هدى الله، أي جعله الله سبَباً كاملاً جامعاً لوسائل الهدى، فمن فطر الله عقله ونفسَه على الصلاحية لقبول الهدى سريعاً أو بطيئاً اهتدى به، كذلك ومَن فطر الله قلبه على المكابرة، أو على فساد الفهم ضلّ فلم يهتد حتى يموت على ضلاله، فأطلق على هذا الفَطْر اسم الهُدى واسم الضلال، وأسند كلاهما إلى الله لأنه هو جبَّار القلوب على فطرتها وخالق وسائل ذلك ومدبر نواميسه وأنظمته...

تفسير الشعراوي 1419 هـ :

يقول الله تعالى: ما دُمتم ستتبعون الأحسن وتختارونه فأنا مُنزِلٌ عليكم أحسن الحديث، نعم هو أحسن الحديث لأنه كلامُ الله وكلام الله صفته، وهو كامل الكمال المطلق، وقد جعله الله مُعْجزاً، وتولى سبحانه حفظه بنفسه ولم يكل حفظه للخلق.

وفي عُرْف البشر أن الإنسان لا يحفظ إلا ما كان حجة له ولا يحفظ الحجة عليه، أما الحق سبحانه فيحفظ القرآن وهو حجة عليه سبحانه لخَلْقه، فكل ما أتى في القرآن ضمن الحق سبحانه حدوثه، كما أخبرنا الله به لأنه هو منزله وهو حافظه.

والمراد بأحسن الحديث القرآن الكريم، ومعنى {مُّتَشَابِهاً} [الزمر: 23] أي: يشبه بعضُه بعضاً في الحُسْن أو في البلاغة أو في الموضوع، فإياك أن تقول: هذه الآية أبلغ من هذه، لأن كل آية بليغة في موضوعها...

وقوله: {تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ..} وهذه صفة العبد الذي يخشى ربه ويراقبه ويعمل لنظره إليه حساباً، لأنه دائماً يعرض سلوكه على ربه، فإن رأى فيه مخالفة عاد إلى كلام الله وتذكَّر وعيده فيحدث عنده قشعريرة في جلده من خشية ربه، وهي أنْ يجفّ الجلد ويقعقع وتحدث رعشة في البدن من خوف العذاب، ومن خوف غضب الله، ثم يعود فيتذكر رحمة ربه التي سبقتْ غضبه، وعفوه الذي سبق عقوبته، فيعود إلى حالته الأولى: {ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ}.

إذن: المؤمن يجمع بين الخوف والرجاء، وقلبه بين هذين الأمرين، فساعةَ يتذكر العقاب على المخالفة يقشعر جلده خوفاً، وساعة يتذكر رحمة ربه يلين جلده ويهدأ قلبه، ولِمَ لا وربه قد قال: {قُلْ يٰعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر: 53].

(ذلك) وهذا هو الذي يحدث للمؤمن {هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَآءُ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الزمر: 23] وقد وقف كثيرون عند هذه الآية يقولون: ما دام أن الله هو الذي يُضل فَلِمَ يُعذّب الضال؟ ومعنى {وَمَن يُضْلِلِ} يعني: يعلم ضلاله، ويعلم أنه لن يسمع كلامه ولن يتبع منهجه، وقد خلقه الله تعالى مختاراً إنْ شاء آمن وإنْ شاء كفر، إذن: فالكافر ما كفر غَصْباً عن الله، إنما هل رضي الله منه ذلك؟

وقوله: {فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} يعني: إياكم أنْ تستدركوا على الله بأحكام بشرية تُصنِّفها لكم عقول الذين يستنكفون أنْ يأخذوا عن الله، فما دام الله قال فلا يصح أنْ نستدركَ عليه سبحانه؛ لأنه لا يمكن أنْ نأتي بهدي أحسن من هُدَى الله.