في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَمِنۡ ءَايَٰتِهِ ٱلَّيۡلُ وَٱلنَّهَارُ وَٱلشَّمۡسُ وَٱلۡقَمَرُۚ لَا تَسۡجُدُواْ لِلشَّمۡسِ وَلَا لِلۡقَمَرِ وَٱسۡجُدُواْۤ لِلَّهِۤ ٱلَّذِي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمۡ إِيَّاهُ تَعۡبُدُونَ} (37)

37

( ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر . لا تسجدوا للشمس ولا للقمر . واسجدوا لله الذي خلقهن . إن كنتم إياه تعبدون ) . .

وهذه الآيات معروضة للأنظار ، يراها العالم والجاهل . ولها في القلب البشري روعة مباشرة . ولو لم يعلم الإنسان شيئاً عن حقيقتها العلمية . فبينها وبين الكائن البشري صلة أعمق من المعرفة العلمية . بينها وبينه هذا الاتصال في النشأة ، وفي الفطرة ، وفي التكوين . فهو منها وهي منه . تكوينه تكوينها ، ومادته مادتها ، وفطرته فطرتها ، وناموسه ناموسها ، وإلهه إلهها . . فهو من ثم يستقبلها بحسه العميق في هزة وإدراك مباشر لمنطقها العريق !

لهذا يكتفي القرآن غالبا بتوجيه القلب إليها ، وإيقاظه من غفلته عنها ، هذه الغفلة التي ترد عليه من طول الألفة تارة ، ومن تراكم الحواجز والموانع عليه تارة . فيجلوها القرآن عنه ، لينتفض جديداً حياً يقظاً يعاطف هذا الكون الصديق ، ويتجاوب معه بالمعرفة القديمة العميقة الجذور .

وصورة من صور الإنحراف تلك التي تشير إليها الآية هنا . فقد كان قوم يبالغون في الشعور بالشمس والقمر شعوراً منحرفاً ضالاً فيعبدونهما باسم التقرب إلى الله بعبادة أبهى خلائقه ! فجاء القرآن ليردهم عن هذا الانحراف ؛ ويزيل الغبش عن عقيدتهم المدخولة . ويقول لهم : إن كنتم تعبدون الله حقاً فلا تسجدوا للشمس والقمر . . ( واسجدوا لله الذي خلقهن )فالخالق هو وحده الذي يتوجه إليه المخلوقون أجمعين . والشمس والقمر مثلكم يتوجهون إلى خالقهما فتوجهوا معهم إلى الخالق الواحد الذي يستحق أن تعبدوه . ويعيد الضمير عليهما مؤنثاً مجموعاً : ( خلقهن )باعتبار جنسهما وأخواتهما من الكواكب والنجوم ؛ ويتحدث عنهن بضمير المؤنث العاقل ليخلع عليهن الحياة والعقل ، ويصورهن شخوصاً ذات أعيان !

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَمِنۡ ءَايَٰتِهِ ٱلَّيۡلُ وَٱلنَّهَارُ وَٱلشَّمۡسُ وَٱلۡقَمَرُۚ لَا تَسۡجُدُواْ لِلشَّمۡسِ وَلَا لِلۡقَمَرِ وَٱسۡجُدُواْۤ لِلَّهِۤ ٱلَّذِي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمۡ إِيَّاهُ تَعۡبُدُونَ} (37)

يقول تعالى منبها خلقه على قدرته العظيمة ، وأنه الذي لا نظير له وأنه على ما يشاء قادر ، { وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ } أي : أنه خلق الليل بظلامه ، والنهار بضيائه ، وهما متعاقبان لا يقران ، والشمس ونورها وإشراقها ، والقمر وضياءه وتقدير منازله في فلكه ، واختلاف سيره في سمائه ، ليُعرف باختلاف سيره وسير الشمس مقادير الليل والنهار ، والجمع والشهور والأعوام ، ويتبين بذلك حلول الحقوق ، وأوقات العبادات والمعاملات .

ثم لما كان الشمس والقمر أحسن الأجرام المشاهدة في العالم العلوي والسفلي ، نبه تعالى على أنهما مخلوقان عبدان من عبيده ، تحت قهره وتسخيره ، فقال : { لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ } أي : ولا تشركوا به فما تنفعكم عبادتكم له مع عبادتكم لغيره ، فإنه لا يغفر أن يشرك به ؛

37

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَمِنۡ ءَايَٰتِهِ ٱلَّيۡلُ وَٱلنَّهَارُ وَٱلشَّمۡسُ وَٱلۡقَمَرُۚ لَا تَسۡجُدُواْ لِلشَّمۡسِ وَلَا لِلۡقَمَرِ وَٱسۡجُدُواْۤ لِلَّهِۤ ٱلَّذِي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمۡ إِيَّاهُ تَعۡبُدُونَ} (37)

ثم عدد آياته لتعبر فيها من صدق عن التوحيد بذكر { الليل والنهار } ، وذكرهما يتضمن ما فيهما من القصر والطول والتداخل والاستواء في مواضع وسائر عبرهما ، وكذلك الشمس والقمر متضمن عجائبهما وحكمة الله فيهما ونفعه عباده بهما . ثم قال تعالى : { لا تسجدوا } لهذه المخلوقات وإن كانت تنفعكم ، لأن النفع منهما إنما هو بتسخير الله إياهما ، فهو الذي ينبغي أن يسجد له . والضمير في : { خلقهن } قالت فرقة : هو عائد على الأيام المتقدم ذكرها . وقالت فرقة : الضمير عائد على الشمس والقمر ، والاثنان جمع ، وجمع ما لا يعقل يؤنث ، فلذلك قال : { خلقهن } .

قال القاضي أبو محمد : ومن حيث يقال شموس وأقمار لاختلافهما بالأيام ، ساغ أن يعود الضمير مجموعاً .

وقالت فرقة : هو عائد على الأربعة المذكورة ، وشأن ضمير ما لا يعقل إذا كان العدد أقل من العشرة أن يجيء هكذا ، فإذا زاد أفرد مؤنثاً ، تقول الأجذاع انكسرن ، والجذوع انكسرت ، ومنه : { إن عدة الشهور }{[10083]} ، ومنه قول حسان بن ثابت :

وأسيافنا يقطرن من نجدة دما{[10084]}

وقال السموأل : [ الطويل ]

ولا عيب فينا غير أن سيوفنا . . . بها من قراع الدارعين فلول{[10085]}

وهذا كثير مهيع وإن كان الأمر يوجد متداخلاً بعضه على بعض .


[10083]:من الآية (36) من سورة (التوبة).
[10084]:البيت من قصيدته التي يفتخر فيها، والتي بدأها بقوله: (ألم تسأل الربع الجديد التكلما)؟ والمذكور هنا شطره الثاني، والبيت بتمامه: لنا الجفنات الغر يلمعن بالضحى وأسيافنا يقطرن من نجدة دما وهو بيت مشهور تكلم عنه كثير من النقاد قديما وحديثا، وأخذوا عليه الكثير، والجفنات: جمع جفنة وهي القصعة التي يوضع فيها الطعام، ويقطرن: يسيل منهم الدم، والشاهد أن (أسياف) جمع قلة، ولهذا أعاد الضمير عليها جمعا مؤنثا فقال: (يقطرن)، والنجدة: سرعة الإغاثة والشجاعة في القتال. يفخر بأنهم أهل كرم وشجاعة على عادة العرب في ذلك.
[10085]:اضطرب النساخ في كتابة هذا البيت في الأصول، ولعل السبب هو وجود تشابه كبير بينه وبين بيت آخر مشهور للنابغة الذبياني، أما بيت السموأل فهو: وأسيافنا في كل يوم كريهة بها من قراع الدارعين فلول ويوم الكريهة هو يوم القتال، والقراع: المضاربة بالسيوف، والدارعون: لابسوا الدروع في الحرب، والفلول: جمع فل، والفل: الثلم في السيف. وهو من قصيدة مشهورة قال عنها النقاد: إنها من أجمع قصائد الفخر التي جمعت ضروب الممادح، ولهذا فهي من أجود ما قيل في الفخر، وقد بدأها السموأل بن عادياء بقوله: إذا المرء لم يدنس من اللؤم عرضه فكل رداء يرتديه جميل والشاهد في البيت أن (سيوف) جمع كثرة ولهذا عاد الضمير عليها مفردا مؤنثا- وهذا على الرواية التي ذكرها ابن عطية والتي أثبتناها في موضعها من تفسيره مع أنها رواية غير صحيحة، والرواية الصحيحة التي ذكرناها في هذا الهامش ليس فيها شاهد، بل هي على عكس ما ذكر ابن عطية حيث عاد الضمير مفردا مؤنثا على جمع القلة وهو (أسياف) – فتأمل الفرق بين الروايتين. وأما بيت النابغة الذبياني فهو: ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب وهو من قصيدته المعروفة التي مدح بها عمرو بن الحارث الأصغر، والتي قال في مطلعها: كليني لهم يا أميمة ناصب وليل أقاسيه بطيء الكواكب وهو متداول في كتب النحو وكتب البلاغة، أما علماء النحو فأولهم سيبويه الذي جعل الاستثناء فيه منقطعا ولهذا نصبت (غير) لكنه جعل كالمتصل، وذلك لصحة دخول البدل في المبدل منه، وأما كتب البلاغة فقد أورده العلماء شاهدا في البديع على تأكيد المدح بما يشبه الذم، فإن الشاعر نفى العيب عن الممدوحين على جهة الاستغراق، ثم أثبت لهم عيبا هو تثلم سيوفهم من كثرة المضاربة بها في الحروب، وهذا في الحقيقة ليس بعيب، بل هو غاية المدح، وعلى هذا فالشاعر أكد المدح بما يشبه الذم، وهذا البيت في الديوان، والكتاب، والهمع، والكامل، وشرح شواهد المغني، ومعاهد التنصيص.
 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{وَمِنۡ ءَايَٰتِهِ ٱلَّيۡلُ وَٱلنَّهَارُ وَٱلشَّمۡسُ وَٱلۡقَمَرُۚ لَا تَسۡجُدُواْ لِلشَّمۡسِ وَلَا لِلۡقَمَرِ وَٱسۡجُدُواْۤ لِلَّهِۤ ٱلَّذِي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمۡ إِيَّاهُ تَعۡبُدُونَ} (37)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{ومن آياته} أن يعرف التوحيد بصنعه وإن لم تروه.

{الليل والنهار والشمس والقمر لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقهن} يعني الذي خلق هؤلاء الآيات.

{إن كنتم إياه تعبدون}، فسجد النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون يومئذ.

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره: ومن حجج الله تعالى على خلقه ودلالته على وحدانيته، وعظيم سلطانه، اختلاف الليل والنهار، ومعاقبة كلّ واحد منهما صاحبه، والشمس والقمر، لا الشمس تدرك القمر "وَلا اللّيْلُ سابِقُ النّهارِ وكُلّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ"، لا تسجدوا أيها الناس للشمس ولا للقمر، فإنهما وإن جريا في الفلك بمنافعكم، فإنما يجريان به لكم بإجراء الله إياهما لكم طائعين له في جريهما ومسيرهما، لا بأنهما يقدران بأنفسهما على سير وجري دون إجراء الله إياهما وتسييرهما، أو يستطيعان لكم نفعا أو ضرّا، وإنما الله مسخرهما لكم لمنافعكم ومصالحكم، فله فاسجدوا، وإياه فاعبدوا دونها، فإنه إن شاء طمس ضوءهما، فترككم حيارَى في ظلمة لا تهتدون سبيلاً، ولا تبصرون شيئا. وقيل: "وَاسْجُدُوا لِلّهِ الّذِي خَلَقَهُنّ"...

وقوله: "إنْ كُنْتُمْ إيّاهُ تَعْبُدُونَ "يقول: إن كنتم تعبدون الله، وتذلون له بالطاعة وإن من طاعته أن تخلصوا له العبادة، ولا تشركوا في طاعتكم إياه وعبادتكموه شيئا سواه، فإن العبادة لا تصلح لغيره ولا تنبغي لشيء سواه.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

... {وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنّ} يقول: إن كنتم إياه تقصدون بعبادة هذه الأشياء فاسجدوا له واعبدوا، لما أمركم بالسجود له والعبادة.

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

عدد آياته لتعبر فيها من صدق عن التوحيد بذكر {الليل والنهار}، وذكرهما يتضمن ما فيهما من القصر والطول والتداخل والاستواء في مواضع وسائر عبرهما، وكذلك الشمس والقمر متضمن عجائبهما وحكمة الله فيهما ونفعه عباده بهما.

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

اعلم أنه تعالى لما بين في الآية المتقدمة أن أحسن الأعمال والأقوال هو الدعوة إلى الله تعالى أردفه بذكر الدلائل الدالة على وجود الله وقدرته وحكمته، تنبيها على أن الدعوة إلى الله تعالى عبارة عن تقرير الدلائل الدالة على ذات الله وصفاته، فهذه تنبيهات شريفة مستفادة من تناسق هذه الآيات، فكان العلم بهذه اللطائف أحسن علوم القرآن، وقد عرفت أن الدلائل الدالة على هذه المطالب العالية هي العالم بجميع ما فيه من الأجزاء والأبعاض، فبدأ هاهنا بذكر الفلكيات وهي الليل والنهار، وإنما قدم ذكر الليل على ذكر النهار تنبيها على أن الظلمة عدم، والنور وجود، والعدم سابق على الوجود، فهذا كالتنبيه على حدوث هذه الأشياء.

ولما بين أن الشمس والقمر محدثان، وهما دليلان على وجود الإله القادر قال: {لا تسجدوا للشمس ولا للقمر} يعني أنهما عبدان دليلان على وجود الإله، والسجدة عبارة عن نهاية التعظيم فهي لا تليق إلا بمن كان أشرف الموجودات...

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

هذه الآيات معروضة للأنظار، يراها العالم والجاهل. ولها في القلب البشري روعة مباشرة. ولو لم يعلم الإنسان شيئاً عن حقيقتها العلمية. فبينها وبين الكائن البشري صلة أعمق من المعرفة العلمية بينها وبينه هذا الاتصال في النشأة، وفي الفطرة، وفي التكوين. فهو منها وهي منه. تكوينه تكوينها، ومادته مادتها، وفطرته فطرتها، وناموسه ناموسها، وإلهه إلهها.. فهو من ثم يستقبلها بحسه العميق في هزة وإدراك مباشر لمنطقها العريق!

لهذا يكتفي القرآن غالبا بتوجيه القلب إليها، وإيقاظه من غفلته عنها، هذه الغفلة التي ترد عليه من طول الألفة تارة، ومن تراكم الحواجز والموانع عليه تارة. فيجلوها القرآن عنه، لينتفض جديداً حياً يقظاً يعاطف هذا الكون الصديق، ويتجاوب معه بالمعرفة القديمة العميقة الجذور.

وصورة من صور الانحراف تلك التي تشير إليها الآية هنا. فقد كان قوم يبالغون في الشعور بالشمس والقمر شعوراً منحرفاً ضالاً فيعبدونهما باسم التقرب إلى الله بعبادة أبهى خلائقه! فجاء القرآن ليردهم عن هذا الانحراف؛ ويزيل الغبش عن عقيدتهم المدخولة. ويقول لهم: إن كنتم تعبدون الله حقاً فلا تسجدوا للشمس والقمر.. (واسجدوا لله الذي خلقهن) فالخالق هو وحده الذي يتوجه إليه المخلوقون أجمعين. والشمس والقمر مثلكم يتوجهون إلى خالقهما فتوجهوا معهم إلى الخالق الواحد الذي يستحق أن تعبدوه. ويعيد الضمير عليهما مؤنثاً مجموعاً: (خلقهن) باعتبار جنسهما وأخواتهما من الكواكب والنجوم؛ ويتحدث عنهن بضمير المؤنث العاقل ليخلع عليهن الحياة والعقل، ويصورهن شخوصاً ذات أعيان!

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

عطف على جملة {قُل أينَّكُم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين} عطف القصة على القصة فإن المقصود من ذكر خلق العوالم أنها دلائل على انفراد الله بالإِلهية، فلذلك أخبر هنا عن المذكورات في هذه الجملة بأنها من آيات الله، انتقالاً في أفانين الاستدلال؛ فإنه انتقال من الاستدلال بذواتٍ من مخلوقاته إلى الاستدلال بأحوال من أحوال تلك المخلوقات، فابتدىء ببعض الأحوال السماوية وهي حال الليل والنهار، وحال طلوع الشمس وطلوع القمر، ثم ذكر بعده بعض الأحوال الأرضية بقوله: {ومن ءاياته أنك ترى الأرض خاشعة} [فصلت: 39].

ويدل لهذا الانتقال أنه انتقل من أسلوب الغيبة من قوله: {فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة} إلى قوله: {ولا تستوي الحسنة ولا السيئة} إلى أسلوب خطابهم رجوعاً إلى خطابهم الذي في قوله: {أينكم لتكفرون بالذي خلق الأرض} [فصلت: 9].

والآيات: الدلائل، وإضافتها إلى ضمير الله لأنها دليل على وحدانيته وعلى وجوده.

واختلافُ الليل والنهار آية من آيات القدرة التي لا يفعلها غير الله تعالى، فلا جرم كانت دليلاً على انفراده بالصنع فهو منفرد بالإِلهية.

والمراد بالشمس والقمر ابتداءً هنا حركتُهما المنتظمة المستمرة، وأمّا خلقهما فقد علم من خلق السماوات والأرض كما تقدم آنفاً في قوله: {فقضاهن سبع سموات}، فإن الشمس إحدى السماوات السبع والقمر تابع للشمس، ولم يُذكر ما يدل على بعض أحوال الشمس والقمر مثل طلُوع أو غروبٍ أو فَلَك أو نحو ذلك ليَكون صالحاً للاستدلال بأحوالهما وهو المقصود الأول، ولخلقهما تأكيد لما استفيد من قوله: {فقضاهن سَبْعَ سموات} توفيراً للمعاني.

ولما جرى الاعتبار بالشمس والقمر، وكان في الناس أقوام عبدوا الشمس والقمر وهم الصابئة ومنبعهم من العراق من زمن إبراهيم عليه السلام، وقد قصَّ الله خبرَهم في سورة الأنعام (76) في قوله: {فلما جن عليه الليل رأى كوكباً قال هذا ربي} الآيات، ثم ظهر هذا الدين في سبأ، عبدوا الشمس كما قصه الله في سورة النمل. ولم أقف على أن العرب في زمن نزول القرآن كان منهم من يعبد الشمس والقمر، ويَظهر من كلام الزمخشري أنه لم يقف على ذلك لقوله هنا: (لعل ناساً منهم كانوا يسجدون للشمس والقمر) اهـ. ولكن وجود عبادة الشمس في اليمن أيام سبأ قبل أن يتهَوَّدُوا يقتضي بقاء آثاره من عبادة الشمس في بعض بلاد العرب. وقد ذكر من أصنام العرب صنم اسمه (شَمس) وبه سموا (عبدَ شمس)، وكذلك جعلهم من أسماء الشمس، وكان الصنم الذي اسمه شمس يَعبده بنو تميم وضبة وَتَيْم وعُكْل وأُدّ.

وكنت وقفت على أن بعض كنانة عبدوا القمر.

وفي « تلخيص التفسير» للكواشي: (وكان الناس يسجدون للشمس والقمر يزعمون أنهم يقصدون بذلك السجود للَّه كالصابئين فنهوا عن ذلك وأمروا أن يخصوه تعالى بالعبادة) وليس فيه أن هؤلاء الناس من العرب، على أن هدي القرآن لا يختص بالعرب بل شيوع دين الصابئة في البلاد المجاورة لهم كاف في التحذير من السجود للشمس والقمر. وقد كان العرب يحسبون دين الإسلام دين الصابئة فكانوا يقولون لمن أسلم: صَبَأَ، وكانوا يصفون النبي صلى الله عليه وسلم بالصابئ، فإذا لم يكن النهي في قوله: {لاَ تَسْجُدُوا للشَّمْسِ ولاَ للقَمَرِ} نهيَ إقلاع بالنسبة للذين يسجدون للشمس والقمر، فهو نهي تحذير لمن لم يسجد لهما أن لا يتبعوا من يعبدونهما.

ووقوع قوله: {واسْجُدُوا لله الذِي خَلَقَهُنَّ} بعد النهي عن السجود للشمس والقمر يفيد مفاد الحصر لأن النهي بمنزلة النفي، ووقوع الإِثبات بعده بمنزلة مقابلة النفي بالإِيجاب، فإنه بمنزلة النفي والاستثناء في إفادة الحصر، فكأنه قيل: لا تسجدوا إلا لله، أي دون الشمس والقمر.

فجملة {لا تَسْجدوا للشَّمس} إلى قوله: {تَعْبُدُونَ} معترضة بين جملة {وَمِن ءاياته الليَّلُ والنَّهَارُ}، وبين جملة {فَإنْ استَكْبَرُوا} [فصلت: 38].