وقد ثبت في الصحيحين{[8131]} عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن{[8132]} في الجنة مائة درجة ، أعدها الله للمجاهدين في سبيله ، ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض " .
وقال الأعمش ، عن عمرو بن مُرّة ، عن أبي عبيدة ، عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من بلغ بسهم فله أجره درجة " فقال رجل : يا رسول الله ، وما الدرجة ؟ فقال : " أما إنها ليست بعتبة أمك ، ما بين الدرجتين مائة عام " {[8133]} .
{ درجات منه ومغفرة ورحمة } كل واحد منها بدل من أجرا ، ويجوز أن ينتصب درجات على المصدر كقولك : ضربته أسواطا ، وأجرا على الحال عنها تقدمت عليها لأنها نكرة ، ومغفرة ورحمة على المصدر بإضمار فعليهما كرر تفضيل المجاهدين ، وبالغ فيه إجمالا وتفصيلا تعظيما للجهاد وترغيبا فيه . وقيل : الأول ما خولهم في الدنيا من الغنيمة والظفر وجميل الذكر ، والثاني ما جعل لهم في الآخرة . وقيل المراد بالدرجة الأولى ارتفاع منزلتهم عند الله سبحانه وتعالى ، وبالدرجات منازلهم في الجنة . وقيل القاعدون الأول هم الأضراء والقاعدون الثاني هم الذين أذن لهم في التخلف اكتفاء بغيرهم . وقيل المجاهدون الأولون من جاهد الكفار والآخرون من جاهد نفسه وعليه قوله عليه الصلاة والسلام " رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر " . { وكان الله غفورا } لما عسى أن يفرط منهم . { رحيما } بما وعد لهم .
وقال ابن محيريز : «الدرجات » هي درجات في الجنة ، سبعون ، ما بين الدرجتين حضر{[4223]} الفرس الجواد المضمر سبعين سنة ، وقال بهذا القول الطبري ورجحه ، وقال ابن زيد : «الدرجات » في الآية هي السبع المذكورات في سورة براءة ، فهي قوله تعالى : { ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله }{[4224]} الآيات فذكر فيها الموطىء الغائظ للكفار ، والنيل من العدو ، والنفقة الصغيرة والكبيرة ، وقطع الأودية والمسافات .
قال القاضي أبو محمد رحمه الله : ودرجات الجهاد لو حصرت أكثر من هذه ، لكن يجمعها بذل النفس والاعتمال بالبدن والمال في أن تكون كلمة الله هي العليا ، ولا شك أن بحسب مراتب الأعمال ودرجاتها تكون مراتب الجنة ودرجاتها ، فالأقوال كلها متقاربة ، وباقي الآية وعد كريم وتأنيس . ونصب { درجات } إما على البدل من الأجر ، وإما على إضمار فعل على أن تكون تأكيداً للأجر ، كما تقول : لك عليَّ ألف درهم عرفاً ، كأنك قلت أعرفها عرفاً .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{درجات منه}: فضائل من الله في الجنة، {ومغفرة} لذنوبهم، {ورحمة وكان الله غفورا رحيما}...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
{دَرَجاتٍ مِنْهُ}: فضائل منه ومنازل من منازل الكرامة.
واختلف أهل التأويل في معنى الدرجات التي قال جلّ ثناؤه {دَرَجاتٍ مِنْهُ}؛ فقال بعضهم: عن قتادة: {دَرَجاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَحَمَةً} كان يقال: الإسلام درجة، والهجرة في الإسلام درجة، والجهاد في الهجرة درجة، والقتل في الجهاد درجة.
وقال آخرون: [عن ابن زيد]: هي السبع التي ذكرها في سورة براءة: {ما كانَ لأهلِ المدينةِ ومَنْ حَوْلهمْ مِنَ الأعراب أنْ يتَخلّفُوا عنْ رسُولِ اللّهِ ولا يَرْغبُوا بأنفُسهِمْ عنْ نَفسِهِ ذلك بَأَنهمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمأٌ ولا نَصبٌ} فقرأ حتى بلغ: {أحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ}. قال هذه السبع الدرجات. قال: وكان أوّل شيء، فكانت درجة الجهاد مجملة، فكان الذي جاهد بماله له اسم في هذه، فلما جاءت هذه الدرجات بالتفضيل أخرج منها، فلم يكن له منها إلا النفقة. فقرأ: {لا يُصيبُهُمْ ظَمأٌ وَلا نَصَبٌ} وقال: ليس هذا لصاحب النفقة. ثم قرأ: {ولاَ يُنفِقُونَ نفقةً} قال: وهذه نفقة القاعد.
وقال آخرون: عُني بذلك درجات الجنة.
وأولى التأويلات بتأويل قوله¹ {دَرَجاتٍ مِنْه} أن يكون معنيّا به درجات الجنة، لأن قوله تعالى ذكره: {دَرَجاتٍ مِنْهُ} ترجمة وبيان عن قوله: {أجْرا عَظِيما}، ومعلوم أن الأجر إنما هو الثواب والجزاء، وإذا كان ذلك كذلك، وكانت الدرجات والمغفرة والرحمة ترجمة عنه، كان معلوما أن لا وجه لقول من وجه معنى قوله: {دَرَجاتٍ مِنْه} إلى الأعمال وزيادتها على أعمال القاعدين عن الجهاد كما قال قتادة وابن زيد. وإذا كان ذلك كذلك، وكان الصحيح من تأويل ذلك ما ذكرنا، فبيّن أن معنى الكلام: وفضل الله المجاهدين في سبيل الله على القاعدين من غير أولي الضرر أجرا عظيما وثوابا جزيلاً، وهو درجات أعطاهموها في الاَخرة من درجات الجنة، رفعهم بها على القاعدين بما أبلوا في ذات الله.
{وَمغفرةً}: وصفح لهم عن ذنوبهم، فتفضل عليهم بترك عقوبتهم عليها. {ورحمةً}: ورأفة بهم.
{وكانع اللّهُ غَفُورا رَحِيما}: ولم يزل الله غفورا لذنوب عباده المؤمنين، فيصفح لهم عن العقوبة عليها {رَحِيما} بهم، يتفضل عليهم بنعمه، مع خلافهم أمره ونهيه وركوبهم معاصيه.
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي 516 هـ :
أخبرنا أبو الحسن علي بن يوسف الجويني، أنا أبو محمد محمد بن علي بن محمد بن شريك الشافعي، أنا عبد الله بن مسلم أبو بكر الجورندي، أنا يونس بن عبد الأعلى، أنا ابن وهب، حدثني أبو هانئ الخولاني، عن أبي عبد الرحمن الجبلي، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"يا أبا سعيد، من رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد نبياً، وجبت له الجنة. قال فعجب لها أبو سعيد فقال: أعدها علي يا رسول الله؟ فأعادها عليه ثم قال: وأخرى يرفع الله بها العبد مائة درجة في الجنة، ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض، قال: وما هي يا رسول الله؟ قال: الجهاد في سبيل الله ثلاثا"...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
ودرجات الجهاد لو حصرت أكثر من هذه، لكن يجمعها بذل النفس والاعتمال بالبدن والمال في أن تكون كلمة الله هي العليا، ولا شك أن بحسب مراتب الأعمال ودرجاتها تكون مراتب الجنة ودرجاتها، فالأقوال كلها متقاربة، وباقي الآية وعد كريم وتأنيس...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان الإنسان لا يخلو عن زلل وإن اجتهد في العمل قال: {ومغفرة} أي محواً لذنوبهم بحيث أنها لا تذكر ولا يجازى عليها {ورحمة} أي كرامة ورفعة {وكان الله} أي المحيط بالأسماء الحسنى والصفات العلى {غفوراً رحيماً} أزلاً وأبداً، لم يتجدد له ما لم يكن...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{وكان الله غفورا رحيما} وكان شأن الله وصفته أنه غفور لمن يستحق المغفرة، رحيم بمن يتعرض لنفحات الرحمة، فهو ما فضلهم بذلك إلا بما اقتضته صفاته، وما هو شأنه في نفسه، فإذا لا بد من ذلك الأجر العظيم بأنواعه لا مرد له...
تفسير القرآن للمراغي 1371 هـ :
ودرجات الآخرة مبنية على درجات الدنيا من قوة الإيمان بالله وإيثار رضاه على الراحة والنعيم وترجيح المصلحة العامة على الشهوات الخاصة...
و المغفرة المقرونة بهذه الدرجات هي المغفرة لما يفرط منهم من الذنوب التي لا يكفرها سائر الحسنات التي يأتي بها القاعدون...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
ولما وعد المجاهدين بالمغفرة والرحمة الصادرَيْن عن اسميه الكريمين {الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} ختم هذا الآية بهما فقال: {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا}...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
...وجُمع {درجات} لإفادة تعظيم الدرجة لأنّ الجمع لما فيه من معنى الكثرة تستعار صيغته لمعنى القوّة،...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
وهذا الأجر مكون من عناصر ثلاثة:
أولها: أن الله تعالى يرفعه درجات، ويقربه إليه سبحانه منازل يوم القيامة، فيكون في مرتبة الصديقين والأنبياء والصالحين، إذ إن الشهداء الذين أخلصوا النية في جهادهم، والمجاهدين الذين تعرضوا لشرف الاستشهاد لهم المنازل العليا، والمقامات الكبرى. ونُكرت الدرجات لبيان أنها يحدها الحصر، ولا يعيِّنها المقدار، بل هي شرف عظيم لا يناله إلا المقربون الأبرار.
ثانيها: أن الله تعالى يغفر له ما تقدم من ذنبه، فإن الحسنات يذهبن السيئات، وأي حسنات أعظم من تقديم النفس والنفيس.
ثالثها: الرحمة تنزل بالمجاهد، فإنه يكون مغمورا برحمة الله تعالى في الدنيا والآخرة: ففي الدنيا براحة الضمير وأداء الواجب، والإحساس بأنه كان سببا للرحمة بالمؤمنين، إذ وقاهم شر العدو ومنعه من أن يتحكم فيهم، ودفع عنهم الفتنة في دينهم، وجعل الدين خالصا لوجهه الكريم، ومن الفساد في الأرض. وفي الآخرة بالثواب العظيم...
فسبحانه قد أعطى لأولى الضرر درجة، وفضل المجاهد في سبيل الله على القاعد من غير أولي الضرر درجات عدة. وساعة نسمع كلمة "درجة "فهي المنزلة، والمنزلة لا تكفي فقط للإيضاح الشامل للمعنى، ولكن هي المنزلة الارتقائية...
وقام العلماء بحصر تلك العطاءات الربانية بسبع درجات، فواحد ينال الدرجات جميعا. وآخر أصابه ظمأ فقط فنال درجة الظمأ، وآخر أصابه نصب فأخذ درجة النصب أي التعب، وثالث أصابته مخمصة، ورابع جمع ثلاث درجات، وخامس جمع كل الدرجات...
فمن نال الدرجات السبع فقد نال منزلة عظيمة، وكل مجاهد على حسب ما بذل من جهد...
[ثم إننا] نجد أن الله يرغب المؤمنين في أن يكونوا مجاهدين، وأن يبذلوا الجهد لتكون كلمة الله هي العليا. فإذا ما آمن الإنسان فليس له أن يتخلف عن الصف الإيماني؛ لأنه مادام قد نفع نفسه بالإيمان فلم لا ينضم إلى ركب من ينفع سواه بالإيمان؟...